السجالات، لا بل الصراعات، داخل الجسم القضائي اللبناني تجاوزت كل الحدود وبلغت حداً لم يكن يتصوره أحد. ما حصل لا يليق بالقضاء ولا يليق بلبنان، إذ يفترض بالقضاء أن يكون، بمواقفه وممارساته، مدرسة للبنانيين يستلهمون منها روح المعرفة وعظمة العدالة وكيفية التصرف في الأزمات.القضاء اللبناني محكوم بالقيم التي ينبني عليها هيكله وبالمبادئ التي تنطلق منها أحكامه، لذلك يتوقع اللبنانيون من مجلس القضاء الأعلى -وأشدد على عبارة «الأعلى»- ومن رئيسه بصورة خاصة، أن يبادر إلى رأب الصدع ووضع الخلافات في أطرها المعهودة وإعادة الأمور إلى طبيعتها.
فالقضاء الذي انتصب قوسه منذ آلاف السنين في بيروت لا يستطيع أن يتخلى عن مهمته السامية في إعلاء شأن العدالة وتكريس سلطة القانون حتى لو تمادت قوى وسلطات في تهميش القانون وركنه جانباً لصالح قلة لا تفهم الحكم إلا تسلطاً على البلاد وأهلها وأموالها.
القضاء مطلوب لذاته ولما يمثله من قيم ومدارك تتجاوز اللحظة والمرحلة. وهو مطلوب لدوره في صون الحقوق وفي مقدمها حقوق الفرد والجماعات والمجتمع الذي تعصف به رياح الانقسام وترتفع فيه «رايات» تخاطب العصبيات وتتطلع إلى كيانات ما قبل نشوء الدولة.
ثم من قال إن اللبنانيين يسكتون على شل القضاء -تحت عناوين مختلفة- في الوقت الذي يتطلعون فيه إلى متابعة التحقيق في جريمة العصر التي حطمت بيروت ومرفأها وصولاً إلى كشف الحقيقة واحترام العدالة وإنصاف الشهداء والجرحى وأهاليهم الموجودين داخل كل بيت ومنطقة من مناطق لبنان.
نعم لبنان بحاجة إلى القضاء ولا يمكن أن يستغني عنه أو التفريط به لصالح جهة من الجهات مهما بلغ نفوذها.
واللبنانيون الذين عضهم الجوع وانتهكت كراماتهم، من كبيرهم إلى صغيرهم، يوجعهم انكفاء القضاء وينتظرون منه المبادرة إلى اقتحام الأسلاك الشائكة والتصدي لحكام ومصرفيين عتاة احتقروا الحقوق وصادروا الأموال وقطعوا الأرزاق.
لبنان لا يستطيع أن يتخلى عن العدالة ومؤسساتها، إذ ماذا يبقى منه، ومن القضاء الذي طالما اعتز به، إذا استمر السجال داخل الشرنقة واستمرت الحال على ما هي عليه؟!

*كاتب وسياسي لبناني