هناك أخلاق مغلقة (والعبارة للفيلسوف هنري برغسون) يشترك بها جميع الناس، وهي تلك التي لا تطلب التعاطف والعدالة إلّا للناس الذين يشبهوني. هناك أساس تطوّري وظيفي، على الأرجح، لنشوء هكذا أخلاق عند الإنسان، ألا وهو ضرورة العصبيّة للحمة المجتمع، ونشوء التعاضد بين أفراده، واستمرار النوع البشريّ.وهناك أخلاق منفتحة، وهي تلك التي تطلب التعاطف والعدالة لكلّ إنسان، بل وللحيوان والطبيعة أيضاً. هذه دعا إليها الأنبياء، ولاحظها الفلاسفة ومنهم مَن دعا إليها بغضّ النظر عن موقفه من الله. لكن من الواضح أنّ طلب العدالة للحيوان وللطبيعة قد يكون مترافقاً مع أخلاق مغلقة، مع كراهية أو عنصريّة تجاه الآخرين، أو بالأقلّ مع لا مبالاة تجاه مصيرهم. هذا ميلٌ إنسانيّ لاحظه المحلّل النفسيّ كارل يونغ، ميلٌ إلى نزع صفة الإنسانيّة الكاملة عن الذين هم «في الخارج» واحتكار هذه الصفة للذين هم في «الداخل»، وكلّ جماعة تحدّد الداخل والخارج بالطريقة التي تراها.
هذه الأخلاق إذا استبدّت بالإنسان، تبدأ بـ«خارج» جدّ مختلف (العنصر الآخر، البلد الآخر، الثقافة الأخرى، الدين الآخر، الطائفة الأخرى) ثمّ تنزع إلى تقليص دائرة «الداخل». فإن بدأت بأنّ الخارج الأقلّ إنسانيّة، «العدوّ»، هو أولئك الذين من الدين الآخر، تنزع إلى الوصول بهذا التوصيف إلى أولئك المنتمين إلى الطائفة الأخرى، ثمّ تقلّصه إلى الطائفة نفسها لتقول بأنّ الآخرين الذين من نفس الطائفة ولا يقولون قول «جماعتنا» هم «الأعداء» الذين لا يستحقّون صفة الإنسانيّة الكاملة (فكّروا بالحروب الداخليّة في جميع طوائف لبنان). داخل الطوائف، النابعة من العقائد نفسها، يكون التهاب المشاعر في أوجه بين المختلفين، لأنّ وجود الآخر المختلف المنطلق من نفس العقائد هو دليل واضح أنّ موقف «جماعتنا» ليس حقيقة مطلقة، وذلك أنّ «جماعتهم» انطلقت من المنطلقات العقائديّة نفسها لتصل إلى استنتاجات مختلفة. المشاعر المتأجّجة نراها أيضاً في المختلفين من نفس العقيدة السياسيّة أو الفلسفيّة. قاع هذه الأخلاق المغلقة نراها عند من يمتلك القدرة العسكريّة إذ ينحو أن يقول إنّ مَن يختلف معي أنا، هو «العدوّ» الأقلّ إنسانيّة. طبعاً هناك كلام صريح يبخّس من إنسانيّة «الآخر» الذي في «الخارج»، ولكن معظم ما يُقال يأتي بتلميح غير مباشر من خلال صفات يُدمَغُ بها «الآخرون»: وسخون، كاذبون، منافقون، سارقون... لنصل إلى تشبـيههم صراحة بكائنات لا بشريّة: جرذان، حيّات، وحوش، حشرات، تستحقّ الإبادة من دون اعتبار لإنسانيّتها.
النضال من أجل دحر القوى السياسيّة والاقتصاديّة التي تدوس «لحمنا» في بلادنا، والنضال من أجل تحرّر «لحمنا» في فلسطين، نضالٌ واحدُ لا نضالان


لم يدعُ يسوع إلى أخلاق مغلقة، بل إلى أخلاق منفتحة، والدليل الدامغ كلامه في مثل السامري الشفوق الذي يجزم فيه بأنّ القريب هو المحتاج إلى مساعدتك، أي بأنّ القرابة بين البشر يصنعها الإنسان صُنعاً بتعاطفه الفاعل بالأعمال. للنبيّ إشعياء موقف متواز، فهو يضع على لسان الله كلاماً يعتبر فيه أنّ الصومَ المقبول عنده هو تحرير المسحوقين، وقطع كلّ قيد، ومشاركة الجياع، وكساء الفقراء، وإيواء التائهين، «وأن لا تتغاضى عن لحمك» (إشعياء ٥٨: ٧). الآخر المسحوق هو لحمي، هذا لبّ الأخلاق المنفتحة.
المسيحيّون والمسلمون مقبلون على شهر أو أكثر من الصوم، إن تنبّهنا إلى ما قاله إشعياء يغدو الصوم عن الطعام غير ذي معنى إن لم يترافق مع الوقوف إلى جانب «لحمنا» في بلادنا لإحقاق العدالة للمسحوقين الذين نهبتهم وأسَرَتْهم القوى الاقتصاديّة والسياسيّة، وإلى جانب «لحمنا» في فلسطين في نضالهم من أجل العدالة والتحرّر من آلة الاحتلال والتمييز العنصريّ الإسرائيليّة. لا معنى لإيمان لا يُعاش، وبالنسبة للإنسان وحياته، الله، والكلام عنه، لا معنى لهما ما لم يكونا منطلقاً لتجربة حياتيّة: لمشاعر وفكر وتصرّفات.
الفلسطينيّون لحمنا، إن لم نفهم هذا لم نعرف يسوع ولم نفهم الكتاب. لا أتكلّم عن القرابة الجسديّة ولا عن الأمّة ولا عن الوطن ولا عن القوم، أتكلّم عن المسحوقين يوميّاً تحت إرهاب الآلة العسكريّة اليوميّة للاحتلال ونظام الفصل العنصريّ الإسرائيليّ. إنّهم لحمنا. كلّ إنسان مسحوق هو لحمنا. لكنّ سكّان المعمورة البعيدين جغرافيّاً عن فلسطين، والذين يقصفهم الإعلام بالمنطق العنصريّ، معذورون إلى حدّ ما من عدم معرفتهم وعدم إعطائهم الأولويّة الكبرى لمصير الفلسطينيّين. أمّا نحن القريبون جغرافيّاً، وبغضّ النظر عن المصير المشترك، فجهلنا لأوضاع الفلسطينيّين غير معذور، وعدم إعطاء فلسطين أولويّة في حياتنا الإيمانيّة غير معذور، ولا نحن معذورون إن قصّرنا في إظهار حقيقة أوضاع الفلسطينيّين في المجتمعات التي نعيش فيها، أكان ذلك في أرضنا الأمّ أم أرض المهجر. ويجب أن تؤرّقنا كلمات يسوع «لو لم أكن جئت وكلّمتكم لما كانت عليكم خطيئة، وأمّا الآن فليس لكم عذرٌ في خطيئتكم» وكذلك «لو كنتم لا تبصرون لما كانت عليكم خطيئة، ولكنّكم تقولون: إنّنا نبصر، فخطيئتكم باقية».
النضال من أجل دحر القوى السياسيّة والاقتصاديّة التي تدوس «لحمنا» في بلادنا، والنضال من أجل تحرّر «لحمنا» في فلسطين، نضالٌ واحدُ لا نضالان. هو نضالُ الأخلاق المنفتحة من أجل وحدة عائلة بشريّة تحيا في العدالة والحقّ، وتحقيقٌ لصوم مقبول أمام وجه الله. ما عدا ذلك نفاق في نفاق، وتقوقعٌ في الأخلاق المغلقة المدمّرة، عاجلاً أم آجلاً.

* كاتب وأستاذ جامعي