يظهر بوضوح أن ثمّة أطراف دولية تزج بالسعودية في أتون أعباء تنوء بحملها قوى إقليمية ودولية كبرى. وهي أعباء كفيلة بالمحصلة لتحوّل السعودية إلى محرقة كما سوريا والعراق وليبيا واليمن. فكل عوامل التفجير قائمة، وربما هي فقط بانتظار رفع اليد عن الكابح الدولي الذي بات يتلاعب بمصير المنطقة في ميدان التفاصيل، بعد أن اجتاز مرحلة التداعيات الكليّة.
إن المتابع لتركيبة الحكم في السعودية، وطبيعة الشخصيات الحاكمة، ومستواها الثقافي والعلمي، وطبيعة هيئة الإفتاء القريبة منها، والعقل البدوي السائد، في ظل خريطة الاهتمامات السطحية، ومستوى الجمود الحضاري رغم الغنى المادي، يؤكد استحالة قيام أي تغيّرات جوهرية من داخل المؤسسة الحاكمة.
لا يمكن النظر لتطورات الموقف السعودي في ضوء تغيرات الشخصيات الحاكمة، بعد وفاة الملك عبد الله، وتملّك سلمان، فالسياسة السعودية هي ذاتها من حيث الوجهة العامة، منذ عقود خلت. وهي ذاتها منذ اندلع الربيع العربي، سواء في مرحلته الأولى، عندما استقبلت السعودية أول الساقطين، الزعيم التونسي بن علي، أو دورها في تغيير شخوص الحكم في اليمن من صالح إلى نائبه هادي، أو دعمها الشامل للمحرقة في ليبيا وسوريا، واحتلالها العسكريّ المباشر للبحرين. وهو الدور ذاته الذي لعبته في مرحلة الربيع العربي الثانية، عندما دعمت الانقلاب في مصر، وغزت اليمن، ووقفت ضد الحل السياسي في سوريا، وأعدمت الشيخ النمر، وقطعت علاقتها مع إيران، رغم تجاوز إيران لتبعات واقعة منى في الحج، واختفاء بعض مسؤوليها هناك.
كل المراجعات السابقة للمواقف السياسية السعودية، أكدت أن السعودية كانت تنفذ مشاريع أميركية، ففي أفغانستان الثمانينيات دعمت «الجهاد الأفغاني» ضد روسيا، وتبيّن بوضوح طبيعة المشروع الأميركي في ذلك، وهو ما ظهر عندما أدارت السعودية ظهرها لـ«الجهاد الأفغاني» في نسخته الطالبانية، وقد اختار المواجهة مع الأميركي.
ولا يخفى على العامة فضلاً عن المتابعين، طبيعة الموقف السعودي تجاه الصراع العربي ــ الإسرائيلي، والتزام السعودية الحرفي بالأجندة الأميركية، خاصة ما اتصل بالموقف ضد المقاومة الفلسطينية واللبنانية، واعتبارهما قوى مغامرة بحق الشعب الفلسطيني، مع أن السياسة السعودية انقلبت ضد رمز المشروع السياسي الفلسطيني ياسر عرفات، حينما اختار الأخير رفض المزيد من التنازلات، وتحصّن في المقاطعة حتى قتلوه بالسم.
وشكّلت السياسة السعودية موطئ قدم صريح للتغوّل الأميركي في قضايا العالم الإسلامي كافة، خاصة عندما بلغت الذروة باحتلال العراق، وهو ما دفع السياسة الأميركية لتغيير طبيعة خططها تجاه المنطقة، بعد فشلها العسكري في العراق وأفغانستان، ومن قبلهما في لبنان والصومال، بحيث تحوّلت السياسة الأميركية لتنفيذ خطط استوحتها من مفاهيم مفكريها في صناعة العدو، والفوضى الخلّاقة، على خلفيّة تداعيات هجمات 11 أيلول.
التوغل في اليمن، أكثر المخاطر التي تهدد الكيان السعودي

وكانت السياسة الاقتصادية للسعودية مثار انتقاد كثير من الدول الناهضة في وجه السياسات الاقتصادية الغربية، بحيث ظلّت تربط مساراتها الاقتصادية وخاصة النفطية منها، بالتوجهات الأميركية في مقارعة واحتواء النهوض الآسيوي الاقتصادي، بما جعل السعودية مجرد أداة طيّعة في يد السيد الأميركي، رغم الخسائر الباهظة التي كانت ترتد على اقتصادها، وهو ما ظهر في الموازنة الأخيرة، وقد بلغ مجموع العجز فيها حوالى 87 مليار دولار.
وفي الوقت الذي تماهت فيه السعودية مع السياسة الأميركية تجاه الربيع العربي وتحوّلاته، فإنها وقعت في تناقضات حادّة، لا يمكن تفسيرها إلّا في ضوء طبيعتها كمنفذ للتعليمات. ففي الوقت الذي استقبلت فيه أول زعماء الربيع سقوطاً، فإنها كانت أول جهة يزورها أول رئيس لمصر بعد الثورة، حيث قدّم لها الولاء الديني، خاصة أنه مرشح تيار ديني، ولكنها انقلبت عليه وقد دفعت مليارات كثيرة للعسكريين الذين أطاحوا به، وأغرقوا القاهرة بالدماء، وفي الوقت الذي حرّم فيه مشايخها مبدأ التظاهر أو الخروج ضد الحاكم، فإنهم وقفوا بقوة مدهشة مع الثورة على النظام السوري، وأطلقوا العنان لمؤسساتهم الإعلامية والرسمية والدينية للتركيز على الجوانب المذهبية، باعتبار السعودية الدرع الحامي لـ«الكيان السنّي» في وجه «الهلال الشيعي».
أخذت السياسة السعودية منحى تطرفياً لافتاً بعد الاتفاق العالمي مع إيران حول برنامجها النووي، وتسارعت التطورات، وكان آخرها إعدام الشيخ النمر. وذلك رغم أنّ جميع العمليات الإرهابية في السعودية وقفت خلفها تنظيمات تنحدر من أصول وهابية، كما لم يصدر من أهالي المنطقة الشرقية أي إشارة عملية ضد الحكم السعودي، حتى بعد تفجير «داعش» لمساجد في قراهم.
وجاء التدخل العسكري المباشر في اليمن، وغير المباشر في سوريا، ليضع السعودية في وضع يمكنها احتماله مؤقتاً، فيما سيضعها عامل الزمن أمام تحديات لا تقوى عليها دولة تعيش على مستوى رفاهية عال، مع غياب لأي استراتيجية اقتصادية، في ظل انعدام أي شراكة معها على مستوى «العالم السنّي»، رغم ما قيل عن تحالف مع تركيا، ومحاولة التحالف مع باكستان... وكليهما يأخذان من السعودية من دون أن يقدما لها شيئاً إلّا بضع كلمات تخلو من مضمون واقعي، وهو مضمون رأيناه من دول هامشية مثل البحرين وجيبوتي عندما شاركا السعودية في الموقف الدبلوماسي مع إيران، أو من دولة معوزة مثل السودان ليس لها أي ثقل سياسي في المنطقة.
انغمست السعودية في الوحل السوري عبر دعمها اللامحدود لقوى عسكرية عديدة، لدرجة أنها أعدمت النمر ربما كردّ فعل على اغتيال رجلها في سوريا زهران علّوش، بما يشير إلى استعدادها تعريض تركيبتها الداخلية الحسّاسة للخطر، تبعاً لتداعيات الحدث السوري. ولا يخفى على متابع أن شظايا الانفعال الإعلامي السعودي ضد سوريا، سترتد يوماً على الداخل السعودي، كما ارتدت بعد الثمانينيات حينما عاد «المجاهدون» السعوديون من ميدان أفغانستان، للسعودية وقد تقولبوا في تنظيمات تؤمن بكفر العائلة الحاكمة، وقد استخدموا خبراتهم العسكرية في الداخل ضد الأمن السعودي، وهو ما تستهله «داعش» هذه الأيام بعمليات إجرامية ضد المساجد كما ضد الأمن السعودي، كان أحدها تفجير مسجد القوات الخاصة في أبها، واغتيال «داعشي» لخاله العقيد في الشرطة.
اغترت السعودية بمكانتها الدينية لما يمثله ركن الحج من أهمية إسلامية، كما اغترت بقدراتها المالية، وتناست أن هذين العاملين لن يصمدا طويلاً في ظل ما يتعرضان له من استنزاف. ويظهر عجز العامل الديني بعد الفشل الدائم في حماية الحجيج بعد فاجعة منى، في ظل انقياد المؤسسة الدينية لتبعات الفكر الوهابي المغلق دون أطياف التسنن الفاعلة، بحيث أنه يعاديها جميعاً، بما فيها حركة الإخوان المسلمين، رغم ما يتملكها من استعداد دائم للتماهي مع السعودية سياسياً وعقدياً، حينما أعلن الرئيس محمد مرسي استعداده للتخندق مع السعودية.
ويبقى التوغل في الشأن اليمني المباشر، أكثر المخاطر التي تتهدد الكيان السعودي، فاليمن تاريخ عريق، وجغرافيا قاسية ملاصقة للجغرافية السعودية كما لتاريخها، إذ لا مفر من تبعات حربها المجنونة على اليمن منذ أشهر طويلة، في مواجهة استعصاء يمني طبيعي وغير مفاجئ، وهو استعصاء قادر مع الوقت أن يبتلع الاندفاع السعودي. فاليمني مطبوع على حياة الشظف والجبل... ولن تجابه الطائرة المضطرة للهبوط في النهاية شيئاً بالجبل الشامخ في عنان السماء أبد الدهر.
إن المخاطر الأربعة التي وضعت السعودية نفسها فيها عبر سياستها الموجهة دولياً، بهدف تجسيد الفوضى الأميركية الخلّاقة في الشرق الأوسط الجديد، ستخنق السعودية آجلاً إن لم يكن عاجلاً، فسوريا كانت زلّة القدم، واليمن على الأبواب، وأبناء المنطقة الشرقية في هدوء لن يدوم في ظل تفاقم القمع، كما غلاة الفكر الوهابي يحلمون بإنهاء التقاسم الوظيفي مع العائلة الحاكمة، ولن يجدوا أفضل من «داعش» لتجسيد هذا الحلم حقيقة.
* باحث فلسطيني