كل من لا كرامة لديه، لا بد من أن ينتابه الغضب ويشعر بالرغبة في العدوان عند سماع هذه المفردة: الكرامة. هم يقولون إن الكرامة مجرد شعار عندما تكون الحياة هي الثمن... هذا ليس مجرد رأي يجهرون به، وإنما قناعة وربما يقين يتملكهم. بالنسبة لهم لا يصح أن توضع الكرامة في كفة، والحياة في كفة أخرى موازية. إنهم بشر ربطوا الحياة بالمذلة، فأصبح الاثنان - الحياة والمذلة - مترادفين بالنسبة إليهم.
ولا عجب أن تجد أن هذه الحالة قد ورد ذكرها في القرآن الكريم، في لفتة تكمن قوتها في مدى قدرتها على إحداث الصدمة: «ولتجدنهم أحرص الناس على حياة»... لاحظ هنا أن لفظة حياة لم تسبقها «ال» التعريف!
الذلة لا علاقة لها بالخوف كما قد يتبادر إلى الأذهان. الذلة فلسفة يتربى عليها البعض. هي قناعات عقلية ونهج سلوكي يفرزهما وجدان مريض وفطرة منتكسة... ومرتكسة.
هم يوجهون دوماً أسئلتهم للضحية التي رفضت القبول بالذل: «ما المانع من أن تحافظ على رأسك فوق كتفيك حتى ولو وضعوا أحذيتهم فوقه؟! من أنت حتى تقاوم من يمتلك قوة جبارة؟! لماذا تضع رأسك برأسه؟! لماذا لا تصغي إلى صوت العقل وتستسلم له حقناً للدماء؟!».
المسألة لا علاقة لها بالأمانة أو الخيانة. المسألة هنا تنحصر في صراع بين فلسفتين في الحياة: فلسفة العزة وفلسفة الذلة. فلسفة الكرامة وفلسفة الخضوع. هذا هو الإطار الذي يجب أن نشاهد الصورة من خلاله.
كل الأنبياء والمصلحين ورموز الحق والخير في التاريخ، كانوا يسعون إلى الثورة على الثقافة التي تمجد القوة وتمنحها كل المبررات لفرض منطقها. هذه الفلسفة التي تعبد القوة هي حجر الزاوية في ثقافة العبيد. في المقابل هناك فلسفة أخرى نقيضة لا تفصل بين الحياة والكرامة، إنها ترى أن الحياة تفقد معناها وجدواها في ظل افتقارها للكرامة... وهذه هي ثقافة الأحرار.
المواجهة منذ بدء الخليقة ما زالت مستمرة، وستستمر بين الفلسفتين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. الخلاف في الأصل خلاف مبدئي، لا مكان فيه للحلول الوسط وليس به مجال للمساومة أو حتى التفاوض. إما أن تكون كريماً وإما أن تكون لئيماً... إما أن تكون حراً وإما أن تكون عبداً. لا يمكن أن تكون حراً في النهار وتتحوّل إلى عبد في الليل، لتعود حراً مع مطلع الفجر! المسألة هنا مفصلية، هناك خيار واحد لكل إنسان من بين الخيارين المذكورين. حذف إجابتين أو الاستعانة بصديق على طريقة برنامج من سيربح المليون، ليس مطروحاً هنا. في هذه المسألة ليس هناك خيار ثالث، وليس هناك مكان للوقوف في المنتصف. ذلك أن المسافة بين الخيارين لا تحتوي على منطقة وسطى.
ولأن الخيارين لا توسط بينهما، فإن من الطبيعي أن تجد العبيد يشعرون بأقصى مشاعر الكراهية تجاه الأحرار... وكل من يلوم العبيد على مخزون الكراهية الذي يكنونه للأحرار، يظلمهم، فالكراهية هنا ليست مسألة اختيارية، ولا يمكن أن تكون.
عبادة القوة هي كلمة السر في فهم التركيبة النفسية المنحطة التي تؤمن بفلسفة الذلة وتسعى للترويج لها... إنها تخشى من أن تختل المعادلة. فكلما أنجبت الأرض مزيداً من الأحرار، فإن العبيد سيخسرون بعض مواقعهم. وكلما هربت كلمة حرة لتستقر في ضمير تواق للحق، فإن العبيد سيشعرون بالتهديد والخطر.
المسألة لا علاقة لها بالإيديولوجيات. الشيوعي الفييتنامي الذي واجه أكبر آلة قتل في العالم، كان حراً على الرغم من إيمانه بديكتاتورية البروليتاريا. والليبرالي العربي - أتحدث عن أدعياء الليبرالية - الذي تدثر بشعارات الليبرالية عن الحرية، كان عبداً لإرادة جورج بوش عندما شنّ حروبه على أبناء جلدته. وها هو الآن يعلن عبوديته لنتنياهو، رغم ادعائه بقداسة الفرد بوصفه قيمة في حد ذاته!
الاختلافات الفكرية في هذه المسائل تظل ثانوية، فالفكر لا علاقة له عندما يتعلق الأمر بخياري الحرية والعبودية. الفكر هنا لا يصنع القرار. الفكر هنا يُستخدم ولا يستخدم.
كل العبيد الآن يصلون كي تلحق الهزيمة بالمقاومة. قانون العبودية لا يحتمل أن تُهزم القوة الغاشمة العظيمة على يد حق شبه أعزل .
المعركة الرئيسة في غزة اليوم، ليست عسكرية بل هي معركة خيارات وثقافات ونظام يصر العبيد على أن يستمر في تسيير العالم: الخضوع للقوة.
لا مناص من اختيار لواء تقف وراءه، إما الحق وإما القوة. فالمواجهة اليوم كما كانت دائماً، مواجهة بين الكرامة والذلة.
* كاتب سعودي