الدكتاتور يعرفُ ما يُريدُ ويُخيطُ الطريق إلى أهدافه. يُهيمنُ على المجتمع بتطويع مؤسساتهِ، فيضع اليد على الأحزاب والمنظمات وينشئ تنظيماته القومية والشبيبية وشبه العسكرية وميليشياته ذات التنظيم العلني والسري، داخل مؤسسات الدولة وفوقها في غرف القيادة، وحولها بأدوات التحكّم. وللدكتاتور حزبُهُ، ولهُ كتابات (قد تُكتب لهُ) وخطابات صارمة دون ارتباك، وخطاباتٌ مفهومة لقرارات لا تُردّ. وللدكتاتورية أدبيات فاشية ونصوص تُحفظ وأناشيدٌ تُرتّل. وللدكتاتور خُطط. دكتاتورنا هذا نُسخةٌ فريدة. جاء وحدهُ بلا كتابٍ ولا حزب وبلا فكرةِ واضحة. جيشهُ بلا قادة أركانٍ، من شاء فليُعلن أنهُ «الوزير الأكبر» والمقرّب والمُستشار الأول. ومن شاء أوّلَ ما قال «الرئيس» وأصدر «الفرمان» لجمهور لا يملكُهُ أحد ليُنفّذ أحكاماً خارج القانون ويكيل التهم باسم «الشعب».
لقد تبيّن اليوم لمن كان مُتردّداً أنّ قيس سعيّد ذاهبٌ إلى التأسيس الدكتاتوريّ في دولةٍ بدأت منذ عقدٍ تؤسّس لنظامٍ ديموقراطيّ. فرغم العثرات الكثيرة ومحاولات الالتفاف المُتعدّدة لم تبرح تُونس مساحة التجريب الديموقراطي. أن تكون في ديموقراطية مُرتبكة خير من دكتاتوريّة، والأسوأ أن تكون دكتاتورية عبثية تهدمُ ولا تؤسس، وتذهبُ إلى المجهول بلا وجهة.
الدكتاتور المُخطِّط يعملُ على أن يُظهرَ أنّ الجميعَ معهُ. يستميلُ ويُجبرُ ويُخيفُ ويُبهرُ الجمهور أو يجعلُهُ يذعن. أمّا أن تفتحَ الجبهات بلا أُفقٍ لحسمِ معركة واحدةٍ فهذا ما لا عهدَ لنا به. فتُفتحُ في آنٍ جبهات ضدّ الأحزاب والجمعيات والصحافة والقضاء والنقابات، وتعلنَ أنهم «خونة» فهو أمرٌ لا يُصدّق. بل وتُفتحُ جبهةٌ ضدّ الخارج، سفارات معنيّة بالمؤامرة ودولٌ معنية بالمُشاركة والتدخل، وقوى بعضها علمناه وأكثرها لم نتبيّنهُ. يقول الرئيسُ إنها تستهدفه ومشروعهُ، وتستهدفُ «إرادة الشعب» التي هي في وعيه وحده، وبتأويل «جوقة» تُحاول الإيهام بمشروع بتصوير الباطل حقّاً وبعض الحقّ تشرّع لهُ فعلاً باطلاً. يقول كلاماً كثيراً بلا دليل، يتردّدُ على أفواه لا مسؤولية لها في الدولة، فيكون صدى كلّهُ كُرهٌ وعنفٌ وحقد. وتصمت المؤسسات الرسمية وكأنها تتلذّذ الفوضى.
■ ■ ■

تبدو هذه الدكتاتورية الجديدة آيلة إلى زوال قريب، حيث لا تعوّل على التنظيم بل على أفراد كثيرٌ منهم «طبّلوا» لأكثر من حزب ومن زعيم منذ عهد دكتاتورية الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، ومنهم من لم يُساند قيس سعيّد مُرشحاً للرئاسة لكنهم يدعمون اليومَ «خياراته»، إمّا لتصفية خصومهم/ خصومه السياسيين وإمّا لانتهازيتهم أو لالتقاء مؤقّت مع الرئيس، وهؤلاء لا يُؤتمنون. قد يكون لبعضهم حُسنُ نيات، ولكن كأنّما على أعيُنهم غشاوة.
أمّا الجمهورُ المنفعلُ فهو جسمٌ مُتحرك لا يمكن ضبطُهُ. قد تُثيرهُ «الفرجة المُحاسبتية» إلى حين، لكنّهُ قد يملّ ويذهب في أيّ اتجاه آخر، وخاصّة لعلاقته الزبونية بالدولة، والتي تمثلها السلطة الحالية، ففي حال عجزت عن تلبية حاجياته الاجتماعية والاقتصادية فإنّه لن يستمرّ في الفُرجة و«التشفي» من ممثلي «المنظومة» السابقة الذين وُضعوا في السجون (أو الذين سيلتحقون) وسيعتبرون أن الأمر لا يعنيهم كثيراً. وليس بالضرورة أن يلتحقوا بالمعارضة، وإن التحق بعضهم، فإن الأغلبية ستطالب بخُبزها ضدّاً للجميع.
هذه الأغلبية هي نفسها التي لم تخرج إلى مكاتب الاقتراع في أكثر من مناسبة. والصحيح أنها لم «تقاطع» استشارة قيس سعيد ولا استفتاءه ولا انتخاباته، ولا هي استجابت لدعوات المُعارضة، لكنّها «عزفت» عن ذلك وأعرضت عن المسار الذي مضى فيه وحدهُ كاتباً للدستور وواضعاً للقوانين وضابطاً لشروط اللعبة، والعزوف غير المُقاطعة يا أولي الألباب.
خرج جمهور ذات يوليو ففوضوهُ وانصرفوا إلى شؤونهم معنيين فقط بالخروج من الفشل، ولن يرضوا بأن يذهبوا إلى العبث. ومن العبث أن تُراهن على جمهور يتحسّس الخيارات، ويُحلّل نشرة الأنباء كما مُقابلات كُرة القدم.
قيس سعيّد لم يكسب جمهوراً كبيراً بما فعلَ. كان ثمة جمهور كبير ينتظر، منذ عقود، أن يُشفي أحدٌ غليلهُ بالمحاسبة (وبأي شكلٍ) ضدّ المنظومة بكل مكوناتها. جمهورٌ يستمتع بأخبار الإيقافات، إلى أن يجوع.
■ ■ ■

الدكتاتور هو الذي يطوّع القضاء ولا يكتفي بأن يُخيف بعض القضاة. وهو يجعل أغلب الأحزاب تجلس إليه وتعلن الولاء، لا أن تجتمع ضده وتُناصبهُ العداء. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجمعيات والنقابات التي يدفعها الدكتاتور المُحترف إلى أن تُصدر البيانات المؤيدة وتعقد اجتماعات «التصفيق» الطويلة والخطابات التي تمجد «الزعيم». لا أن تخرج ضدّهُ متظاهرة، وتُصدر البيانات المُنتقدة.
يستعمل سعيّد القوى الصلبة وحدها، لكن القوى الأمنية والعسكرية يمكن أن تنضبط لـ«المُنتخب» وتنفذ الأوامر لكنها لا تملكُ سلطة حقيقية على المجتمع ولا تتمكن من إرضاخه، فقط يمكنها قمعه، وهذا أمرٌ لا يدوم. كما أنها قوى لها أجهزةٌ تُحسنُ المراقبة وتحلّل الأحداث وتقدّرُ المسارات، ولن تذهب في كلّ الأحوال إلى آخر الهاوية. أمّا وصاحبنا قد جاء من وراء ظهر الدولة، ولم يُحاول أن يفهم اشتغالها فلن يمتلك الوعي بهذه الأمور، وانه يُسرعُ بالبلد إلى المجهول.
■ ■ ■

يعرفُ الدكتاتور كيفَ يفتعل الأزمات، وكيف يصنعُ عدوّاً ليوحّد الجمهور حولهُ. يقول قيس سعيّد في خطاباته، واصفاً أعداءه «الذين يعرفهم الجميع» لكنّه لا يُفصحُ عنهم، فلا تعلمُ من يحتكر السلع ومن يتآمرُ على أمن الدولة ومن يهدّد سلمها. صحيح أن السلطات اعتقلت أخيراً عدداً من المحامين ورجال الأعمال والسياسيين والإعلاميّين بهذه التهم، ولكن لا يمكن أن نفهم الرابط بينهم، ولا أصل الحكاية وفصلها. إنّه يُخيطُ الحكايات تماماً كما يتكلّم، فهو يُعجمُ حيث يتوهّمُ أنه يُعرب.
■ ■ ■

وعادة ما يخرجُ جمهورُ الدكتاتور إلى الشوارع ويذهبُ مُعارضوه إلى السريّة، أمّا أن يتخفّى المُساندون خلف شاشات الحواسيب فهذا عيبٌ في عُرف الدكتاتوريات. فقط أُطلقت اليدُ لتنهش لحمَ الأفارقة جنوب الصحراء وتسحلهم في الشوارع بتحريض من الدولة، حتى أصبح البلدُ عار أفريقيا.
إنها دكتاتورية وفاشية أيضاً!
بالنهاية، هذا نظامُ «التوجّه الدكتاتوري» لأنّ القوانين التي توضعُ رئاسوية كليانية، ولأنّ الخطاب رافض للسلم الاجتماعي يجنحُ إلى تجريم الحقوق والحريات، ولأنّ القبضة الأمنيّة وتوظيف القضاء أسلوبه الوحيد.
■ ■ ■

وللأمانة، فإنّ من سبق قيس سعيّد في الحُكم، وخاصّة حركة النهضة الإسلامية التي هيمنت على العقد الأخير، أضاعوا الفرص لتأمين الدولة والمجتمع من الرجوع إلى الدكتاتورية. كانوا يريدون مؤسسات هشة حتى يتمكنوا، فتركوها مباحة لأوّل قادم بسوء الأفعال حتى ولو كان في سريرته بعض النيات الحسنة.
لقد حاولوا رسكلة النظام القديم، وتوهّموا أنهم سيطروا، حتى أصبح شيخهم صاحب القول الفصل وإمام الدولة. فكانت تونس دولة مدنيّة يُحدّد مصيرها «مجلس شورى»! فلا مدنيّة بمعادلات إسلاموية، وبولاءات خارجية فوق مصالح الشعب.
■ ■ ■

سبق عبثُ سعيّد فشلُ حكم الغنوشي.
أمّا هذه الدكتاتورية فإنها مُرتجلة وهشّة، لن تدوم... لكن أثرها سيكون أطول من عُمرها.

* كاتب تونسي