اتسم مسار الحزب الشيوعي اللبناني، في العقدين الأخيرين خصوصاً، بضآلة وضحالة مساهماته النظرية ومبادراته السياسية. فاقم من ذلك تجاهل القيادة التي تكرّر انتخابُها في المؤتمر الـ12 (الربيع الماضي)، للمقاربة النظرية التحررية التي أقرها ذلك المؤتمر. وهي مقاربة يعود جذرها الفكري إلى «المؤتمر الثاني» التاريخي لعام 1968 الذي أسّس لدور الحزب المبادر في المقاومة ضد العدو الصهيوني. كذلك يعود إلى المفاهيم التي شكّلت العمارة النظرية للشهيد الكبير المفكر «مهدي عامل». إلى ذلك، وبسبب ضخامة الأزمة التي تعصف بلبنان وفداحة أضرارها ومخاطرها، فإن نقاشاً سياسياً يفرض نفسه، خصوصاً في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، يتناول، بالنقد، النهج السياسي الذي تعتمده قيادة الحزب. هنا تناول نقدي جديد واقتراح بديل للنهج المعتمد:
أزمة لبنان إلى تفاقم متواصل، وعلى كل الأصعدة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى أمنياً. والدولة اللبنانية معرّضة، بفعل حدّة هذه الأزمة، للانتقال من الشلل إلى التحلّل. لكلّ هذا المسار الانهياري أسبابٌ موضوعية وذاتية. موضوعية تتعلّق بالتطورات الدولية والإقليمية، وذاتية ترتبط بطبيعة وبنية نظامه السياسي الطائفي الفاشل والمولّد للانقسام والصراعات والتبعية، وبفساد الشبكة البورجوازية المافياوية المتسلطة، خصوصاً، منذ اتفاقية «الطائف» حتى اليوم.
1-يقف في خلفية التطور الراهن من الأزمة الكبيرة التي تعصف، على نحو بالغ الخطورة، بلبنان وشعبه، المشروع الأميركي الأطلسي الذي دمّر العراق وسوريا وليبيا، ويعمل على تكريس حالة الانهيار على كامل مساحة المشرق العربي لضمان استمرار وتعزيز الهيمنة الأميركية عليه، وكذلك لمد العدو الصهيوني بالمزيد من وسائل العدوان ولتكريس وتعزيز المسار التطبيعي معه.
2- أمّا بالنسبة للبنان تحديداً، فيتركّز الاهتمام الأميركي الغربي على إطالة أمد الأزمة وشلل الدّولة ومنع لبنان من النهوض بمختلف الوسائل بما فيها الحصار المانع لبلدنا من الاستفادة من أي دعم من الدول الصديقة المهتمة (إيران، الصين، روسيا...) وذلك بهدف تأليب الشعب اللبناني على المقاومة وتحميلها مسؤولية الانهيار. ويؤدي ذلك، عملياً، إلى إعفاء أطراف السلطة الفعلية من المسؤولية عن الانهيار الناجم عن الفئوية والعبث والنهب والتحاصص، كما يؤدي إلى منع أي حلّ سياسي اقتصادي للأزمة، أو حتى إلى تسوية مرحلية متوازنة، تبقي حداً أدنى من الصمود الاقتصادي الاجتماعي ومن العلاقات الضرورية مع بوابتنا الطبيعية الوحيدة الشقيقة سوريا.
إنّ كل أجنحة السلطة تتحمّل، بنسب مختلفة، مسؤولية الأزمة الطاحنة المتمادية الحالية بالتنسيق المباشر مع قوى المشروع المعادي، أو عبر الخوف من المواجهة، أو عبر العجز عن محاولة إحداث التغيير الضروري. أمّا على صعيد المعارضة السياسية، فقسم منها متواطئ وقسم عاجز وقسم مكابر، وقد انكشف ذلك سواء خلال تحرك 17 تشرين أو خلال الانتخابات النيابية أو الموقف من حكومة ميقاتي.
● تركّز استهداف الفريق المتواطئ، ليس على مسببي الأزمة، بل على خصومه داخل السلطة وخارجها. وهو توسّل اعتماد أساليب الشتم وتكسير المرافق العامة وقطع الطرق وتحييد المصارف وكبار الشركات والمصرف المركزي عن أي نقد. وهذا ما روّجت له إعلامياً المحطات التلفزيونية ووسائل الإعلام المموّلة أميركياً وأوروبياً وخليجياً، علماً أن القوى السياسية الأساسية التي يتشكّل منها هذا الفريق كانت، باستمرار، جزءاً أساسياً من سلطة ما بعد «الطائف»: بدءاً من «القوات» وتيار «المستقبل» و«الكتائب» و«الاشتراكي»... وصولاً إلى معظم منظمات المجتمع المدني التي تناسلت بالمئات، للارتزاق من السفارات المنخرطة في التحريض الداخلي وفي مقدمتها السفارة الأميركية.
● أمّا الفريق العاجز، فيتمثل بالقوى والشخصيات الديموقراطية والمستقلة والإصلاحية التي شاركت في الحراك بأمل إسقاط المنظومة أو تغيير سياساتها، ما أسهم في خلق أوهام موازية لدى أوساط واسعة من الشعب اللبناني وخصوصاً أكثريته التي دمّرتها الأزمة.
● القسم الثالث يتمثّل في بعض قوى اليسار التي لجأت إلى تضخيم الشعارات ورفع السقوف السياسية من طراز إسقاط المنظومة واستبدال النظام الطائفي بنظام علماني، من دون أن تبادر أو تستجيب لبناء أو محاولة إطلاق مشروع جبهوي واسع قادر على تأمين حضور وازن في خريطة الصراع تعبيراً عن مصالح الأكثرية الشعبية التي دفعت الثمن الأكبر للأزمة غير المسبوقة... والأسوأ أن هذا القسم أصرّ رغم وصول تحرك تشرين إلى طريق مسدود وانفضاح رهانات وارتباطات جزء أساسي من ناشطيه، أصر على اعتبار حصيلة التحرك انتصاراً ومقدّمة لتغيير عميق وجذري في بنية النظام وطبيعة السلطة!
● في ما يتعلق بقيادة الحزب الشيوعي، قبل المؤتمر الأخير وبعده، فتنطبق عليها بعض الملاحظات الواردة آنفاً، وهي تتحمّل مسؤولية إضافية تجاه الشيوعيين واليسار لأنها شاركت ولا تزال في بث الأوهام حول التوازنات وحول آفاق المواجهة الراهنة. وهي أصرّت خلال الانتخابات النيابية في أيار الماضي، على التحالف مع بعض القوى المرتبطة بالمشاريع الأجنبية، ولم تستفد من فرصة انعقاد المؤتمر الأخير لإجراء تقييم موضوعي لكل جوانب تجربتها خلال الحراك وبعده، وخصوصاً في ما يتعلق بضرورة العمل الدؤوب لبلورة تيار سياسي وطني شعبي واسع ينتظم في نطاق مشروع تغيير ذي إطار قيادي تنسيقي وأولويات محددة. لقد تركّز جزء من أولويات القيادة على التجديد لنفسها وعلى تحجيم بعض المنتقدين والمعترضين. وفي السياق تم تجميد وفصل عدد من الكوادر والمناضلين، فيما يستمر غض النظر عن آخرين ثبت ارتباطهم بجهات مشبوهة خلال الحراك وخلال الانتخابات النيابية الأخيرة. وقد فعلت ذلك في الوقت الذي يحتاج فيه الحزب إلى تجاوز حالة الضعف والتفكك، ليس من خلال تعميق التناقضات أو من خلال إجراء انتخابات قاعدية هزيلة المشاركة، بل عبر إجراء حوار صريح وشفاف مع المنتقدين والمعترضين من أجل استعادة الممكن من وحدة الحزب وفاعليته. وما يزيد مسؤولية القيادة في هذا المجال أنها تجاهلت التحذيرات التي تلقتها بصورة مباشرة من رفاق حريصين خلال الحراك وخلال الانتخابات، وقُبيل عقد المؤتمر الأخير، كما تجاهلت الدعوات للحوار والتفاهم، بل أصرّت على رغم اتضاح ثغرات الأداء على تكرار طرح السقوف السياسية العالية وتجاهل التراجع اللاحق بشعبية الحزب، معتبرةً نجاح بعض ما سُمّي بنواب تغييريين مكسباً وطنياً مع علمها بأن معظم هؤلاء ليسوا سوى أحصنة جديدة تعدّها الأجهزة الغربية لتجديد الدماء في منظومتها العاجزة. غير أن مسؤولية القيادة الحزبية لا تبرر الخطوات المتسرعة التي أقدم عليها عدد من الرفاق المنظمين وغير المنظمين بإعلان خطوات انقسامية من شأنها مفاقمة الأزمة لا المساهمة في معالجتها.
أمام المخاطر المحدقة بالبلد وبالحزب نجد أنفسنا معنيين بتجديد دعوتنا إلى الحوار داخل صفوف الحزب وبصورة موسّعة تطاول أكبر شريحة ممكنة من الكوادر والأعضاء وحتى الأصدقاء. وقد يتخذ هذا الحوار صيغاً مختلفة قد يكون من بينها عقد مجلس عام للنقاش تُحال توصياته ومقرراته إلى الهيئات الحزبية المنتخبة لإعطائها المشروعية والقوة التنفيذية الضروريتين.
إنّ المواقف التي اختصرتها هذه الرسالة تحظى بموافقة عدد كبير من كوادر ورفاق اطلعوا عليها وهم يوجّهون نداء إلى جسم الحزب وقيادته للتجاوب بصورة إيجابية مع مضمون الرسالة ومع خلاصتها لما فيه مصلحة الحزب والوطن.

مجموعة من كوادر
وأعضاء الحزب الشيوعي،
عنهم: الأمين العام السابق فاروق دحروج