هذه مراجعة نقديّة لكتاب صدر لفؤاد عجمي (لبناني من أرنون في جنوب لبنان) بعد وفاته، بعنوان «عندما فشلَ السحر: مذكرات لطفولة لبنانيّة، عالقة بين الشرق والغرب»، والصادرة عن دار نشر «بومباردير» (لم أسمع بها من قبل). وعمل الصهيوني المعروف، ليون وزيلتير، على نشرها (فقد وزيلتير منصبه في مؤسّسة بروكنغر في ٢٠١٧ بعد حملة «وأنا أيضاً» ضد المتحرّشين بالنساء). ما زال الحديث عن ذكريات فؤاد عجمي، وخيالاته الاستشراقيّة، في سنوات طفولته وصباه في لبنان قبل أن يأتي إلى «كليّة شرق أوريغون» في ١٩٦٣. كان يمكن لعجمي أن يصعد في الإعلام الخليجي، وحتى في بلاط الحكّام في الخليج، لو لم يمت. هو كان قد بدأ بعقد صلات هناك، وكان يعتبر عبد الرحمن الراشد، النافذ في الإعلام السعودي، مُريداً له. وجريدة «الشرق الأوسط» أفردت قسماً خاصاً بالمراثي عنه، بعد وفاته مباشرة، وكلّها كانت تبجيليّة. عجمي كان نقيض إدوار سعيد (بكل المعاني) ولهذا احتفى به الإعلام الخليجي. المجلّة السعوديّة، «المجلّة» باتت عبر السنوات تنشر مقالات لعتاة الصهاينة في ذمّ سعيد، كما ذمَّه فؤاد عجمي.
يتحدّث عجمي عن الصراع مع إسرائيل دائماً بصيغة الحرب بين العرب واليهود، أو بين «العربي واليهودي». والصهاينة في الغرب يميلون إلى هذه الصيغة كي يجعلوا من مقاصد عدائنا ضد الصهيونيّة دينيّة وعنصريّة محض. ما علاقة يهوديّة المستوطن الأوروبي في بلادنا بدينه؟ هل معارضتنا للصهيونيّة كانت ستكون أخفّ لو أن المهاجرين المستوطنين كانوا، مثلاً، من الكاثوليك؟ يقول عجمي عن النكبة ما يأتي: «لقد أمّن اليهود دولتهم، فيما هرب الفلسطينيّون» (ص. ٥٩). وفرار الفلسطينيّين من أرضهم هو لازمة في سجالات ذمّ الشعب الفلسطيني وقضيّته. لكن عجمي تأثّر بأمّه التي قال عنها إنها لم تكن معنيّة أبداً بمعاناة شعب فلسطين. يقول عجمي إن ذلك كان همّاً عربيّاً «وعبئاً» عربيّاً، لكنه لم يشغل أمّه، وهو طبعاً لم يشغل عجمي. وحتى عندما تظاهرت نساء فلسطينيّات في شوارع بيروت بعد سنة من النكبة، ذلك لم يثرْ أحاسيس أو مشاعر عند والدته، حسب سرديّته.
يتحدّث عجمي بنفَس استشراقي عن تلقّيه العلم في مدرسة في بيروت. يسخر من تعليم العربيّة فيها، ثم يسخر من العربيّة بحالها. يقول إن «العربيّة الفصحى كانت عالماً منفصلاً عن العربيّة المحكيّة، وهي تقريباً لغة مختلفة». لو كان ذلك صحيحاً فكيف يتفاهم العرب من مختلف أنحاء العالم العربي عندما يلتقون في المهاجر؟ هل يتحدثون بلغة الإشارة؟ كيف يفهم كل المشاهدين والمشاهدات العرب الأفلام المصريّة والمسلسلات السورية؟ لا، والرجل الذي يكشف من خلال إيراده لكلام باللغة العربيّة عمق جهله بتلك اللغة، يسمح لنفسه بإصدار أحكام وتعميمات عن لغة الضاد. يشكو من العذاب الذي عاناه من جراء تحريك الكلام تبعاً لمعنى الجملة. يزعم أن قواعد اللغة العربيّة لا تعتمد على فهم. الحقيقة أن القواعد العربيّة مبنيّة على أصول منطقيّة وحسابيّة واضحة، وإلا كيف يستطيع الطلاب العرب فهم وتحريك الكلمات عبر القرون؟ هذا لا ينفي أن هناك صعوبة في تعليم العربيّة من جراء اتباع وسائل تعليم عقيمة وقديمة. يقول إن قواعد العربيّة تتطلّب الطاعة مثل الأهل والمعلّمين في العالم العربي. لكن قواعد العربيّة متساهلة ومرنة ولديها صف طويل من الاستثناءات، كما أنها تسمح للشعراء بتطويع القواعد من أجل جمالية الكلام الشعري. لا أعرف عن لغة على هذه الدرجة من التساهل اللغوي. لكن عجمي لا يميّز بين المذكر والمؤنّث، ويقول إنه كان له عمّة اسمها «وجيه»، وليس وجيهة. وقد يكون اسم عمّه شفيقة. وفي مقطع في الكتاب، يريد أن يقول إن فرنسا كانت توصف بـ«الأم الحنون»، لكنه يقول عوضاً عن ذلك إن فرنسا كانت توصف بـ«أم حسّون»، بالحرف. لكنه لا يخطئ الكتابة عندما يستعمل التعبير السوقي البذيء لـ«سوق البغاء» في بيروت (ص. ١١٥). ولا يحوز إعجاب عجمي من شخصيّات طفولته وصباه إلا هؤلاء الذين احتقروا أهلهم، مثل «حياة» التي «تجاوزت» بني أمّها واحتقرت بث الإشاعات في حديث الأهالي، مع أن حكايات عجمي نفسها مبنيْة على إشاعات وأقاويل وخيالات.
على طريقة الاستشراق التقليدي، لا يتحدّث عن الشعب العربي إلا على أساس الطوائف المتناحرة (وهذه سرديّة دحضها المؤرّخ أسامة المقدسي): أي نفس نمط التاريخ لبرنارد لويس


أحياناً تشعر بأن عجمي يجهد كي يضفي المزيد من الإبهار للقارئ الغربي الأبيض. وهل هناك ما يثير الغرابة والإعجاب الغربي المشوب بالاحتقار أكثر من حكايات «الحريم»؟ لا بل فؤاد عجمي يزعم أن العالم الذي عاشه، في جنوب لبنان وفي برج حمّود في ما بعد، هو نفسه عالم «ألف ليلة وليلة». يقول إن المخصيّين فقط هم الذين يُسمح لهم بالبقاء في عالم النساء. عن أيّ قرن من الزمن يتحدّث عجمي؟ جنوب لبنان في النصف الأول من القرن الماضي؟ أم برج حمّود حيث سادت أجواء الحريم والخصيان؟ حريم وخصيان في برج حمّود؟ يقول إن ثقافة العالم الذي وُلد وترعرع فيه رسخ فكرة أن الهلاك يصيب الذكور الذين يعيشون فترة طويلة في عالم النساء. والمصدر في ذلك هو عجمي الراوي عن الجواري والعبيد والسلاطين في... برج حمّود. تدرك كم أن عجمي يريد أن يستقي من التاريخ كي يفصل، أمام القارئ الغربي، بين عالم الشرق الغارق في القدَم وعالم الغرب العصري والمتطوِّر. يزعم عجمي أن الولادة كانت تتمّ في زمانه على يد ليس فقط القابلات القانونيّات، بل على أيدي الجيران والأقارب (ص. ٨١). كيف كان يحدث ذلك؟ تدق على باب منزل جارك وتسأله أن يأتي على عجل كي يولِّد الابنة أو الزوجة؟
وطبعاً، لا يحلو الحديث الاستشراقي عن جبل عامل من دون قصّة عن عاشوراء واللطم. لا يقصّر عجمي في هذا المجال. يقول إن شقيقه ابن العاشرة تسلّم خنجراً (أو بندقيّة كلاشينكوف، لا يذكر عجمي) من أجل المساهمة العنفيّة في مراسم عاشوراء. فكان شقيقه، بحسب فؤاد، يضرب رأسه في هتاف متكرّر فيما يمسك بالخنجر باليد الأخرى. ثم يصف عجمي كيف أن حلاق القرية جرح «رأس» (هل وصلوا إلى الدماغ؟) أخيه بالشفرة. وسالت الدماء من خلال الضرب، حسب وصف عجمي. حاول عجمي اللحاق بـ«موكب المُشيِّعين والرجال المخيفين بسيوفهم الطويلة وجنازيرهم، والرجال باللباس الأبيض كانوا مخضّبين بالدماء» (ص. ٨٥). آه، كم يحبّ الجمهور الغربي هذا الوصف. هذا تماماً ما أحسن عجمي منحه لخيال وذائقة الرجل الأبيض. لم يكن هناك في مدينة صور أي من هذه المشاهد، على ما أذكر من زيارات الطفولة والصبا. ولا يذكر عجمي الجدال والخلاف بين الشيعة أنفسهم حول تقاليد التطبير، التي لم تكن شائعة في كل جبل عامل. لكن ما أقوله دائماً عن عاشوراء أمام استفظاع بعض العرب والغربيّين أن مراسم عاشوراء مُنتجة ومُخرجة بتقنيّة تصميمات الرقص الدقيقة. بالرغم من وجود السيوف الملوّحة وبعض الدماء، فإننا لا نسمع عن أذى لحق بالناس. حتى في العراق حيث يحتشد للمناسبة مئات الآلاف، فإن الأذى الكبير نادر الحدوث. لا أدري إذا كان فؤاد عجمي شاهد سيل الدماء في برج حمّود أيضاً. (الظريف أن عجمي ترجم للقارئ الغربي، هتاف «يا حسن، يا حسين»، هكذا: «أوه، حسن. أوه، حسين»).
ويتحدّث عجمي عن افتنانه بأفلام رعاة البقر. لا أدري لماذا هذه الأفلام تترك هذا الأثر العميق في نفوس بعض اللبنانيّين وخصوصاً هؤلاء الذين ينتقلون إلى أميركا ويكتبون عن إعجابهم بـ«الحضارة الأميركيّة». طبعاً، العنصريّة الصارخة في تلك الأفلام لا تزعج عجمي ولا غيره من اللبنانيّين الذين يصرحون هنا بأنهم تعلّموا حب أميركا من أفلام الـ«وسترن». هذه الأفلام لم تترك فيّ أي أثر على الإطلاق، وكنتُ أتعاطف مع السكان الأصليّين («الهنود الحمر»، بلغة ذلك الزمن) ضد رعاة البقر البيض. وحتى في مسلسل «جحيم المعركة» الشهير (عن الحرب العالميّة الثانية)، كنتُ وأنا طفل أميلُ إلى الجنود الألمان ربما لأن لباسهم كان أنيقاً ومرتّباً جداً. يقول عجمي إن أفلام الوسترن بقيت مؤثّرة فيه حتى بعدما خبا نجمها في أميركا نفسها (ص. ٨٨). الرجل يقول للأميركيّين: أنا أميركي أكثر منكم، وهذا نمط سائد عند بعض اللبنانيّين الساعين إلى الترقّي إلى العرق الأبيض.
يسخر عجمي من الأفلام المصريّة (التي أثّرت فيّ أكثر بكثير من الأفلام الأميركيّة، باستثناء فيلم «لحن السعادة»). يعترف بأن الأفلام المصريّة مسلّية، لكنه يقول إن الأفلام كانت أقرب إلى عالمه، وإن النساء فيها يقلن إنهنّ أعطين «أغلى ما عندهنّ» للرجل. ويقول إن النسوة كنَّ يتلقّيْن محاضرات عن أن شرف المرأة هو مثل عود الكبريت، وأنه يشتعل مرّة واحدة. هذه مبالغات عجمي عن جملة واحدة مرّت في فيلم على لسان يوسف وهبي. يتحدّث عن النظام التعليمي في لبنان، وهو قد تنقّل بين عدّة مدارس من برج حمّود إلى العامليّة في رأس النبع. يقول إن التعليم لم يعطه أي تقدير للمواد المقروءة (كل المواد، من دون استثناء؟) ويضيف إن العربيّة الفصحى المكتوبة كانت مستعصية عليهم. يزعم أنه لم يكن هناك أي معلّم يعلّمهم متعة القراءة، وأنه لم يكن هناك معلّم فسّر لهم معاني القراءة. معقول؟ ولا معلّم؟ يقول إن القراءة كانت بغرض الإنشاء والقواعد. ماذا يبقى؟ الإنشاء هو اللغة والمضمون معاً. يقول إن تعليم الإنشاء كان يُعلّم مثل «كل شيء آخر» (ص. ٩١): «القواعد والممنوعات والبناء الرسمي. وإن القطعة كانت تعتمد على عناصر ثلاثة: المقدمة والموضوع والخاتمة». ما الفرادة في ذلك، ولماذا الاستفظاع؟ أنا في عام ١٩٧٤ تعلّمت الإنشاء الإنكليزي على يد معلّمة أميركيّة في مدرسة الـ«آي سي» في بيروت، وكانت تقسّم موضوع الانشاء بنفس الطريقة.
وعلى طريقة الاستشراق التقليدي، لا يتحدّث عن الشعب العربي إلا على أساس الطوائف المتناحرة (وهذه سرديّة دحضها المؤرّخ أسامة المقدسي): أي نفس نمط التاريخ لبرنارد لويس الذي ألهمه، باعترافه. يقول إن السنّة كرهوا الشيعة (كل السنّة؟ كل الشيعة؟ لا استثناءات عند عجمي لأن التعميم جاذب أكثر من الكلام الدقيق والحريص والرزين). الرجل الأبيض لا ينبهر إلا بالتعميم وكلام الإثارة على طريقة صحافة التابلويد. وإذا كان هناك من صحافة صفراء، فإن هناك إنتاجاً أكاديمياً أصفر.
ويذكر باستخفاف جمال عبد الناصر. لا يذكر من أقواله ضد الاستعمار ومن أجل الوحدة وفلسطين إلا كلامه عندما دعا الأميركيّين إلى شرب مياه المتوسّط (ص. ١٠٤). ويذكر أن السنّة أحبّوا عبد الناصر، مع أن شعبيّة عبد الناصر لم تكن محصورة بالسنّة، أو حتى بالمسلمين فقط (كان عبد الناصر محبوباً جداً في الجنوب اللبناني مثلاً). وفي حرب ١٩٥٨، كانت شعبيّة عبد الناصر كبيرة جداً في مدينة صور، وقد رحل الجنوبيّون في حافلات إلى دمشق يوم إعلان الوحدة.

هذا الكتاب سيمرّ مروراً عابراً، إلا في الدراسات الصهيونيّة المهتمة بتجربة فؤاد عجمي. حتماً، هو سيُعيّن في بعض مواد التدريس لدراسات الشرق الأوسط من قبل أساتذة صهاينة


يتحدّث عن «طبيعة العائلة» في العالم الإسلامي. وهذا نفس النمط التعميمي للاستشراق الإسرائيلي. أي عالم إسلامي؟ عالم الأنثروبولوجيا، كليفرد غيرتز، في كتابه «مراقبة الإسلام» يعطي وصفاً عن إسلام مختلف كليّاً بين أندونيسيا والمغرب. لكن عجمي لا يرى إلا عالماً إسلاميّاً متراصّاً. ويقول إن أولويّة رابط الدم في تعريف العائلة همّش أطفال زوجة الأب أو زوج الأم. ويتحدّث عن العشيرة في الجنوب، بدلاً من العائلة فيقول إن مغزى «عشيرة» أبيه كان الدم (الدم، مرّة أخرى). وعجمي يتحدّث عن النساء بذكوريّة وبأوصاف حسيّة. تراه يذكر فلاحة كان «فستانها يلتصق بجسدها ويشير إلى حسنه، مُشيراً إلى نهديها المكتنزيْن» (ص. ١١٩). لكن جمال الفلاحات، حسب قول عجمي، لا يدوم بل يخبو بسرعة نظراً إلى «الفقر والتعب والولادات المتكرّرة». الجمال من فضائل الثريات فقط؟
يعترف عجمي بأنه كان في غربة عن محيطه، مبكراً. اكتشف الوطنيّة والقوميّة في المهجر الأميركي فقط. وبعدما ذمّ النظام التعليمي، يستدرك ليقول إنه أحبّ مدرسة أميركيّة مرَّ بها إلى أن تسجّل في مدرسة إسلاميّة، يا للهول. يزعم أن اختبارات معلّم الكيمياء كانت تنتهي دائماً بتكسير أنابيب، وأن المعلّم كان ذا حساسيّة لكل شيء أميركي أو غربي. تعرّض عجمي المسكين لوابل من المحاضرات، حسب قوله، عن «الشرور التي ألحقها الاستشراق والمستشرقين بالعالم الإسلامي» (ص. ١٣٨). يقول عن الاستشراق: «لم أكن أعرف عن (شرور الاستشراق) ولم أكن—أنا وغيري في الصف—لأكترث للاستشراق والمستشرقين. يذكر من معلّميه عمر فرّوخ. عمر فرّوخ العالم الفذّ يصبح معلّماً كاريكاتوريّاً في وصف عجمي. عمر فرّوخ كان يعرف عالم الاستشراق لأنه درس على يديه في الجامعة الأميركيّة في بيروت، ثم في ألمانيا حيث نال شهادة الدكتوراه. يقول إن فرّوخ كان يحتاج إلى جمهور متعاطف، وهو حتماً لم يجده في شخص عجمي المُتبرّم من العرب والعروبة والإسلام. يقول إن أحداً لم يكن يجرؤ على السؤال عن المستشرقين أمام عمر فرّوخ (فرّوخ اضطرّ إلى التعليم في ثانويات لبنان لأن لا الجامعة الأميركيّة ولا الجامعة اليسوعيّة قبلتا بتوظيفه لأنه لم يكن واحداً من الذين يلتزمون بالمنهج الاستشراقي المعادي للعرب والإسلام). يصف العالم فرّوخ بـ«هَجّاء الاستشراق». لا، لا يمكن أن تختصر الإنتاج العلمي والأدبي لفرّوخ في التاريخ والفلسفة العربيّة والإسلاميّة بـ«هَجّاء الاستشراق»، على أهميّة هجاء الاستشراق. إدوار سعيد مدين في شهرته العالميّة لكتابه في نقد الاستشراق. على العكس، يجب التنويه بأن عمر فرّوخ كان من الروّاد في نقد الاستشراق الغربي، من دون أن يكون عنصريّاً ضد الغربيّين كما صوّره عجمي. يزعم أنه كان يندّد بثقافة «الكاو بوي» ويسخر من لفظ فرّوخ، الذي أتقن من اللغات أكثر من لغتَيْ عجمي (وعربيّته كانت ضعيفة).
يذكر في ختام الكتاب زيارته لعمّه عبّاس في مونروفيا في عام ١٩٧٧. قال إن الزيارة كانت بدافع حشريّته لرؤية غرب أفريقيا بعدما سمع عنها الكثير في طفولته وصباه وأصبحت جزءاً من مخيّلته. قال عن مونروفيا: كانت «خيبة أمل فظيعة» (ص. ١٤٥). طغى على رؤيته «قذارة المكان». يختصر البلد (أم هو يختصر أفريقيا برمّتها في ذهنه العنصري؟) بالقول: «أن ترى مونروفيا بشوارعها الموحلة وغير المعبّدة، وأن ترى البارات والنوادي البائسة، والمومسات على الأرصفة هو أن تصطدم وجهاً لوجه بالبؤس. لقد أودعنا أحلامنا في أمكنة ذات قتامة فظيعة» (ص. ١٤٥). هذه الصورة التي رسمها عجمي لأفريقيا في كتابه تنسجم مع الجهد الذي بذله عجمي كي يصبح أبيض مقبولاً في أميركا. هذا الذي كان يسبق كل جملة يقولها في الإعلام بالتعريف عن نفسه كأميركي: أنا كأميركي، أرى كذا وكذا. أو: نحن الأميركيّين نرى كذا وكذا. وفي المقابلة البارعة والثاقبة التي أجراها معه داود الشريان، كان عجمي يجيب عن تساؤلات الشريان بالقول، لكن أنا أعتبر نفسي أميركياً، ولهذا لست معنياً بحساسيات العرب. لكن الشريان عاجله بالقول المنطقي: إنه يسأله كإنسان وإن الحسّ الإنساني يستوجب التعاطف مع شعب فلسطين ومع العراقيين تحت القصف الأميركي.
هذا الكتاب سيمرّ مروراً عابراً، إلا في الدراسات الصهيونيّة المهتمة بتجربة فؤاد عجمي. حتماً، هو سيُعيّن في بعض مواد التدريس لدراسات الشرق الأوسط من قبل أساتذة صهاينة. ينسى البعض أن فؤاد عجمي التحق بجمعيّة انشقّت عن «ميسا» (وهي الجمعيّة المعنيّة بدراسات الشرق الأوسط في الغرب والعالم أجمع). برنارد لويس وصحبه ثاروا على التوجّهات المتعاطفة مع القضيّة الفلسطينيّة ومع دراسات نقد الاستشراق والاستعمار في جمعيّة «ميسا». قام هؤلاء الصهاينة والإسرائيليّون بإنشاء جمعيّة بديلة لدراسات الشرق الأوسط، لكن من وجهة نظر صهيونيّة معادية لنقد الاستشراق. وكان عجمي العربي الوحيد بين المؤسّسين، مع أن الجمعيّة اندثرت بسرعة ولم يكن لها أي تأثير. عجمي هو مدرسة نمت بالتدريج منذ زيارة السادات إلى القدس. هو المؤسّس والباقون هم التلاميذ. عجمي كان أوّل المُجاهرين بالصهيونيّة، مع أن ذلك لم يعد نادراً في أميركا، وخصوصاً أن حكاماً عرباً في الخليج اعتنقوا الصهيونيّة وبات إعلامهم مكرّساً لتجميل صورة إسرائيل («الشرق الأوسط» تنشر مقالات لتقديم ذرائع لعدوان إسرائيل، وعبد الرحمن الراشد ليس إلا مقلّداً لخطاب عجمي، الذي بدوره قلّد خطاب السادات). سيرة فؤاد عجمي ليست سيرة جيل، لا بل هي سيرة مغايرة ومعاكسة لسيرة انطلاق وصعود المقاومة ضد إسرائيل في جنوب لبنان.

(انتهى)

* كاتب عربي - حسابه على تويتر
asadabukhalil@