«إنّ اكتفاء المخلوق بما قُسِمَ له ليس مصدر سعادة له وحسب بل واجب عليه. هذا الاكتفاء هو الفلسفة الشعبيّة الحقيقيّة. لماذا تُحَدِّثون الشعب عن حقوق مزعومة... علّموه الهدوء والاعتدال والقناعة، حذّروه من التجارب الباطلة والحاجات المُصطنعة. ردّدوا على مسامعه أنّ مصير الإنسان في هذه الدنيا طريق مِحَن وممارسة طويلة للصبر... يا من دعاكم المُنَظِّم الإلهيّ لمصائر البشر إلى حياة وضيعة وشاقّة» [عن روزنامة وزِّعَت بين الطبقات الشعبيّة في فرنسا، القرن التاسع عشر]

يمكن قسمة العالم إلى ما قبل ماركس (وإنغلز) وبعده. قبل ماركس كانت الخبرات الإنسانيّة المظلمة من فقرٍ ومرض وموت مُبكر وجهل وغير ذلك، مجرّد خبرات إنسانيّة مؤلمة؛ وكان الفكر الدينيّ المسيحيّ، ولا يزال في معظمه، يفهم الوجود على أنّه تدبير إلهيّ لا يحول ولا يزول، ولذلك يكتفي باجترار عبارات تدعو الفقراء إلى الصبر والأغنياء إلى المشاركة، بينما ترى المؤسّسة الكنسيّة وجود الأثرياء «طبيعيّاً» فتقدّم لهم الصدور في المجالس. بعد ماركس فهمنا أنّ الرأسماليّة التي نحيا في ظلّها منذ قرون تُنتج إنتاجاً، بسبب الاستغلال الذي تمارسه، الفقرَ، والبطالة، والعبوديّة العمليّة، والمرض، والموت الذي يمكن تجنّبه والذي دعاه إنغلز بـ«القتل الاجتماعيّ». جعلنا ماركس نعي أنّ هذه الظروف يمكن تجنّبها كما ويمكن بناء عالم أفضل ببناء بُنى اقتصاديّة تسمح بنشوء علاقات غير استغلاليّة بين الناس. وعينا جميعاً اليوم مطبوع بالوعي الذي خلقه فكر ماركس، أكنّا متبنّين لنظرته الفلسفيّة للدين أم ناقدين لها.
الدعاية الدينيّة كما تلك الرأسماليّة المضادة للشيوعيّة، والتي معظمها لم يكن يتكلّم عن الفلسفة الماركسيّة بقدر ما كان يتكلّم عن الإيمان وفظائع الأنظمة الشيوعيّة بينما يخفي فظائع النظام الرأسماليّ في جميع دوله، تلك الدعاية جعلتنا مجموعة من الجهلة بتاريخ وواقع النظام الرأسماليّ على هذا الكوكب. قد لا يوافق الإنسان على الشيوعيّة وعلى نواح في الفكر الماركسيّ، ولكنّ مسؤوليّته تجاه نفسه ألّا يجهل تاريخ هذا الكوكب ونوعيّة النظام القائم فيه.
معظمنا لا يشعر أنّ النظام الوظيفيّ ليس شيئاً طبيعيّاً. فالإنسان لم يبدأ حياته على هذا الكوكب في وظيفة، بل كان عاملاً مستقلّاً في مهنة (إسكافي، حدّاد، مزارع) حتّى نشوء الرأسماليّة الصناعيّة، فكان يحدّد إلى حدّ كبير أهداف عمله، والطرق التي يستخدمها من أجل الوصول إلى أهدافه، من دون منافسة تُذكر في السوق، وكان السوق شيئاً محدّداً محصوراً. حين بدأ ما سمّي بـ«الثورة الصناعية» حيث تنامت القدرة على التصنيع بالآلات عوض الجهد العضليّ، دُفع الناس دفعاً لترك أعمالهم الصغيرة والالتحاق بالمصانع التي كانت تحتاج إلى يد عاملة. الحكومة البريطانيّة سنّت قوانين لتمنع المزارعين عن زراعة بعض الأراضي التابعة للدولة لكي يضطرّوا للذهاب إلى المدينة والعمل في المصانع تحت رحمة «ربّ» العمل، وتحت التهديد بالموت جوعاً إذا ما لم يفعلوا. يمكن بالطبع الاستنتاج أنّهم كانوا يرضخون لمطلق أيّ ظرف عمل ولأجور زهيدة فقط كي يتمكّنوا من العيش. وكان الأطفال في عمر السابعة يعملون في المصانع بشكل «طبيعي» ثلاث عشرة ساعة متواصلة في اليوم عام 1819. كلّ ذلك كي يتمكّن صاحب رأس المال الذي أسّس المصنع من جمع أكبر قدر من الثروة وهو لا يمكنه أن يفعل ذلك إلّا بتخفيض الأجور إلى الحدّ الأدنى.
الجشع هو القائم خلف كلّ النظام، ولكنّ النظام يولّد الجشع أيضاً، يُضفي غطاء طبيعيّاً على أكل البشر لحياة بعضهم البعض. طبعاً الأمور تعاقبت بشكل متسارع بعدها، وعدا سوق البضاعة صارت لدينا سوق لكلّ شيء، سوق للأسهم، سوق للمال. ومن أجل الحصول على المواد الأوليّة التي يشاء صانعها ما يشاء وبيع ما يشاء بالسعر الذي يشاء يعمل الرأسماليّون بواسطة دولهم على تدبير الحروب والانقلابات والاحتلالات وتنصيب الديكتاتوريّات (مع أنّهم ينتقدون دعائياً ديكتاتوريّة الدول الشيوعيّة) ودعم أكثر الدول قساوة قتلاً وتدميراً للإنسان والطبيعة عبر المعمورة. هو مسعى تراكم رأس المال بواسطة التدمير، كما يصفه علي القادري.
الوضع «الطبيعي» القائم اليوم: موظّفون ينتجون الثروة ولا يأخذون منها إلّا القدر اليسير بينما يأخذ صاحب رأس المال حصّة ضخمة منها، الرأسماليّة كنظام اقتصادي «طبيعي» وينسجم مع «طبيعة» الإنسان، كلّ ذلك هو محض دعاية أيديولوجيّة للرأسماليّة. ما من أمر طبيعي في ذلك، هو محض ابتكار لطريقة حياة وفرضها على الجميع من أجل مصلحة واحد في المئة من سكّان الأرض. الملكيّة الفرديّة نفسها ليست أمراً «طبيعيّاً»، لا نعني بالملكيّة الفرديّة أن يكون للإنسان ثياب وحلى وأدوات خاصّة، وإنّما ملكيّة أدوت الإنتاج وملكيّة الأرض. من قال إنّ الأرض تُمتلك، ألا يمكن تخيّل شكل حياة مشاركة للأرض غير عن طريق الملكيّة؟ بلى يمكن، حتّى في الرأسماليّة وفي بريطانيا بالذات ملكيّة الأرض تبقى للملِك أو الملكة والإنسان عندما «يشتري» بيتاً هو «يشتريه» لمدّة محدّدة فقط، بعدها إمّا «يبيعه» لشخص آخر أو تعود الملكيّة للملك. المهمّ في الموضوع أنّ الفكر البشريّ يمكنه أن يبتكر طرقاً أخرى لقيادة الحياة البشريّة. ثمّ، أيّ منطق عادل يسمح لإنسان أن يستولي بماله على قطعة أرض كبيرة وربّما زراعية ويستعملها لمآربه، للتسلية مثلاً، وبينما الناس ينقصها الطعام؟ هذا ليس مثلاً افتراضيّاً، هذا واقع الناس في بلدان عدة (البرازيل مثلاً) حيث يمتلك أناس أراضي زراعيّة يتركونها بلا زراعة، بينما تتدهور أحوال فلّاحين يريدون أن يزرعوا ولكن لا أراضي متوافرة لديهم.
نتيجة الاستهلاك المطرد لكلّ شيء ضروريّ وغير ضروريّ، والذي تقتضيه الرأسماليّة، هو الانحباس الحراريّ. الدول الغنيّة لا تسعى لحلّ الموضوع بشكل جادّ لأنّ الأمر مكلف وغير مُربح. كلّ شيء مكلف، ألا يستأهل إنقاذ حياة الناس والأرض كلّها كلفةً؟ لا، هذا هو الجواب غير المُعلَن لرأسماليّي هذا الكوكب. هذا النظام والقائمون عليه آكلو اللحم البشريّ المتربّعون على أرائك الجشع، ما زالوا يتنافسون على غرف الثروات وحفر آبار النفط وهم يَعِدون بأنّهم يوماً ما سنصل إلى خفض الانبعاثات. المشكلة لديهم أنّهم لا يستطيعون أن يتوقّفوا عن تراكم الثروة لأنّ النظام نفسه يدفعهم لذلك، هدفهم بحكم النظام نفسه أن يتنافسوا على جمع الثروة ونهب البشر. الدارسون للطاقة البديلة يقولون إنّها ليست حلّاً، وإنّ التكنولوجيا لن تكون حلّاً، وإنّ كلّ ما نقوم به في منازلنا من تدوير وتخفيض للاستهلاك ليس سوى حبّة رمل في جبل الانبعاثات التي تسبّبها الشركات، وإنّ الحلّ لن يكون إلّا بتغيير نمط الحياة الذي نعيشه من نمط رأسماليّ إلى نظام آخر سمّوه ما شئتم، لكن لن تتمكّن الأجيال القادمة أن تحيا من دون تجاوز الرأسماليّة.
قد يبدو الموضوع بعيداً عن البال في لبنان والمنطقة، فنحن منهمكون بالخروج من الحروب والاختناق الاقتصاديّ. صحيح، ولكن ما سبب هذه الحروب والتدهور والاختناق الاقتصاديّ؟ الديكتاتوريّة والفساد؟ صحيح، ولكن إلى حدّ فقط، السبب الأساس هو التكالب الرأسماليّ الداخليّ والخارجيّ من أجل التحكّم بالدول والشعوب وجمع أكبر قدر ممكن من الثروات الطبيعيّة بأبخس الأثمان، مع فتح أسواق دائمة، واستخدام موظّفين بأبخس الأسعار، من أجل مصلحة واحد في المئة من الناس!
من وجهة نظر مسيحيّة، ما هو موقف المؤمن بالله من كلّ هذا؟ يجب أن يهمّنا الموضوع في منطقة تكثر فيها المؤسّسات الدينيّة. بالطبع يمكن للإنسان أن يجمع «إيمانه» بالرأسماليّة مع إيمانه بيسوع، لكنّنا هنا نتحدّث عن رؤيتين متعارضتين، عن سُلَّمَيْن للقيم متناقضين يولّدان هيكليّتين حياتيّتين تنفي إحداهما الأخرى: مسيحيّة تدعو للقداسة بالمحبّة، وللمشاركة كتعبير عن المحبّة، وترى الجماعة البشريّة عائلة واحدة، ورأسماليّة تدعو للجشع وتراكم المال. عندما يحاول الإنسان التوفيق بين رؤيتين متناقضتين للحياة، مثل الرأسماليّة والمسيحيّة، فهو عادة ما يفعل ذلك لكي يغطّي بشاعة ما يرتكبه (أو يتمنّى أن يرتكبه) بشكل ملموس بواسطة الرأسماليّة، بمعطف من المبادئ الفكريّة الجميلة غير الملموسة للمسيحيّة والتي لا يُبقي منها إلّا على فولكلورٍ يخدّر به ضميره.
فضل ماركس على المؤمنين أنّه جعلهم يعون العالم الحقيقيّ الواقعيّ الذي يؤثّر في أفكارهم ويجعلهم يحيون في انقسام بين الأفكار التي يؤمنون بها والحياة العمليّة التي يعيشونها، أي بين إيمانهم الفكريّ وإيمانهم العمليّ. ربّما تصل البشرية يوماً إلى وقت «تتصالح فيه مع الماركسية من دون اقتباس إلحادها» كما قال يوماً المطران جورج خضر، إن لم تفعل فستودّع الأجيال القادمة الكوكب وهي في قلب مأساة.

* كاتب وأستاذ جامعي