لم يكن شعار «لا غالب ولا ومغلوب» دوماً عنوان النهايات السعيدة للأزمات السياسية المتكررة في لبنان. فقد انتهت الحرب الأهلية بهزيمة واضحة لمشروع اليمين اللبناني، تمخّض عنها دستور الطائف الذي خسر من خلاله «المسيحيون» معظم امتيازاتهم السياسية المتمثلة في صلاحيات رئيس الجمهورية. ولأنّ هذه الهزيمة لم تكن بالضربة القاضية، بل بالنقاط، كان علينا أن ننتظر تشكّل ظروف سياسية أخرى مواتية لعودة الروح إلى هذا المشروع الذي أراد دائماً لـ«المسيحيين» أن يكونوا الأداة السياسة والعسكرية للغرب الاستعماري في لبنان. وها هو يعود، بعد أحد عشر عاماً، مع خروج سمير جعجع من سجنه. لكن، كان لأكثرية المسيحيين رأي آخر. فقد أظهر تطور الأحداث أن موقف «الشارع المسيحي» الحقيقي في ظل حقبة الحرب الأهلية لم يكن هو ذاك التي عكسته أحزاب اليمين اللبناني، المتمثلة آنذاك بقوى الأمر الواقع: «الكتائب» و«القوات». وإلا لما كان للجنرال ميشال عون أن يستحوذ، لاحقاً، على ثقة المسيحيين ليحقق إنجازات تاريخية نقيضة للأيديولوجية العميقة للمارونية السياسية. فقد استخلص المسيحيون نتائج الحرب الأهلية وعبّروا عنها من خلال مناصرتهم لتيار العماد عون، الذي اعتبر أن المسيحيين في لبنان دفعوا ثمناً باهظاً في هذه الحرب، قتلاً وتهجيراً، وهم لن يعودوا بعد الآن رأس حربة الغرب ضد شعوب المنطقة في صراعها مع إسرائيل وضد قضيتها الفلسطينية العادلة. وأن المصلحة الحقيقية لهم هي في البقاء على هذه الأرض، وأن لهم دوراً في هذا المشرق، نقيضاً لسياسات الغرب الذي يريد تفتيت مكوناته خدمة لصنيعته إسرائيل التي هي الخطر الحقيقي على وجود لبنان. وهذا كله كان يرسم للمسيحيين دوراً سياسياً مغايراً لما كان عليه إبّان الحرب الأهلية.
من هنا أتت وثيقة التفاهم بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» تجسيداً لهذه الرؤية الجديدة. فلبنان ليس إلا دولة مواجهة، وبالتالي لا يمكنه إلا أن يكون مقاوماً بالضرورة. من هنا، يصبح الموقف العدائي من المقاومة، من وجهة نظر المصلحة الوطنية، غير منطقي، لا بل مستحيلاً. والموقف من سلاحها سيظل مرتبطاً بمسار الصراع العربي–الإسرائيلي. وهو بالأساس مشكلة لإسرائيل من دون غيرها، وإنّ أي محاولة لنزع هذا السلاح، أو إثارة وجوده، من قبل قوى محلية، كما يجري الآن، ستصبح مشكلة داخلية لبنانية تقوّض السلم الأهلي ولا تخدم سوى الغرب.
وبالإضافة إلى هذا التحوّل الكبير في موقفهم من القضايا الوطنية الكبرى، كان لا بد لـ«المسيحيين» أن يكون لهم موقف معارض من كل السياسات الاقتصادية والإدارية التي تميّزت بها حقبة ما بعد الطائف، والتي أدّت إلى كل هذا الفساد الذي نخر بنيان الدولة. وبالرغم من أن الإصلاح الذي أراده «التيار الوطني الحر» لا يصل إلى تغيير جذري في بنية النظام اللبناني، بل مجرد إعادة العمل بالقوانين الدستورية، تصدّت له كل الطبقة السياسية اللبنانية التي عملت جاهدة على إفشال عهد الرئيس ميشال عون، الذي إن نجح في شيء فهو في رمي التحدّي في وجهها معلناً أن الأوضاع لن تعود إلى سابق عهدها بعد الآن.
ماذا لو تمّت استعادة هذا «الشارع المسيحي» من قبل اليمين اللبناني المتطرف الموالي للغرب؟ إنها هواجس مشروعة بالتأكيد


ولكن، إذا أردنا أن نقيِّم النتائج العملية لهذا التحوّل الكبير عند المسيحيين، لوجدنا أن «التيار الوطني» الذي كان يوماً ممثلهم الأكبر، فقدَ اليوم، بسبب الحملة الكبيرة عليه، شيئاً من زخمه، مما قد يهدّد كل هذه الإنجازات التي تحدّثنا عنها أعلاه. فبالرغم من أننا ندرك صعوبة أي إصلاح في هذه المرحلة الدقيقة من عمر الأزمة، نظراً لترابط الوضع المحلي مع الإقليمي، إلا أن السؤال الذي يطرح اليوم على محور المقاومة: أمام كل هذه الإخفاقات وحملة العداء ضدهم داخلياً وعربياً ودولياً، ماذا لو أعاد المسيحيون النظر في كل هذه التحولات؟ ماذا لو تمّت استعادة هذا «الشارع المسيحي» من قبل اليمين اللبناني المتطرف الموالي للغرب؟ إنها هواجس مشروعة بالتأكيد.
فحين تبدو الطوائف اللبنانية متجانسة سياسياً، نجد أن الصراع المسيحي-المسيحي يشتد أكثر فأكثر. وهذا ليس صدفة أو بسبب المصالح الخاصة، بل انعكاساً لجوهر مشكلة لبنان: في أن يكون تابعاً للغرب أو لا يكون. وهذا أيضاً يعطينا فكرة عن حجم المشكلة الحقيقية التي سببها هذا التحوّل المسيحي، ليس فقط لمصالح الغرب في لبنان، بل لـ«الأيديولوجية المارونية» العميقة أيضاً. ومع هذا كله، نجد أن موقف بعض الأطراف السياسية لا تشفع لرئيس «التيار المسيحي» جبران باسيل. علماً أن أي استدارة شخصية لهذا الأخير نحو الغرب، مغايرة لتلك التحولات التاريخية التي ذكرناها سابقاً، قد تأتي به رئيساً للجمهورية وبأصوات ألدّ أعدائه الحاليين.
المهم هنا ليس شخص الرئيس، بل كيف نحفظ للشارع المسيحي الأمل في إمكانية إصلاح هذا النظام وفي بقاء لبنان وطناً نهائياً لهم أمام مغريات الهجرة التي تعرضها عليهم السفارات الأجنبية بهدف إفراغ هذا الشرق من تنوّعه الديني، وكيف نؤمّن لهم ولكل اللبنانيين وسائل الصمود في هذه الحرب الاقتصادية التي يواجهها لبنان نتيجة لهذا الانعطاف المسيحي. فالدور الذي يلعبه المسيحيون المشرقيون في الصراع مع الغرب كبير وهذا ما نراه من حجم الانزعاج الغربي من الدعم المسيحي للمقاومة الإسلامية.
من هنا، نرى ضرورة أن يقوم محور المقاومة بخطوات لتعزيز صموده. هو يمتلك كل المقومات ليأخذ المبادرة وليفرض شروطه وليكسر الحصار الذي يستهدف بيئته وبيئة حلفائه أيضاً. ولا بد لنا من الإشارة إلى ضرورة توسيع مفهوم البيئة الحاضنة. فالبيئة الحاضنة للمقاومة ليست شيعية فقط. هي تمتد على مساحة كل الوطن ويجب العمل على تحصينها أيضاً، بخاصة أننا قد نكون مقبلين على مرحلة تصعيد الحملة ضد المقاومة من دعاة التطبيع في لبنان الذين، شيئاً فشيئاً، يصبحون أكثر فجوراً ووقاحة.
في المقابل، الأسئلة المشروعة تطاول الممثل السياسي للمسيحيين أيضاً. هل التحول إلى «المشرقية» كان خياراً تكتيكياً لهدف الحفاظ فقط على الوجود المسيحي، أم إنه قناعة راسخة وخيار موضوعي وتوحيدي لكل المنطقة؟ لأن الممارسة السياسية لـ«التيار الوطني الحر»، رغم حسن النوايا التي قد تكون خلفها، تقع في خطأ كبير حين تحوّل في هذه المرحلة صراعها مع الفساد وممثليه السياسيين إلى صراع رئيسي يعرّض البلاد والمقاومة إلى توتر داخلي خطير ويدفع بهما إلى الهاوية أو إلى حافتها، بخاصة في هذه المرحلة التي تتطلب منا معرفة أنّ الصراع الحقيقي هو مع هذا الاحتلال الأميركي للبنان، والذي هو ما يمنع أي تغيير وإصلاح، وهو الحامي الأساسي لتلك الطبقة السياسية الفاسدة والقادر على إعادة إنتاجها في أي وقت، وهو على استعداد لافتعال شتى أنواع الأزمات لحمايتها وصولاً إلى الحرب الأهلية.
وهذا الخطأ وقعت فيه بعض الأحزاب اليسارية أيضاً حين حوّلت التناقض الثانوي إلى تناقض رئيسي. فبدل أن يكون هدف هذه القوى العمل على استراتيجية مناهضة للاحتلال الأميركي للبنان، فاتحة بذلك أفقاً للتحرر الوطني الحقيقي، نراها تصوّب على القوى التي هي في مكان ما الأقرب إلى المقاومة، بحجة تلازم التحرير الوطني مع التحرير الاجتماعي، وفي النهاية لا تحقق أي إنجاز.
إنّ «المشرقية» والالتزام بقضية التحرر الوطني العربي ليست مجرد تكتيك سياسي عند المسيحيين، هي خيار وجودي وتاريخي وأخلاقي، ويجب على «التيار الوطني الحر» القطع نهائياً مع محاولات التمثّل باليمين المتطرف اللبناني، وعليه الكف عن الاعتقاد بأن دور المسيحيين في أن يكونوا همزة وصل بين الشرق والغرب. نعم، إن تبني الفكر الأوروبي النيّر هو قيمة زائدة نحتاجها لتطور بلداننا، لكنه ليس وسيلة لتمرير مصالح الغرب الإمبريالي. كما عليه أن ينفتح أكثر على حوار صريح وعلني مع القوى التحررية التي لطالما كانت مناهضة لسياسات التطبيع وبعيدة من الفساد السياسي.

* كاتب لبناني