لم تتحوّل المسألة الأوكرانية في «دونباس» بعد إلى قضية لاجئين. ينقصها فقط ختم الأمم المتحدة ومؤسّساتها ، وهذا ما تحاول روسيا «جرّ العالم إليه»، بعدما باءت محاولاتها فكّ الحصار الإعلامي (نجحت rt جزئياً في تظهير القضية إنسانياً عبر إبراز جانب معاناة السكّان هناك جرّاء القصف والحصار العسكري) عن أهالي جنوب وشرق أوكرانيا بالفشل. هذا ليس تحوّلاً بالمعنى الايجابي، ولكنه على الأقلّ يدفع بالقضية إلى الأمام قليلاً، ويختبر مجدداً «المعايير الدولية» في التعامل مع قضايا الاضطهاد القومي والطبقي و... الخ.
الروس فعلوا المستحيل لدعم الاحتجاجات، ولوضعها في سياق ما يحصل في العالم (رغم أنهم مسؤولون عن سحق أكثر من احتجاج في الفترة الماضية، وعلى رأس القائمة طبعاً تأتي سوريا)، وقد قالوا منذ البداية إنّ ما يجري في الشرق والجنوب إنما هو مطالبة مشروعة بحقوق تهدّد سلطات كييف الجديدة بانتزاعها.
هذه السردية تكرّرت أكثر من مرّة وخصوصاً على لسان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وجرى تأكيدها من خلال الدعم السياسي واللوجستي الذي أبدته روسيا للإدارات المحلّية المستقلة التي أنشأها سكّان «دونباس». كان لا بدّ للسياسة هنا من أن تظهر كواجهة للصراع، فعبرها فقط يمكن الضغط على الخصوم وانتزاع التنازلات منهم بالنيابة عن القوّات العسكرية التي تتقدّم أو تتراجع على الأرض.

على اليسار في كلّ العالم أن يسأل نفسه هذا السؤال: ماذا فعلنا لدونباس؟

في هذا السياق كان استقلال شبه جزيرة القرم محطّة أساسية، فمن خلاله جرى تثبيت أوّل مكسب فعلي للحراك الشعبي في جنوب أوكرانيا، ورغم أنه لا يشبه بنيوياً نظيره في «دونباس»، إلا أنّ التصميم الشعبي الذي انطوى عليه بدا وكأنه رافعة لاحتجاجات مقبلة، أكثر جذرية ونضجاً. الجذريّة بهذا المعنى هي في عدم الاحتكام دائماً إلى الصندوق، فأحياناً وفي ظروف تاريخية معينة لا يعبّر هذا الأخير عن مصالح الكتل الاجتماعية المنتفضة، وقد يكون بالعكس وبالاً عليها، وخصوصاً إذا جرى الإشراف على الانتخاب من جانب السلطة المركزية الفاشية التي تقمع احتجاجات السكّان وتنتزع حقوقهم بالقوّة. في القرم جرى الاقتراع على الاستقلال بإشراف ذاتي وبمواكبة من قوّة صديقة وحليفة هي روسيا، بينما في «دونباس» يستحيل أن يحصل الاقتراع من غير القيام بعملية تفكيك للسلطة القائمة التي تقمع الشعب وتمنعه من مزاوله «حقوقه الأساسية». لهذا السبب بالتحديد قامت الانتفاضة المسلّحة في «دونيتسك» و»لوغانسك» معقلي الاحتجاج الشعبي الأساسيين في «دونباس»، فالناس هناك لا يملكون ترف الاقتراع والذهاب الطوعي والحرّ إلى الصناديق كما فعل سكّان القرم، وحين جرّبوا مزاولة ذلك على نطاق ضيّق و«صوري» (انتخاب برلماني الشعب في «دونيتسك» و«لوغانسك» وإعلانهما «جمهوريتين» مستقلّتين عن أوكرانيا)، جوبهوا بحملة عسكرية همجية استخدمت فيها السلطة كلّ الوسائل لقمعهم، ومن ضمنها طبعاً زجّ الجيش في مواجهتهم.
أمام هذا الزجّ والسعي السلطوي الحثيث إلى تأليب الأوكرانيين بعضهم ضدّ البعض الآخر كان لا بدّ للناس في الشرق والجنوب من تنظيم أنفسهم لمواجهة طويلة ومكلفة. وبالفعل بدأ العمل على تلك المواجهة ما إن لاحت طلائع الجيش الأوكراني المستقدمة لسحق الانتفاضة وتطويق مدينتي «لوغانسك» و»دونيتسك». على الأثر ربطت تلك المناطق لوجستياً بروسيا ولكن مع إعفاء الروس من تبعات ذلك، فهم يقومون بدورهم وفقاً لتوزيع أدوار محكم بين الطرفين (الإدارة المحلّية في «دونباس» وروسيا) ولا يحتاجون بالتالي إلى مزيد من المواجهات المجّانية مع الغرب الذي يرعى سلطة كييف. هذا التنسيق سمح للقيادات الشعبية المنتخبة في «دونباس» بأن تتحرّك «بسهولة» وتنسّق المواجهة على الأرض بعيداً من أعين السلطات الأوكرانية. لا يعني ذلك أنّ الحركة كانت بعيدة بالكامل من قبضة نظام كييف، ذلك أنّ الحدود في المناطق الشرقية والجنوبية بقيت قائمة، وكذا المبادلات التجارية الرسمية مع روسيا، ولكنها أضحت مقيّدة أكثر من ذي قبل، وباتت تخضع لرقابة «قوّات الدفاع الشعبي» التي شكّلتها الإدارة المحلّية المنتخبة في «دونباس». كلّ ذلك كان يجري بعلم السلطة التي بدت عاجزة عن إيقاف التمرّد رغم وقوف الغرب بقضّه وقضيضه خلفها.
الأرجح أنّ عزمها بدأ يتراجع أمام تماسك الشعب في الجنوب والشرق ووقوفه خلف إدارته المحلّية المنتخبة، ولم يعد أمامها بالتالي سوى سحق الحراك وتدمير حواضنه الاجتماعية. هكذا، تراجعت استراتيجية الاعتقالات الجماعية للنشطاء السياسيين في الجنوب والشرق ليحّل محلّها ما هو أسوأ: الحصار والإطباق الكامل على المدن بغرض إخضاعها أو تهجيرها. نتذكّر في هذه المناسبة سوريا ما قبل سيطرة التكفيريين و»تخادمهم مع النظام»، حيث يتعذّر التمييز بين المدني والمسلّح، ويصبح الاثنان تحت وطأة الفعل ذاته: إما أن نقتلك أو نقتلعك من الجذور. في أوضاع كهذه تتضاعف أعداد الضحايا نتيجة لاستخدام الأسلحة الثقيلة، ولا يعود بالإمكان الحديث فقط عن «حملة عقابية» كما يقول الروس في إعلامهم «المهذّب» الرسمي والخاصّ. معايير التعامل مع الضحايا أنفسهم تصبح مختلفة في الحرب التي يشنّها الجيش على السكّان ومقاومتهم المسلّحة، إذ تغدو معاناة الناس بفعل الحصار (انقطاع المياه والكهرباء ونفاد الوقود والطعام وتضرّر المرافق الصحّية والخدمية و... الخ) أهمّ من القتلى الذين يسقطون من الجيش الأوكراني (وهم بالمئات على أقلّ تقدير)، فهؤلاء بمعايير الحرب التدميرية ضدّ الشعب يعتدون على المدنيين ولا يجابهون المقاومة الشعبية المسلّحة وحدها. وعليه لا يعود الاقتصاص منهم فعلاً إجرامياً إلا إذا اندرج في إطار التمييز الذي تمارسه السلطة بين المجنّدين على أساس طبقي وقومي.
حتى الآن تحاول «قوّات الدفاع الذاتي» في «دونباس» تفادي هذا المأزق، بحيث تنأى بنفسها عن التقتيل الجماعي بحقّ المجنّدين وخصوصاً الفقراء منهم، ولكنها لا تنجح دوماً، فحين تسقط طائرة عسكرية بمن فيها من مجنّدين لا يكون من السهل التمييز بينهم على أساس اجتماعي أو اقتصادي أو... الخ. طبعاً، لا يصبّ هذا الحرص الأخلاقي في مصلحة قتالهم ضدّ السلطة، فهم يتراجعون، بالضبط، لأنهم لا يتصرّفون مثلها، ولا يستهدفون بيئتها الاجتماعية ومدنييها بالتدمير الشامل كما تفعل. والمؤسف أنّ لا شيء من هذا يظهر على وسائل الإعلام خارج روسيا. حتّى «الإعلام العربي» الذي يخاصم سلطة كييف ويوالي بشكل أو بآخر موسكو يستخدم تلفيقات وتفاهات من قبيل وصف القوّات التي انتخبها الشعب لتدافع عنه «بالانفصاليين». «الانفصاليون يسقطون طائرة عسكرية أوكرانية قرب دونيتسك»، «الجيش الأوكراني يستولي على نقاط تفتيش تابعة للانفصاليين في سلافيانسك». وأخيراً: «أوكرانيا تتهم انفصاليي دونيتسك بإسقاط الطائرة الماليزية ومنع المراقبين التابعين لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا من ممارسة عملهم في محيط المكان الذي سقطت فيه الطائرة». يجرى حشو هذا اللغو يومياً في الصحف، على أساس أنه منقول عن وكالات أنباء مثل «رويترز» وغيرها، في حين أنّ ما يلزم لتمحيصه والمطابقة بينه وبين الواقع الفعلي في «دونباس» لا يتعدّى دقائق معدودة، إذ يتبيّن فوراً لدى التدقيق فيه أنه منقول بالحرف عن تقارير وتحقيقات ومقالات رأي لكتّاب غربيين يشتغلون كإمّعات لدولهم وكملمّعين لقذارات سلطة كييف. لا يجرؤ أحدهم على كتابة جملة مفيدة واحدة عن الأحداث في أوكرانيا، وخصوصاً بعد تطوّرها الدراماتيكي وصيرورتها حرباً سلطوية اجتثاثية ضدّ أهالي ومقاومي «دونباس». في ضوء هذا التطوّر يغدو الانتصار لسلطة كييف عبئاً على صاحبه، ويصبح الكلام عن المدنيين ومعاناتهم متلازمة ضرورية لمحو ما علق في أذهان المتابعين (على قلّتهم) من انحياز وضيع للفاشية النتنة القابعة في كييف. في السياق نفسه يبرز الاهتمام الدولي الطارئ بقضية اللاجئين الأوكرانيين في روسيا، فبعد اطمئنان الغرب الذي يدير الشؤون الإنسانية للعالم لتقدّم حلفائه في «دونباس» و»اقتراب سقوط دونيتسك» (المعقل الأخير لقوّات الدفاع الذاتي) أعطيت الإشارة لانعقاد مجلس الأمن الذي تترأس دورته الحالية بريطانيا، وأصبح بالإمكان تخصيص جلسة طارئة له لمناقشة الأوضاع الإنسانية في أوكرانيا.
يريد هؤلاء وعلى رأسهم الولايات المتحدة من جلسة كهذه نزع الطابع السياسي عن جرائم حلفائهم في «دونباس»، وتضييق الاشتباك المتمادي مع روسيا، بحيث تصبح «التسوية» ممكنة على قاعدة الإقرار المشترك بالقضية الإنسانية هناك. على هذا الأساس تحرّكت الأمم المتحدة بعد طول غياب وأعلنت على لسان أحد مسؤوليها في أوروبا (فينسان كوشتيل رئيس المكتب الأوروبي لإدارة المفوض الأعلى لشؤون اللاجئين) «أن 730 ألف شخص فرّوا إلى روسيا منذ اندلاع الأزمة في شرق أوكرانيا، توجّه نحو 170 ألف منهم إلى هيئة الهجرة الروسية»، مضيفة «أنّ هنالك 117 ألف نازح داخل أوكرانيا نفسها». وأردف المسؤول الأممي الذي عاد منذ فترة وجيزة من مكان الأحداث، قائلاً في مؤتمر صحافي في جنيف بحسب وكالة «ايتار تاس» إنّ: «المعارك في المدن ذات الكثافة السكّانية الكبيرة قد تؤدي إلى هجرة جماعية للسكّان وتدمير كبير للبيوت».
روسيا من جهتها رحّبت بهذا الاهتمام الخبيث على قاعدة حصر الضرر، فهي لم تفلح رغم كلّ جهودها في توفير رافعة سياسية لقضية «دونباس»، وبقيت تعوّل إلى جانب الدعم العسكري واللوجستي على الدور الإعلامي الذي لعبته «روسيا اليوم» وباقي أذرعها الدعائية. وحين تبيّن أنها «خسرت» أيضاً المعركة الإعلامية لجأت كخيار أخير إلى «المؤسّسات الدولية» المعنيّة بالشأن الإنساني. جلسة مجلس الأمن المرتقبة بهذا المعنى ليست ذات صلة، فهي وان كانت ستسلّط الضوء على معاناة المدنيين في جنوب وشرق أوكرانيا، إلا أنها ستفتح في المقابل المجال أمام الغرب ودوله لكي يمحو الأثر السياسي العميق الذي خلّفته سياساته الكولونيالية الجديدة في روسيا ومحيطها. بدورها، تستفيد روسيا من جلسة كهذه لاستعراض قواها الدبلوماسية أمام العالم وتحميل الغرب مسؤولية ما يحصل من قتل ومجازر في «دونباس»، وهي إذ تفعل ذلك تعرف أنّ قوتها مقيّدة وأنها معنيّة فقط بترسيم حدود الاشتباك مع الغرب، لا بدحره ومن معه من كييف. هي الآن تستعرض عسكرياً على الحدود مع أوكرانيا، ولا تكفّ عن إجراء المناورات هناك، ولكنها من حيث المبدأ «خسرت الجولة». لم تخسرها عسكرياً أو استراتيجياً، بل سياسياً. الانتفاضة المسحوقة والمنسيّة في «دونباس» كانت فعلاً سياسياً واحتجاجياً كثيف الدلالة، والاعتماد عليها كركيزة أساسية للقوّة الناعمة الروسية كان ذا مغزى كبير بالنسبة إلى الشعوب. الآن، وبعد إجهاز الفاشية الأوكرانية الحاكمة على «لوغانسك» وتطويق «دونيتسك» عادت روسيا كما كانت: قوّة إقليمية كبرى تمالئ الشعوب براغماتياً، ولا تهتمّ كثيراً بنصرة قضاياها، لا بل تقف ضدّها كما في الحالة السورية. «دونباس» بهذا المعنى ليست مسألة لاجئين فقط، وإنما أيضاً رافعة احتجاجية عظيمة لكلّ من وقف معها ودعمها ضدّ الفاشيين السفلة في كييف. على اليسار في كلّ العالم، وليس في روسيا وحدها أن يسأل نفسه هذا السؤال: ماذا فعلنا لدونباس؟
* كاتب سوري