حل الرئيس الصيني ضيفاً هاماً على الرئيس الروسي في موسكو. زيارة تدور رحاها حول السعي لتشكيل نظام عالمي جديد، ووضع حد للهيمنة الأميركية على العالم. هذه الزيارة تشكل محطة تاريخية لرؤية صينية للتغيير الدولي، عبّر عنها شي جين بينغ بطريقة أو بأخرى، بأن اللحظة أصبحت مؤاتية للتحول من نظام تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية، إلى نظام متعدد القوى، يقوم على الاعتماد المتبادل والاحترام المتبادل، ويكون القانون الدولي فيه هو الفيصل بين الدول والشعوب، بالتالي يضع حداً للهيمنة الأميركية المطلقة على العالم.في المقابل، يعتز صديق شي جين بينغ، فلاديمير بوتين، بالتكامل والعمل كتفاً إلى كتف مع الصين، ما يجنب روسيا العمل منفردةً في مواجهة «الجهود الأميركية العنيفة بشكل متزايد لردع روسيا والصين»، فلا يخفى أن انكسار روسيا في الحرب الأوكرانية التي يقودها الغرب سيؤدي إلى تثبيت الهيمنة الأميركية على النظام الدولي. لذا أكد بوتين، في مقال له قبل زيارة الرئيس الصيني إلى موسكو، أن «نوعية الروابط بين موسكو وبكين تفوق نوعية الاتحادات السياسية والعسكرية، التي كانت قائمة إبان الحرب الباردة».
يرى بوتين بشكل واضح أن ما يحصل من تحديد للمجال الحيوي لروسيا، هو بفعل أميركي عبر دعم أوكرانيا في الحرب، «ففي وقت تنتهج الولايات المتحدة سياسة الردع المزدوج لروسيا والصين، فإن موسكو وبكين تعملان على إنشاء نظام أمني عادل ومنفتح وشامل، وغير موجه ضد دول أخرى على الصعيدين الإقليمي والعالمي». يأتي ذلك في مواجهة مساعي «الناتو» الهادفة، وفق بوتين، إلى «تقسيم الفضاء الأوراسي في أندية حصرية وتكتلات عسكرية، تهدف إلى كبح تنمية بلداننا وتقويض مصالحنا»، وهو ما كان قد تحدث عنه وحذر منه مراراً وتكراراً المفكر الروسي ألكسندر دوغين.

هواجس أميركية من التحول في النظام الدولي
وفق ما تقدّم، بات الحديث أكثر جدية عن انطلاق حقبة جديدة في العلاقات الدولية وبالتالي الحديث عن تغيرات وتبدلات في النظام الدولي، حيث تتغير السلوكيات الدولية في التعامل مع الأزمات وحل الصراعات والنزاعات.
الزيارة الهامة للرئيس الصيني إلى موسكو، والتي أتت في غمرة الحرب الروسية - الأوكرانية، والتوحش الأميركي في الدفاع عن الريادة العالمية للغرب، تأتي تكملة للبيان الروسي - الصيني المشترك عن دخول العلاقات الدولية عصراً جديداً، بعدما زار بوتين العاصمة الصينية بكين. إذاً، فإن الطرفين يعلنان بشكل واضح بأنّ الخطوات لتحقيق هذا العصر الجديد أصبحت جاهزة، بل ربما تكون دخلت حيز التنفيذ، وهذا ما سينعكس على تحصين المصالح المشتركة للقوى المناهضة للسياسات الأميركية والقضاء على منطق الأحادية.
ولا شك أن تراجع القوة الأميركية يعد هاجساً عميقاً يؤرّق أعمدة الفكر الاستراتيجي الأميركي، الذين يتحدثون عن كيفية إدارة التراجع بالشكل الذي يصل ببلادهم إلى أن تكون إحدى القوى الرئيسيّة بدلاً من أن تنهار. وعلى حدّ تعبير المفكر الأميركي روبرت كابلان، فإنه ليس هناك شيء أفضل بالنسبة إلى بلاده من تهيئة العالم لاحتمال زوالها، وترتيب آلية مناسبة للتراجع المتناسق كي تطيل من أمد بقائها كأمّة قوية، وفي ذروة هذا التحوّل، تتّجه أنظار العالم نحو الصين، الدولة التي لم تعُد منكفئة على ذاتها، والتي أصبحت جاهزة لمقارعة الهيمنة الأميركية.
ومع الصعود الصيني ازدادت هذه الهواجس للإدارة الأميركية، فرأى زبيغنيو بريجنسكي في كتابه «رؤية استراتيجية: أميركا وأزمة السلطة العالمية» بأن الولايات المتحدة لن تكون متمتعة بالمكانة الدولية ذاتها والتفرد بالزعامة، فيما يرى هنري كيسنجر أن «النظام العالمي الجديد يستحيل أن يكون أحادي القطب، بل ينبغي أن يكون متعدد الأقطاب، مشتركاً بين الولايات المتحدة والصين».
يشكّل السعي الحثيث للوقوف في وجه الهيمنة الدولية الأميركية سبباً واضحاً لتأجيج الصراعات العالمية


بطبيعة الحال، لن تكون روسيا، بحسب كيسنجر، القابضة على قيادة العالم، لتعيد تجربة الولايات المتحدة، لكنها تهديد مباشر لقيادة واشنطن للنظام الدولي، بالتالي فلا مناص من عالم متعدد الأقطاب. ومع تضافر جهود موسكو وبكين، وعدم ترك روسيا تواجه الغرب وحدها في مجالها الجيوستراتيجي، سيؤدي ذلك إلى السير في التغيير المنشود الذي أتت الزيارة الصينية لتعبر عنه حقيقةً.
لقد أكدت الولايات المتحدة نفسها، في استراتيجية جو بايدن للأمن القومي، أنها ستعطي الأولوية للتفوق على الصين التي تعتبرها منافسها العالمي الوحيد في وقت تعمل أيضاً على كبح جماح روسيا «الخطرة». وورد في الوثيقة أنه حتى بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، فإن الصين لا تزال تشكل التحدي الأكثر أهمية للنظام العالمي.
وأضافت أن روسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين «تشكل تهديداً مباشراً للنظام الدولي الحر والمفتوح، وتنتهك اليوم بشكل متهور القوانين الأساسية للنظام الدولي، كما أظهرت حربها العدوانية الوحشية ضد أوكرانيا». أمّا الصين «في المقابل، فهي المنافس الوحيد الذي لديه نية لإعادة تشكيل النظام الدولي وتملك بشكل متزايد القوة الاقتصادية والديبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف». وقال مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إن الصين عاقدة العزم وقادرة، بشكل متزايد، على إعادة تشكيل النظام العالمي.

تصاعد حدة الصراعات
ويشكّل السعي الحثيث للوقوف في وجه الهيمنة الدولية الأميركية سبباً واضحاً لتأجيج الصراعات العالمية. وبالتالي، هناك تشكل لتكتل واضح ضدّ الهيمنة الأحادية القطبية للولايات المتّحدة الأميركية، والتحوّل من مجرّد التماشي واحتواء السيطرة، إلى البدء في الانتقال إلى المواجهة، فالقوى العظمى تخسر قيادتها، عندما تقوم القوى المناوئة لها بمواجهتها.
وتُعدّ مرحلة التحوّل من نظام دوليّ إلى آخر، من أخطر المراحل في العلاقات الدولية. وهنا يحذّر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الولايات المتّحدة من الانعزال عمّا يجري في العالم. كذلك، يحذّر في كتابه «النظام العالمي» من خطورة الانتقال إلى الميدان المفتوح لأكثر المساعي التوسعية وأكثر اللاعبين عناداً. ولعلّ الاضطرابات والحروب الدائرة رحاها في أكثر من منطقة في العالم خير دليل على عمق الأزمات التي تعصف بالنظام الدولي.

أوكرانيا ساحة للمواجهة
لا تنفصل الحرب الأوكرانية عما يحصل في هذه الساحة التي تتنافس وتتواجه فيها هذه القوى، وما يزيد من حدتها هو تعدد الأطراف فيها، حيث أن هذه الحرب هي مواجهة بين الغرب وروسيا، ومحاولة احتواء الإدارة الأميركية لروسيا، وتصوير موسكو أيضاً على أنها تهديد رئيسي لا بد من محاصرته في العالم، وكذلك سعي الولايات المتحدة لمواجهة للصين عبر محاصرتها تارة وضرب حلفائها الاستراتيجيين تارة أخرى. فالانقسام الحاد بين القوى الدولية، يظهر من خلال التنافس على المصالح الجيوبولتيكية والاقتصادية بين روسيا والصين من ناحية، والولايات المتحدة وحلف «الناتو» من ناحية أخرى، ما يجعل التفسير الواقعي للعلاقات الدولية يظهر أن النظام الدولي يقترب من الهاوية.
وما يزيد من الصراع وتوتر العلاقات وتصاعد حدة المواجهة هي أن كل معسكر يملك عوامل ومقومات تجعله قادراً على المواجهة، بل قادر في لحظة ما على اتخاذ قرار يغير مصير كل النظام الدولي، وهذا ما يجعل العالم يدفع تكاليف كبرى لما يحصل.
وتظهر الحرب الأوكرانية أن روسيا تبحث عن إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية لجوارها، ووقف توسع حلف «الناتو» على التخوم الروسية، ما يعني أيضاً رسم خريطة العالم السياسي، كما أن بكين تعيد حالياً رسم خريطة العالم الاقتصادية، في المقابل نشهد محاولات أميركية لاحتواء الطرفين في لحظة تراجع النفوذ الأميركي في العالم وتدني التأثير في النظام الدولي.
وفي حال تمكنت روسيا من تقويض دور «الناتو» ومن خلفه الولايات المتحدة في شرق أوروبا، إلا أن ذلك لن يعني الانكسار الكلي للهيمنة، لكن لا شك أننا تحولنا إلى النظام المتعدد الأقطاب، بالتالي لا بد في نهاية المطاف من لحظة حساسة تنهي الهيمنة الموجودة من قبل الولايات المتحدة.
إذاً، يقف النظام الدولي على شفير الهاوية، حيث تكثر فيه التصدعات والخلافات والأزمات، وما يحصل هو مرحلة انتقالية حرجة، تشهد تغيير القواعد الثابتة في العلاقات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتحول الولايات المتحدة الأميركية إلى قوة الهيمنة المطلقة، لكن هل سيقف الأميركي مكتوف الأيدي، أم أن وحشيته ستزداد للدفاع عن هيمنته.

* أستاذ جامعي،
باحث بالعلاقات الدولية