بعد ربع قرن على وفاة رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي إنعام رعد، لا يسعنا إغفال مآثره الكثيرة وهو المعتنق لفكر معلّمه سعادة والمؤمن بوحدة هذه الأمة. لقد رفض إنعام رعد لقب الباكوية العثماني الذي ورثه عن والده، واستبدله بلقب الرفاقية القومي الاجتماعي، وباعتناقه العقيدة القومية الاجتماعية كان حريصاً على إبقائها عقيدة حيّة عصيّة على الاندثار والفناء وذلك بالتزامه بها محوراً رئيسياً في تفكيره، ما فرض عليه رفض أي اقتباس عقائدي من خارجها، كما كان حريصاً على متابعة المتغيّرات في السياسة الدولية لما لها من تأثير على قضيتنا القومية في فلسطين. وحرصه هذا ألزمه اكتساب المعرفة الجديدة من مجمل مصادرها القومية والعالمية.كان هاجس إنعام رعد الفكري مسألة الصراع مع العدو الصهيوني، وهذا ما دفعه إلى تأليف كتابه «حرب وجود لا حرب حدود»، حيث نراه داعياً بإلحاح إلى قيام جبهة شمالية تضمّ العراق والأردن والشام ولبنان، وجبهة جنوبية تضمّ مصر والسودان، داعياً إلى إنشاء جيش عربي اتحادي واحد من الدول التي ليس لها حدود مع الكيان الصهيوني.

وفي دعوته هذه لم يهمل مسألة التصنيع العسكري، ولذلك دعا إلى إنشاء صناعات عسكرية عربية مشتركة تحقق في مدى معين المزيد من الاكتفاء الذاتي العسكري العربي. وهو كان داعية إلى قيام وحدة في دول الهلال الخصيب، ولا سيما أن تجزئة سوريا الطبيعية بموجب سايكس - بيكو كانت تمهيداً حقيقياً لنشوء دولة إسرائيل (كما يقول وايزمن). وكان يرى الخطر الصهيوني على لبنان بالدرجة الأولى، ولذلك دعا إلى تحول الدولة اللبنانية من دولة رفاه إلى دولة تعبئة قادرة على أن تكون في مستوى الخطر الإسرائيلي الداهم.
رأى رعد أن الليبرالية الغربية في محنة بسبب خضوعها للمصالح الصهيونية المالية والسياسية، فهي تنقض القاعدة القيمية التي تضمّنتها ثوراتها الليبرالية الكبرى، وتنحر حرية الشعوب وحق تقرير المصير.
الحل الجذري للمسألة اليهودية، كما يراه رعد، يكون بتصفية الحركة الصهيونية العنصرية والكيان الصهيوني في فلسطين، وتوجّه الصهاينة في فلسطين إلى بلاد كالولايات المتحدة القادرة على استيعاب 3 أو 4 ملايين يهودي وتعطيهم إحدى الولايات، فيتساوى مصير اليهود الذين اضطهدوا في أوروبا، رغم إدراكه أن اليهود والصهاينة لا يقبلون بسبب تحجّرهم المذهبي المتحالف مع الإمبريالية.
وعن دور الجيش والمقاومة في حرب التحرير، يقول رعد: أدى الجيش الفييتنامي الشمالي دوراً تاريخياً خطيراً في إنجاح الثورة في الجنوب وهذا كان عكسه في الأردن الذي ضرب المقاومة، فلا نجاح للمقاومة في ظل أجواء خصومات مشحونة بمؤقت ومتوقفة على شرارة، فيندلع جو التهادن لاهباً مدمراً.
وله رؤية في استراتيجية حرب التحرير مفادها أن لحرب التحرير شروطاً عديدة، أهمها مواجهة الاستراتيجيات الدولية المتآمرة، وأن تكون الجبهة الثورية على مدى البيئة الطبيعية كلها.
وعن تزاوج الإمبريالية والصهيونية، رأى رعد أنه في حرب تشرين 1973، استنفرت أميركا سلاحها النووي وألقت بكل أسلحتها وثقلها في الميدان لمصلحة إسرائيل إذ لا فصل بين أميركا وإسرائيل. وبهذا الصدد يقترح أن يكون البترول العربي هو السلاح الضاغط على أميركا من أجل إعادة النظر في سياستها المنحازة لإسرائيل كلياً.
ينتقد رعد دعوة الاتحاد السوفياتي إلى التعايش السلمي بين العرب وإسرائيل، فيقول: «إنّ دعوة الاتحاد السوفياتي للتعايش السلمي لم يطبّقها الاتحاد السوفياتي نفسه عندما كانت النازية تحتل أراضي روسية، فكيف يدعو العرب إلى التعايش السلمي مع إسرائيل وهي محتلّة فلسطين كلها وأراضي عربية في الجولان وغزة والضفة الغربية».
وحول الصيغة التحالفية بين الأحزاب والقوى الوطنية اللبنانية وصِلَتها بالمقاومة الفلسطينية، يرى أن هذه الصيغة تقصر عن مفهومنا للاستراتيجية الثورية المتكاملة التي لا تفصل بين النضال على جبهة النظام الرجعي العميل والنضال القومي المسلح، فالمطلوب استراتيجية قومية واحدة متعددة الأشكال في النضال الواحد والأهداف الاستراتيجية.
يرى رعد أن تجزئة سوريا كانت مقدمة للتهويد، فقد نسيت أنظمة التجزئة التي عانى منها وطننا، وعشنا في حبوس التجزئة الكيانية وتناقضائها، فانتصرت مرحلة الهزائم 1917 – 1947.
رأى مشكلة الثورة الفلسطينية حيث ينطلق الفدائيون إلى أرض المعركة وليس هناك دولة نواة للثورة متاخمة، بنت نفسها ونظامها في مستوى حرب التحرير الشعبية، وتهيّئ الشعب والبلاد للصمود في وجه مضاعفات حرب التحرير ونتائجها. فليس لثوار فلسطين ما كان لدى ثوار فييتنام الشمالية، ولذلك كان العمل الفدائي ناقصاً بالرغم من كل بطولاته، فقيام دولة نواة للثورة التحريرية مسألة في غاية الأهمية.
ويرى أن حل المسألة الفلسطينية يكون بدفع الهجرة اليهودية إلى خارج فلسطين ويمكن أن نربح معركة فلسطين تحت راية العقيدة الموحدة لشعبنا في مفاهيمه النفسية والاجتماعية والقومية الملتصقة بولائها وجذورها بتراب الوطن. لأن المسألة اليهودية ليست محصورة في الحركة الصهيونية التي وجدت أساسها وجذورها في المسألة اليهودية وفي التراث اليهودي العنصري وفي نظرة اليهود إلى العالم الذين رفضوا الاندماج بأيّ شعب من شعوب العالم.

حول العلاقة مع إيران
يقول رعد في هذا المجال إن الثقل الاستراتيجي الذي انزاح من جانب أميركا وإسرائيل إلى جانبنا يصبح مضاعفاً إذا قامت أوثق العلاقات بين إيران ودول الهلال الخصيب، ويضيع ويهدد جزء كبير منه إذا زرع الاستعمار التناقض بينهما وبين الحركة الوطنية اللبنانية التي يجب أن تكون على أعلى درجات التنسيق والتحالف مع محور بغداد - دمشق.
انظروا اليوم كيف نجد إيران على رأس محور يمتد من إيران إلى الضفة الغربية وغزة. وتشكّل وحدة النضال مع الهلال الخصيب على أساس الخط القومي المتصدّي الثوري خللاً كبيراً في حسابات الإمبريالية والصهيونية وتقويضاً للكثير من خططهما. فهذه الوحدة تتصدّى لكامب ديفيد وتسقط اتفاقاته، وهي تتصدّى لوكلاء أميركا، كما أنها في نظر الإسرائيليين الاستراتيجيين تشكّل خطراً على المشروع الصهيوني في المنطقة كلها.
لقد تحوّلت كلمة إنعام رعد «حرب وجود لا حرب حدود» إلى شعار عميق أكّدته التطوّرات اللاحقة العديدة التي طرأت على سياق الصراع


التعايش السلمي والاتحاد السوفياتي
أيضاً في ما يتعلق بالعلاقة مع الاتحاد السوفياتي السابق الذي كان يقف في طليعة جبهة الأصدقاء في تأييده ودعمه لجبهتنا العربية ضد إسرائيل والإمبربالية، وهذا الموقف بدأ عام 1956، يرى رعد أن الاتحاد السوفياتي كان يقع في خطأ كبير عندما يسحب مفهومه للتعايش بين شعوب حرة تتساوى في حق الوجود على حربنا التحريرية في فلسطين، ذلك لأن لا تعايش سلمي بين حق التحرير والاغتصاب.
نحن نجد اليوم روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي تخوض حرباً في أوكرانيا دفاعاً عن مصالحها الاستراتيجية، ونراهن عليها نحن اليوم لتوقف الهيمنة الأميركية الأحادية عن العالم وقضيتنا القومية.
يقول رعد إن إسرائيل امتداد لأميركا، مستنداً إلى تصريحات أميركية وإسرائيلية. إذ يقول هنري كيسنجر: «إن ما هو جيد للولايات المتحدة في الشرق الأوسط جيد لإسرائيل، ومصالح الولايات المتحدة وإسرائيل تتناسب مع بعضها البعض لأن وجود إسرائيل قوية لمصلحة المصالح الأميركية».
ويقول الكاتب الإسرائيلي حجان رشيد: إن ما هو مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة يتعلق أساساً بالحفاظ على ميزان القوى والردع. بالنسبة إلى العرب والسوفيات، إن وجود إسرائيل قوية سيبقى مصلحة أميركية على الصعيد العالمي (دافار 27/8/1972)، ولذلك: كان الغرض الصهيوني والإمبريالي من تفجير لبنان 1975، وقد تصاعد الكفاح المسلح الفلسطيني عام 1974 وبعد الهجوم الدبلوماسي الفلسطيني في الأمم المتحدة 1973 – 1974 وخطاب رئيس جمهورية لبنان ورئيس منظمة التحرير، أراد المخطط الصهيوني نقل المعركة من فلسطين إلى لبنان، وأراد إسقاط شعار منظمة التحرير الفلسطينية حول الدولة العلمانية بإغراقها في حرب أهلية يكون طابعها طائفياً. وفي سبيل بلوغ هذا الهدف، كان لا بد من رفع شعار الصدام مع الفلسطينيين من موقع تكتل مسيحي طائفي وعلى أساس السيادة اللبنانية، بحيث يبدو الصراع طائفياً ولبنانياً في آن واحد.
كان إنعام رعد نصيراً لحركة التحرر العالمية من الاستعمار، ونصيراً لحركة التحرر في العالم العربي، وهذا ما حدد موقعه الثوري في صف الثوار الذين واجهوا الإمبريالية الأميركية وربيبتها إسرائيل.
تحية إلى ثوار فلسطين في الداخل الذين يواجهون المحتلّ باللحم الحيّ، وتحيّة إلى جميع القوى التي لا تزال على عهد النضال من أجل تحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني الجاثم على صدرها منذ عام 1948 وهو نظام الفصل العنصري الوحيد الباقي في هذا العالم.
لقد تحوّلت كلمة إنعام رعد «حرب وجود لا حرب حدود» إلى شعار عميق أكدته التطورات اللاحقة العديدة التي طرأت على سياق الصراع مع الكيان الصهيوني، ولم تلغه أيّ مستجدات حصلت بعد تأليف كتابه وبعد وضع هذا الشعار في موقع الفعل.
بعده جاءت الثورة الإسلامية في إيران التي أطاحت النظام الملكي للشاه المدعوم أميركياً، وبعده جاءت اتفاقيات السلام المزعوم من كامب دايفد إلى أوسلو إلى اتفاق وادي عربة عام 1993 وإنشاء ما عرف بدولة فلسطين، فكانت انتفاضة الأقصى عام 2000 وما تبعها من انتفاضات قتالية. ها هي تستمر إلى الآن وتتطور لتكسر حتى الدور الأمني لسلطة أوسلو في الداخل وكل الترتيبات الأمنية.
إنّ الانتصار اللبناني على إسرائيل عام 2000 وعام 2006 الذي صنعته المقاومة، وإنّ استمرار حملات المواجهة، لكل خطوات التطبيع التي تجري في الإعلام وفي محاولات غسل العقول التي يقوم بها العدو، وفي محاولات التطبيع الثقافي مع العدو، كل ذلك يصبّ في تأكيد صراعنا أنه صراع وجودي.
لا يسعنا إلا التأكيد أن العمل الجاري أميركياً وصهيونياً اليوم لإنجاز اتفاقات أبراهام مع شركائها المعتمدين في العالم والمنطقة، وجعل الدين أيضاً أداة في هذا الصراع، ما هو إلا تثبيت لمقولة صراع الوجود لا صراع الحدود.
كانت فلسطين قِبلة المناضل إنعام رعد، وستبقى قِبلة كلّ الثوّار الحقيقيّين.

* كاتب لبناني