تذهب النظرية الشائعة إلى أن السومريين شعب مجهول الأصل العرقي والمصدر الجغرافي، وإنه مختلف عن الشعوب «الجزيرية» السامية في كل شيء. وهناك عدة نظريات حول أصوله والمنطقة التي جاء منها إلى جنوب العراق يجدها القارئ في مظانها الكثيرة والمشهورة من كتب وموسوعات. وبعد أن بنى هذا الشعب حضارته تلاشى فجأة واندمج في الشعب الأكدي الجزيري «السامي» وذاب تماماً فيه بعد أن أورثه لغته وحضارته وثقافته، وانتهت حالة المجتمع ثنائي القومية «السومرية الأكدية». وقد بنى الأكديون الساميون حضارة الرافدين في حقبة العصر البابلي القديم بدءاً من سقوط سلالة أور «السومرية» سنة 2004 ق.م وحتى 1595 ق.م، تاريخ سقوط سلالة بابل الأولى، أما الإمبراطورية البابلية الحديثة فهي تلك التي أسسها نبوبلاصر الكلداني سنة 627 ق.م واستمر وجودها حتى سنة 539 ق.م، وكانت آخر دولة رافدانية نشأت وسقطت قبل الفتح العربي الإسلامي الذي أنهى الاحتلال الفارسي الطويل لبلاد الرافدين. تلك هي السردية التقليدية السائدة التي رسخها العلماء والباحثون الغربيون قبل غيرهم حول الموضوع.
وجهة نظر مختلفة: لا وجود للسومريين!
أمّا وجهة نظر الباحث العراقي د. وائل حنون، وهو متخصص بالحضارات القديمة ويتقن اللغتين السومرية والأكدية ويترجم عنهما إلى العربية مباشرة، واكتشف هو شخصياً اثنين من أهم الاكتشافات الآثارية في تاريخ بلاد الرافدين هما مدينة «مَرد» في تل الصدوم، و مدينة «متُران» في حمرين القيمتين، فتذهب إلى نفي وجود شعب يحمل اسم الشعب السومري، ولكنها تؤكد وجود لغة كتابة ابتكرها السكان الأصليون القدماء أو للدقة نخبتهم الدينية والثقافية، وسميت اللغة السومرية في العصر الأكدي البابلي القديم، كنظام خاص من مئات العلامات المقطعية، ولغرض تدوين الحسابات التجارية والزراعية في بداية الأمر ثم تطورت لتصير لغة أدبية ودينية في ما بعد.
في كتابه «حقيقة السومريين ودراسات أخرى في علم الآثار والنصوص المسمارية»، يسرد د. حنون الكثير من الحجج والمعلومات التي يؤسس عليها نظريته وسأستعرض بعضها هنا بشيء من الاختصار:
-عدم وجود دليل مكتوب أو مرسوم في كل النصوص المكتوبة باللغة السومرية على وجود قوم أو شعب باسم السومريين. وأضيف من جانبي؛ عدم وجود أي دليل جيني (DNA) من رفات قديمة لمن أطلق عليهم السومريين. أمّا جينات العراقيين المعاصرين في جنوب العراق فهي الجينات الموجودة لدى جميع سكان المنطقة من العرب الجزيريين نفسها، وبنسبة أعلى كثيراً مما هي لدى شعوب عربية أخرى كاليمن وبلاد الشام والحجاز وشمال أفريقيا...إلخ، كما ذكر أحد مؤسسي علم الجينولوجيا، وهو أناتولي كليوسوف، الذي استشهدنا بكلامه في أكثر من مناسبة حول وجود مجموعة الجين «ج1» الفردانية والذي يسمى أحياناً من قبل التوراتيين الجين الكوهيني أو السامي، وقال كليوسوف إن هذا الجين كان موجوداً لدى العرب قبل أربعين ألف سنة منه لدى العبرانيين -برنامج «رحلة في الذاكرة»- قناة «روسيا اليوم» بتاريخ 5 أيلول 2018.
وفي موضع آخر من الكتاب يتطرق المؤلف نائل حنون إلى نتائج باحث آخر هو أجناس جي جيلب، الذي يؤكد بعد دراسته لنماذج من الهياكل العظمية منذ أقدم العصور في بابل أنها تنتمي إلى النوع المعروف بالفرع الشرقي لعنصر أو جنس البحر المتوسط. أي أنها تماثل الهياكل العظمية للأقوام البدوية في الجزيرة العربية وبادية الشام، ولم يُعثَر على هيكل عظمي واحد من النوع ذي الرأس الدائري الخاص بسكان أواسط آسيا حيث يفترض أن يكون موطن السومريين الأوائل!
أمّا بخصوص الفرق في الملامح والصفات الجسمانية التي زعم بعض الباحثين وجودها بين السومريين وغيرهم من خلال المقارنة بين التماثيل والمشاهد الفنية فيذكر حنون أن الباحث الآثاري طه باقر كان قد رفض وجود مثل هذه الفروق وأعاد الموجود منها إلى الأساليب والطرز الفنية المتبعة في النحت بالدرجة الأولى وأن ما يظهر من هيئات وسحن على تلك التماثيل لا يمثل في الواقع فروقاً قومية بين السومريين والأكديين وإنما هي أزياء خاصة بمقام الشخص المُمَثَّل، بدليل أن السمات التي درج الباحثون على عزوها إلى تماثيل السومريين ظاهرة أيضاً في تماثيل أشخاص في مناطق بعيدة عن المناطق المفترضة للسومريين كمدينة تل ماري في أعالي الفرات «في سوريا الحالية» (طه باقر – مقدمة في تاريخ الحضارات ص 62).
-يؤكد الباحث حنون وجود اللغة السومرية فعلاً كلغة كتابة، ولكنَّ وجود اللغة -كما يحاجج- ليس دليلاً على وجود شعب ناطق بها فقد تكون اللغة مبتدعة كمجموعة رموز دينية وأدبية كاللغة السنسكريتية أو لغة الاسبرانتو العالمية.
-وأن النصوص الأدبية الأكدية والسومرية كتبت في الفترة الزمنية نفسها. فهي ليست ترجمات عادية لنصوص أقدم منها لشعب آخر بل هي النصوص الأدبية نفسها كتبت بلغتين. وأحياناً وجدت ألواح طينية تحتوي على نص أدبي واحد مكتوب باللغتين السومرية والأكدية.
بهذا الصدد، يحق لنا أن نسأل؛ ترى هل هناك فروق في التفاصيل تتعلق بالمعبودات والعادات والتقاليد التي وجدت في تلك النصوص باللغة السومرية تختلف عن تفاصيل هذه العناوين باللغة الأكدية؟ على هذا السؤال يجيب الباحث بالقول «إن استمرارية العقائد الدينية في بلاد الرافدين القديمة عبر العصور لا توحي إلا بوجود شعب واحد تمسك بعقيدته الدينية وعبد الآلهة نفسها طوال تاريخه. ولا يتناقض ذلك مع أنه أطلق أسماء سومرية أو أكدية على عدد من الآلهة التي عبدها» (ص 40).

السومرية لغة وليست قومية
وضمن مسعاه لتأكيد وجهة نظره الذاهبة إلى كون السومريين والأكديين هم شعب واحد، يذكر د. حنون أنه تم العثور على أسماء ثمانية أدباء وليسوا نساخاً لديهم نصوص أدبية باللغتين. ومن هؤلاء الأدباء يذكر الباحث اسم الأديبة «أنخدو أنا» ذات الاسم السومري «ولكن المعروف أنها ابنة سرجون الأكدي، فهل يعقل أن ينجب الأب الأكدي ابنة سومرية؟» يتساءل حنون (ص38).
وفي هذا السياق يذكر الباحث أن «النصوص التوراتية (العهد القديم)، التي ذكرت أسماء شعوب قديمة عديدة بإشارات شتى، تخلو من أي ذكر للسومريين». ويمكن الاعتراض على هذه الفقرة بالقول؛ إن السومريين أو في الأقل بلادهم «بلاد سومر» ورد ذكرها في التوراة ثماني مرات باسم «بلاد شنعار». حيث يعتقد باحثون كُثر أن شنعار هي «سومر». ونحن هنا إزاء احتمالين لتفسير هذا الاعتراض والرد عليه فإمّا أن يقال إن هناك فرقاً لفظياً وتأثيلياً بين الكلمتين «سومر وشنعار» أو أن ما ورد في التوراة هو مجرد ترجمة لما ورد في النصوص الأكدية والسومرية بعبارة «بلاد سومر وأكد» والتي حللها الباحث حنون في ما تقدم، أو أنها مأخوذة من عبارة «شيني ناهاروت» أي النهرين أو من «شيني أريم» أي المدينتين أو من كلمة سومر وأكاد كما يرى باحثون آخرون.
-ويضيف حنون: وقد عُثر على تسع مدن سومرية في العراق لم تزل محتفظة بأسمائها السومرية القديمة ومنها أربيل وكركوك ونينوى.
وهنا أيضاً يحق لنا أن نطرح سؤالاً يقول؛ ترى، ألا تشكل المدن التي عُرفت بأسماء سومرية واختفت دليلاً على وجود ديموغرافي سومري لتلك المدن زال بزوالها؟ ألا يمكن أن نتذكر هنا تجربة هجرة الفلسطيين «الفلسطة/ فلشتيم» من جزر البحر المتوسط نحو جنوب فلسطين وثم اندماجهم مع الكنعانيين خلال خمسة قرون؟ وحتى في هذه الحالة الاندماجية، فقد سجلت آثار مصر القديمة حدوث موجة هجرات تلك وحروب تصدي لها وإخراج من مصر ليستقروا في جنوب فلسطين وتتجه موجة ثانية منهم نحو برقة في ليبيا الحالية؟ وقد ورد ذكر المهاجرين الفلسطة على إحدى الجداريات الفرعونية بوادي الملكات (الأقصر)، والتي تعود لزمن الملكة حتشبسوت (1479–1458 ق.م).
-ثم يستعرض الباحث مراحل اكتشاف الكتابة السومرية التي تكللت بالنجاح في المرحلة الأخيرة حين تم فك الرموز المسمارية سنة 1857م. وكانت النصوص المكتشفة بهذه الكتابة باللغة الأكدية وباللهجة البابلية الجنوبية وليس باللهجة الشمالية الآشورية ولكن الباحثين أطلقوا اسماً خاطئاً على هذا العلم الجديد وسمّوه «علم الآشوريات» وهو اسم خاطئ لأن النصوص التي عثر عليها لم تكن باللهجة الآشورية بل بالبابلية الجنوبية.
-تم اكتشاف الكتابة المسمارية أولاً، وجرت محاولات لقراءة هذه الكتابات أو العلامات من دون معرفة أنها لغة سومرية. وحتى منتصف القرن التاسع عشر لم يكن أحد يعرف أن هذه الكتابة المسمارية هي باللغة السومرية أو يعرف اسمها حتى توصل إدوارد هنكس إلى حل رموز الكتابة المسمارية.

كيف ولد مصطلح السومرية
-ما حدث هو أن الباحث الإيرلندي إدوارد هنكس، وقبله المستكشف الفرنسي باول بوتا اكتشفا نظاماً معيناً للعلامات الكتابية، كتبت بها نصوص بلغة اتضح لاحقاً أنها هي اللهجة الأكدية الآشورية. ثم اكتشفوا أن هذا النظام المعقد لا يحيل إلى لغة واحدة بل إلى لغتين مختلفتين. وكان الباحث هنري لورنس قد اكتشف جداول مسمارية ثنائية اللغة وسمى اللغة الثانية «السكثية». وتم الاستنتاج أن اللغة الثانية التي سيطلق عليها اسم «السومرية» لا بد أن تعود إلى شعب آخر غير الشعب الأكدي. وقد استعمل اسم «سومر» ومشتقاته للمرة الأولى من قبل الباحث يوليس أوبريت سنة 1869 وقد أخذ الاسم من عبارة وردت في اللقب الملكي «ملك أكد وسومر»!
-يستمر د. حنون في عرضه الممتع والدقيق لكرونولوجيا المشكلة السومرية فيخبرنا أن العلماء مذ ذاك انقسموا إلى فريقين:
الأول، ويمثله العلماء الذين ورد ذكرهم قبل قليل، كهنكس وبوتا ولورنس والتحق بهم لاحقاً نوح كريمر الذي سيصير علَمَهم وقطبهم من دون منازع وأبا السومريات، وهذا هو الفريق المقتنع بوجود الشعب السومري الذي اخترع الكتابة المسمارية وتكلم اللغة السومرية.
أمّا الثاني، ويمثله الباحث جوزيف هايليفي، فينفي وجود شعب بهذا الاسم «السومري». حيث يرى هذا الباحث أن اللغة السومرية هي لغة دينية سرية ابتكرها البابليون أنفسهم ودونوا بها عقائدهم وطقوسهم وعلومهم. وبعد جدال بين الفريقين دام ثلاثة عقود سادت وجهة نظر الفريق الأول وانتشرت، وأصبح وجود الشعب السومري شيئاً متداولاً وشائعاً لدى الباحثين طيلة العقود اللاحقة.
-أبرز المتحمسين للفريق القائل بوجود الشعب السومري في القرن العشرين هو الباحث صاموئيل نوح كريمر الذي أصبح أشهر علماء السومريات. ويعرفنا د. حنون على كريمر، فنعلم أنه باحث روسي هاجر إلى أميركا ثم أصبح حاملاً للجنسية الإسرائيلية. ومن النقاط التي تميزت بها أبحاث كريمر هو تأكيده على رقي وتطور وتفوق السومريين العرقي على جميع الأقوام والشعوب السامية التي عاصرتهم وجاورتهم واندمجوا بها باستثناء العبرانيين المتفوقين أصلاً من دون بيان السبب أو ربما لأن لديهم علاقة دم بالسومريين كما يزعم! وقد نقل لنا د. حنون أن كريمر أعلن عن وجود علاقة دم بينهم وبين السومريين، وعلى الرغم من اختلاف اللغة بين العبرانيين والسومريين «فإن العبرانيين يمثلون الامتداد التاريخي والحضاري للسومريين». ويرى د. حنون أن أبحاث كريمر انطوت على عبارات وأحكام مناقضة لقواعد المنطق العلمي ويأتي بالعديد من الأمثلة على ذلك.

خرافة كريمر عن العبرانيين السومريين
سأقتبس من كلام كريمر هذه الفقرة العجيبة والتي قد لا يصدق البعض أنها تصدر عن باحث رصين في الأنثروبولوجيا والأركيولوجيا، حيث يقول: «يجب أن نفترض أن مؤلفي التوراة العبرانيين، أو بعضهم على الأقل، يعتبرون السومريين أسلاف الشعب العبراني الأصليين، ولكن إذا تكلمنا من الناحية اللغوية فإنهم على خطأ كبير في ذلك، فاللغة السومرية من اللغات الملصقة التي لا صلة لها بعائلة اللغات السامية القابلة للتصريف، ولكن من الجائز جداً أن يكون هناك دم سومري جدير بالاعتبار في أسلاف إبراهيم الذين عاشوا لعدة أجيال في أور ومدن سومرية أخرى. أمّا بالنسبة للحضارة والمدنية السومريتين فإنه لا يوجد سبب للشك بأن العبرانيين الأوائل قد تشربوا واستوعبوا الشيء الكثير من أساليب الحياة السومرية العبرانية، وباختصار ربما كانت الاتصالات السومرية العبرانية أكثر ارتباطاً مما كان يظن حتى الآن، وربما كان للقانون العبراني الوارد في (يوشع 202) جذور غير قليلة تمتد تحت تربة بلاد سومر» (صاموئيل نوح كريمر – السومريون تاريخهم وحضارتهم وخصائصهم – ترجمة د. فيصل الوائلي - ص 427 وما بعدها).
من الواضح أن كلام كريمر الذي اقتبسه د. حنون هنا لا يعول عليه بحثياً، بل هو معيب بمنظور البحث العلمي فهو لا يستند سوى إلى الظنون والتخمينات والترجيحات والعبارات الإنشائية الفارغة فلا دليل مادياً أو لغوياً أو تاريخياً عليها، وعلى عبارات مثل «يجب أن نفترض» و«لا يوجد سبب للشك»، وكيف لا يوجد سبب للشك، والبحث العلمي الحديث قائم أصلاً على مبدأ الشك والتمحيص والمقارنات العميقة وطلب الدليل القاطع؟! بل إن كريمر يقول الشيء ونقيضه في عبارة واحدة، فهو مثلاً ينفي أية علاقة بين اللغة السومرية المقطعية الملصقة واللغات السامية الاشتقاقية ومنها العبرانية -على افتراض وجود لغة عبرية مستقلة وليس لهجة كنعانية فرعية- ولكنه ويا للعجب، يربط بين السومريين والعبرانيين دموياً وعرقياً!
-مقابل هذا التوثيق الدقيق لكلام كريمر الذي قدمه الباحث د. حنون، نشر الباحث خزعل الماجدي منشوراً علق فيه على الموضوع، اقتبس فيه من كتابه «الحضارة السومرية» قوله «في أول رد فعل على اكتشاف يوليوس أوبرت للغة السومرية والشعب السومري (1869)، قام جوزيف هايليفي بدوافع عنصرية دينية، فقد كان يهودياً، برفض وجود الشعب السومري ولغته ورأى أن ما يسمى باللغة السومرية هي مجرد لغة رمزية دينية اخترعها الكهنة البابليون لتأسيس علومهم السرية، وكان يدافع، ضمناً، عن أن حضارات وادي الرافدين قد أسسها الساميون فقط والذين يلتقون في أصلهم مع العبريين واليهود». فهل يعتبر الدفاع عن سامية حضارات وادي الرافدين، وكون الساميين يلتقون في أصلهم مع العبريين واليهود، دليلاً كافياً وحاسماً على عنصرية هايليفي اليهودية وعلى حقيقة وجود الشعب السومري؟ وهل يعني ذلك أن كل من ينفي بحثياً وجود السومريين كشعب عرضة لهذا الاتهام الخارق؟ ألم يدلل د. حنون على عنصرية كريمر بالنصوص الموثقة من كتبه، ولم يكتفِ بالقول إنه يهودي ويحمل الجنسية الإسرائيلية، وعارض محاولته ربط السومريين بالعبرانيين اليهود بأسلوب علمي، فأين الأدلة والتوثيقات المماثلة التي يقدمها الماجدي والتي تؤكد عنصرية اليهودي هايليفي، أم يكفي أن يكون باحث ما يهودياً ليكون بالنتيجة عنصرياً ومتجاوزاً على أصول وقواعد البحث العلمي، وهذا أمر غير معقول ومرفوض قطعاً؟
نخلص إلى أن الباحث د. حنون لا ينكر وجود اللغة السومرية بل ينكر وجود الشعب السومري، ويعتبر اللغة السومرية لغة مبتدَعة أو مصطَنَعة لنخبة المجتمع الدينية والثقافية، تطورت تطوراً طبيعياً لتكون لغة خاصة بالكتابة لا بالمحادثة والتداول الشفهي، وصولاً إلى نهاية البحث الذي قدمه، وفيه يستنتج أو يقترح اقتراحاً مشروطاً بأداة الشرط «إنْ» من دون قطع أو جزم كأي باحث يحترم نفسه ومنهجه العلمي الاحتمالي قائلاً «فإنْ صح ما توصلنا إليه في هذا البحث يكون الاسم المناسب للسومرية هو "الكتابة السومرية" وليست اللغة السومرية أما الأكدية فهي اللغة الأكدية» (ص46).

كيف ولدت عبارة «بلاد سومر وأكد»
يتوقف د. حنون عند واحدة من أخطر تجاوزات كريمر المخالفة لمبادئ البحث العلمي وهي حين «أخذ يترجم مصطلحات سومرية بغير ما تعنيه ما أدى إلى اعتماد ترجماته دليلاً على وجود الشعب السومري بطريقة لا تسمح بأي مناقشة أو شك» (ص 24). ومن تلك المصطلحات كلمة كلام (KALAM) والتي تعني باللغة السومرية؛ البلاد، الإقليم، السهل، أو البر؛ ولكن كريمر ترجمها إلى «سومر». وأما عبارة «ساك جيج» السومرية والتي تعني «سود الرؤوس» وبالأكدية «صلمات ققدم» فقد ترجمها إلى «الشعب السومري»! وحين يقرأ المرء غير المتخصص ترجمات كريمر «يعتقد أن كريمر يكرر اسم سومر والشعب السومري ولكن الحقيقة خلاف ذلك» (م.س).
ثم يوضح د. حنون المقصود باللقب الملكي «ملك سومر وأكاد» ويقول إن هذه العبارة لا تدل على مفهوم قومي أو جغرافي إذ ليس هناك شعب اسمه السومري أو بلاد اسمها بلاد سومر ولم يرد مطلقاً باللغة السومرية هذان المصطلحان «شعب سومر» و«بلاد سومر» فيقدم عرضاً تحليلياً وتاريخياً تخصصياً دقيقاً لعملية ظهور عبارة «بلاد سومر وأكاد» التي ثبت وجودها في الكتابات باللغتين السومرية والأكدية باللهجة البابلية. وقد بدأ هذا الاسم «بلاد سومر وأكاد» كلقب ملكي يدل على بسط سلطة الملك على مساحة واسعة فكانوا يضيفونه إلى الاسم الرسمي من قبيل «ملك أور» و«ملك لكش»، فأخذوا يستعملون عبارة «ملك البلاد/ لوگال كلام » (LUGAL KALAM)، والتي ترجمها كريمر «ملك سومر». وقد استعمل ملوك سلالة أور الثالثة هذا الاسم من دون كلمة «بلاد/ كلام». ثم ظهر اسم «ملك سومر» ولكن في عهد الملك الأكدي شار كالي شري، وهذا يدل على انعدام أي محتوى جغرافي أو قومي للاسم، فالملك المذكور أكدي وليس سومري. ثم إنَّ الاسم لم يكتب بصيغة بلاد سومر وبلاد أكد بل بصيغة «بلاد سومر وأكد» ما يدل، من وجهة نظر الباحث د. حنون، على أن المقصود بلد واحد لا بلدين.
من ألاعيب كريمر الأخرى، والتي خرج فيها عن الأمانة العلمية وشروط البحث المنهجي، أنه عمد في ترجمته لمرثية «بلاد أكاد ومدينة أور»، كما كتب د. حنون، إلى تسمية هذه المرثية بـ«مرثية لسومر وأور»، وعرفت في الأوساط العلمية بهذا الاسم، وهذا خطأ تعمد كريمر نشره لتمرير فكرة وجود السومريين وبلاد سومر. وقد دأب كريمر على ترجمة كلمة «كلام KALAM» السومرية والتي تعني «البلاد» حين ترد في بعض النصوص السومرية ببلاد سومر ما يرغم القراء وحتى المختصين منهم على تصديق ورود الكلمة بهذا الشكل الذي يترجمه هو (ص 70). والأدهى من ذلك، كما كشف لنا د. حنون، أن كريمر حين ترجم السطر الأول من هذه المرثية ترجمه كالتالي: «اليوم الذي انقلب، إذْ زال القانون والنظام من الوجود» ويضيف د. حنون، أنه حين عاد إلى النص السومري الأصلي وترجمه وجده كالتالي: «اليوم الذي انقلب، يوم فقدان بلاد أكاد لخططها» أي إنَّ كريمر حذف عن قصد وسابق تصميم عبارة «بلاد أكاد»، وهذا أمر -يقول د. حنون- لا يمكن أن يكون قد حدث سهواً (م.س).

انعدام أي صراع سومري أكدي
ينتقل الباحث بعد ذلك إلى الكشف المهم الذي قدمه الباحث المتخصص بالسومريات بينو لاندزبيرغر وفيه قدم قائمة طويلة من الكلمات القديمة التي كان يعتقد أنها سومرية قديمة ورثها المعجم الأكدي لاحقاً، فأثبت لاندزبيرغر أنها ليست ذلك، وافترض أنها تعود للغة أخرى لقوم آخرين، ودليله أن هذه الكلمات ذات مقاطع متعددة، وليست ذات مقطع واحد كسائر الكلمات السومرية. وحين تقرأ تلك القائمة يصيبك العجب فهي تكاد تشمل أغلب مدن العراق القديم وحتى اسمي دجلة والفرات «إيد گلات - بورارن»، وعدداً من الحرف والمهن والنباتات من قبيل ملاخ (ملاح) وننـگـار (نجار) وبخار (فخار)، وغيرها كثير، ولكن د. حنون يؤكد أن هذه الأسماء السومرية القديمة هي، ومن أول نظرة، أسماء أكدية وسامية قديمة، ولا تعود لشعب آخر غريب عن جنوبي العراق.
-نقطة أخيرة سأتوقف عندها، وهي تلك التي سجلها الباحث د. حنون نقلاً عن باحث آخر هو ثوركلد ياكوبسن والتي تفيد عدم حدوث أي صراع أو صدام مسلح ذي دوافع وأسباب قومية بين السومريين والأكديين الذين انتزعوا منهم السيطرة والسيادة على المنطقة على الرغم من حتمية هذا الصدام في إقليم صغير ومحدود الموارد والمساحة. أليس من الغريب أن تحدث صدامات بين مجموعات بشرية في هذا الإقليم لأسباب شتى ولكن لم يُسَجَّل صدام واحد بين السومريين والأكديين الساعين إلى السيطرة وانتزاع السيادة على المنطقة؟ نعم، لقد حدثت صدمات بين المجموعات البشرية وممالك المدن في الإقليم، ولكن لم يسجل صدام عرقي واحد، بل كان ثمة صدامات وحروب ذات أسباب اقتصادية وزراعية وما يدخل في باب السياسة الإقليمية كما يسميها ياكوبسن، كالخلافات على الأراضي أو المياه، كتلك الحرب بين مملكتي لكش وأوما على المياه والتي دامت عدة عقود وخلدتها مسلة النسور الشهيرة. فلماذا لم نعثر بين آلاف الأطنان من الرُقُم والمسلات والأختام الأسطوانية الرافدانية على دليل واحد يؤكد وقوع حرب أو صدام قومي «عرقي» حتى لو كان صغيراً بين السومريين والأكديين؟ ولماذا لم نعثر على نص ترنيمة أو قصيدة أو سطر شعري واحد يتباهى فيه ملك أو شخص عادي سومري بشعبه وأصله السومري أو بموطنه الأصلي الذي جاء منه؟

* كاتب عراقي