بات واضحاً لكل الناظرين إلى الحال السورية والواقع الكارثي الذي اعتراها بعد اندلاع ما سمي «الربيع العربي» وانعكاساته المدمرة على الانجازات المدنية والحضارية للسوريين، أن حجم التأثير المدمر لما حدث يكاد يكون غير مسبوقٍ في التاريخ السوري باستثناء الخراب الذي أصاب سوريا في سياق غضب الطبيعة وحدوث الزلازل والبراكين المدمرة في مناطق متفرقة منها، كما في حالة الزلزال الذي أصاب حلب على دفعتين عامي 1822 و1830 وأدى إلى تدمير ثلثي المدينة ووفاة أكثر من ثلث قاطنيها.
لكن المدينة بسكانها انبعثت من جديد بعد عشرين سنة على الأكثر واستعادت وضعها كمدينة مفصل على طريق الحرير التاريخي.
إن الخراب والتدمير الحاصل في البنية العمرانية الحضارية السورية منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، وما يزال مستمراً يترافق بتأثيرات في البنية الاجتماعية السكانية على شكل انقسامات أفقية وشاقولية في ديموغرافية السوريين (حقيقية كانت أم مصطنعة).
التدمير والخراب الذي يطاول كلَّ مُشكِّلات ومكونات البنية الحضارية السورية ومنجزات الدولة السورية العميقة، يخضع لمنهجية تخريبٍ مدروس مدفوعِ الأجر ومقصودِ الأهداف، ويسير ضمن حلقاتٍ عمَلانيةٍ في ما يدعى «سلسلة الخراب والتدمير».
بعيداً من مناقشة صوابية وأحقيّةِ المعارضاتِ السياسية في استخدام العنف المسلح في «إسقاط الأنظمة» السياسية الحاكمة، وهو موضعُ خلافٍ موضوعيٌ منطقي، خصوصاً عندما تفتقر هذه المعارضاتُ إلى الحسِّ الوطني في المحافظة على الكيان الوطني وتفتقد القدرة اللوجستية على التغيير، وعندما تخضع هذه المعارضات الشعبوية المراهقة لأنظمة تحكّمٍ وسيطرةٍ خارجية مُعاديةٍ مشبوهة (رجعية عربية أو أجنبية معادية) وتصل بها ظروفها الثورية البائسة إلى رمي كلَّ أوراقها في أيدي الصهاينة والطامعين بسورية دولةً ومقدراتٍ.

صدّرت أجهزةُ الإعلام
صورةً نمطيةً واحدةً منذ بداية الحراك السوري

عند الذهاب بعيداً (افتراضياً لبيان الحُجّةِ) في الموافقة على استخدام الأعمال المسلحة في إسقاط أنظمة الحكم القمعية الظالمة، فإن المنطق العقلاني يستلزمُ أن يُوجهَ عملُ المواجهة العنفي إلى مواقع النظام القمعي ومراكز قوته الصلبة، وليس كما جرى في الواقع السوري، عندما اجتاح عنف المعارضة كلَّ الأمكنة وكلَّ القطاعات المختلفة مخلفاً وراءَه كوارثَ تدميرٍ وخرابٍ غير مسبوقة على الإطلاق.
صدّرت أجهزةُ الإعلام صورةً نمطيةً واحدةً منذ بداية الحراك السوري في شهر آذار عام2011 وما زالت مُصرةً عليها حتى هذا الوقت وإن كان الواقعُ يكذبُها كلَّ يوم.
كانت الصور الثابتة والمتحركة تُظهِرُ «الثوارَ» بين البيوت المهدمة أو أنهم يستخرجون جثثَ القتلى من بين الأنقاض في مشاهدَ تشبه عالم كافكا العبثي. فتعاطفت الأعينُ المراقبةُ عبر الشاشات واكتسبت «الثورة السورية» زخماً شعبياً كبيراً (خارجياً أكثر منه داخلياً).
عند قراءةِ الصور السابقة ذاتِها من عينٍ مراقبةٍ عن كثب، تتفكك تلك الرواية المضللة في أجزاء كثيرةٍ منها. فالواقع يُثبتُ أنَّ جموعَ المسلحين المعارضين استخدمت تكتيكاً واحداً خصوصاً في البلدات والمدن الكبيرة، وهو الدخول في الأحياء الشعبية وأماكن السكن العشوائي في أطواق المدن (وهنا يجب عدم المبالغة في توفر الحاضنات الشعبية للثورة ضمن هذه الأوساط، وهي لا تزيد في معظم الحالات عن عدد المهتمين بتداول السلطة بينهم) وبناءً على اعتبار أن حقيقة الحراك كان ريفياً بامتياز عدا ذلك الذي حدث في مدينة حمص، فإن «ثوار الريف» قد اجتاحوا الأحياء السكنية واستوطنوها وتمترسوا بين أهلها مُعاندين رغبةَ أهلها من الطبقات الوسطى والفقيرة.
لم يكن حدوث أقل مواجهة بين المسلحين وقوات الجيش السوري إلا إيذاناً بنزوح مئات الألوف مُخلفين وراءَهم كلَّ ممتلكاتهم لِمَنْ جاء يحميها عنوةً عنهم ولكي يُسقِط النظامَ الظالم في أزقتها وحاراتها الضيقة!
وسارت «سلسلة التخريب» وفق السياق التالي: دخول المسلحين إلى منطقة سكنية وإعلانها محررةً عن سلطة الدولة، وعند بدء المواجهة مع الجيش يبدأ اللجوء والنزوح (وهذا يفسر الأعداد المليونية للنازحين واللاجئين السوريين داخلياً وخارجياً)، وعند المواجهة المسلحة بين الطرفين تكتملُ عناصرُ التخريب والدمار بما توفره آليةُ الحرب الحديثة من قدراتٍ تدميريةٍ هائلة.
راح كلُّ مراقبٍ بحسب غرضه وخلفيته الإيديولوجية والذرائعية يلحظُ حلقاتٍ مختارةً من السلسلة ويلوم أحدَ طرفي الحرب المستعرةِ من دون أن يضعها في سياقها الواقعي والسببي، وإن كانت النتيجة النهائية واحدةً وواضحةً في كل الصور كما هي في الميدان، المزيدُ من انهيار البنى الحضارية التحتية الأساسية للمجتمع
السوري.
تظهّرت صوُر الأحداثِ بشكل فاقعٍ عندما اقتحمت الحربُ أخيراً مناطقَ ذات بيئات معاديةٍ للحراك ذاته في أكثر من منطقة، وشاهد العالمُ مستغرباً دخولَ المسلحين إلى مناطق مثل معلولا وعدرا وكسب وغيرها ممن لا يمكن مطلقاً أن تشكلّ حاضنةً شعبيةً أو أنها تطلبُ عونَ الثوارِ لتحريرهم من بطش النظام!
قال الرئيس السوري بشار الأسد في بداية الأحداث عند ظهور ملامح تخريبية في الحراك السوري: يجب أن لا يسجل التاريخ أن السوريين أنفسهم قد دمروا بلدهم في زمن ما.
والحقيقةُ أن بعضَ السوريين لم يكتفوا بتدمير بلدهم بأنفسهم، في درس مكرّرٍ في دول المنطقة في زمن الديمقراطية والحرية الأميركي، وأنهم عملوا أُجَراء لقوى معاديةٍ (إقليمية وأجنبية) لتحقيق هذا الهدف (وهنا تجب دراسة دور تركيا في تدمير وسرقة معامل حلب كمنافس قوي لها في المنطقة، ودور دول النفط والغاز في ضرب القرار السوري لمصالح ذاتية) بل إنهم استجلبوا إلى بلدهم كلَّ منْ يساعدُهم في مَهمة التخريب والتدمير من كلِّ أصقاع الأرض.
إن التفسير التالي يبدو منطقياً في فهم هذا الأسلوب الممنهج للمعارضة السورية، حديثة التشكل والتي ركِبت الحراكَ من دون أن تكون مستعدةً لقيادته إلى شط الأمان. وعندما وجدت نفسها أمام استعصاء عملياتي في إسقاط النظام السوري بسبب تجذره وقوته الشعبية وصلابة تحالفاته في المنطقة والعالم، راحت تبحثُ بشكلٍ مدروس عن انجازات النظام ومفاخرة على مدى ما يزيد عن خمسين عاماً واستهدفتها بكل الوسائل اقتصادياً وأمنياً وصحياً، ليتحول الهدفُ سريعاً في الواقع من إسقاط النظام الحاكم إلى عملية إسقاط للدولة السورية بكل مكوناتها بما فيها منجزات النظام
(وما التركيز على شيطنة دور الجيش السوري وتكفيره واستحلال دمائه لِحلّهِ وتفكيكه إلاّ العملية الأكبر في هدم الدولة السورية ودفنها).
لا يمكن هنا إغفال دور السلطة في سلسلة الخراب أو التغاضي عنه، وإن كان هذا الدور يأتي تالياً لعملياتِ احتلال مناطق أو عصيان مسلح، فتتذرع القوة القاسيةُ للنظام بالقوانين الدولية التي تبرر لها أن تحتكر بموجبها العنفَ المسلح في مواجهة التمرد كما في كل دول العالم، وتعتبر أن استخدام الجيش في قمع الحركات المسلحة للمعارضة فرضتها عواملُ مختلفةٌ منها:
عدم توافر قوات مكافحة الشغب بأعداد كافية، وأن اتساع رقعة المواجهات تطلب زجَّ أعدادٍ كبيرة من منتسبي الجيش، وأن طبيعة المواجهات سرعان ما تغيرت عندما تحولت إلى حرب حقيقية من دون أي محرمات (بعضهم يدّعي أنّ المخططَ المعدّ لسوريا هو الحربُ منذ بدايةِ الربيع العربي، ويستشهد بتغيير العلم السوري كما تغير العلم الليبي مبكراً لفرز جبهات القتال على الطرفين، بينما لم تُغيرْ راياتُ الثورات في مصر وتونس واليمن والبحرين).
إن انتصارَ الدولة السورية في مواجهة المصير هذا مع ما يترتب عليه من أكلاف باهظة مادية وبشرية لهو كفيلٌ بسياقِ تدافعِ الأحداثِ المنطقي من أن يخلقَ دولةً متجددةً دفعت أثمان حريتها وقرارها المستقل، وشكلت نمطاً متمايزاً لدول المنطقة في الوقوف المعاند والممانع والمقاوم لسياسات السيطرةِ والهيمنةِ والنهب الاستعماري لشعوب ومقدرات المنطقة مستندةً إلى تاريخ حضاري عريق وقرار وطني مستقل.
* كاتب سوري