هو عالمٌ جديد لم تكتمل ملامحه بعد، ينبثق من بؤرة «عالم قديم» يتأخّر في الانكفاء الحتمي. القديم مُفكّك أنهكته حروب الإمبراطوريّة الأميركيّة ومغامراتها، والجديد الطريّ العُود ينحو إلى التوازن والانعتاق من هيمنة مركزيّة غربيّة تُجازف بقتال تراجعي على المسرح الأوكراني الأوروبي. وينقشع غبار المعارك عن مناورات متبادلة في آسيا الباسيفيك تحت سقف الصراع الصيني - الأميركي ومقاربة إشكاليات الهيمنة الإمبرياليّة، والآفاق المفتوحة لاتجاهات الاستقلال الذاتي لدول الجنوب في إدارة مصالحها.ويُسجّل لهذا التحوّل الكبير في النظام الدولي، أنّه يتزامن مع نزوعٍ نحو تعدّدية الأقطاب بفعل التراجع النسبي للقوّة الأميركيّة، وتقدّم قوى كبرى جديدة باتجاه قمّة الهرم الدولي، تتصدّرها الصين والاتحاد الروسي والهند وإندونيسيا، وإن بقي هذا النظام غير مستقرّ ما دام يواجه تحدّيات مرحلة انتقاليّة تعاني تداعيات أزمات معقّدة، على غرار الأزمة النوويّة الإيرانيّة التي عطّلت واشنطن التسوية بشأنها، أو الأزمة الأوكرانيّة التي تحوّلت إلى مواجهة كبرى بين الكتلة الأطلسيّة وروسيا المُتّكئة على الدعم الصيني العميق، بدفعٍ من سياسة أميركيّة تُراهن على إضعاف اللاعب الروسي العائد إلى الساحة الدوليّة للصراع والتنافس، بعدما نجحت في توريط الاتحاد الأوروبي في حرب هو الخاسر الأكبر فيها، وذلك لمنع صعود العملاق الألماني والحؤول دون التواصل الجيوسياسي الطبيعي بين السهل الروسي الكبير وأوروبا في المدى المتوسط أو الطويل. ويُعتقد على نطاق واسع أنّ الهدف الأساسي من هذه السياسة الأميركيّة هو تقويض الشراكة الاستراتيجيّة الشاملة بين الصين وروسيا، خصوصاً أنّها تلتزم رؤية كونيّة تقوم على بناء عالم تعدّدي متحرّر من الهيمنة الغربيّة. علماً أن واشنطن تعمل بصورة واضحة لتصعيد الصراع والتوتّر مع الصين لتأخير وصولها إلى موقع الريادة العالميّة، سواء بمشاغلتها بقضيّة تايوان أو تطويق مجال أمنها الإقليمي الآسيوي بتحالفات عسكريّة تضمّ أستراليا والهند واليابان ودولاً أخرى في جنوب شرق آسيا.
لكنّ الصين تمكّنت، بفضل واقعيّتها الهجوميّة، من تجاوز خطوط التطويق الأميركيّة والتموضع بقوّة في منطقة الخليج حيث نجحت محاولتها التقريب بين القوّتين الإقليميّتين الكُبريين، السعوديّة وإيران، عقب توقيع اتفاقيّة الشراكة الاستراتيجيّة مع السعوديّة وتفعيل اتفاقيّة مماثلة مع إيران. وجاء إعلان الاتفاق السعودي - الإيراني من بكين، ليُضفي زخماً على دبلوماسيّة صينيّة تسعى لاحتواء النزاعات على النطاق العالمي من موقع الحياد وعدم الانحياز، ما يضع بكين في موقع الندّ لدبلوماسيّة أميركيّة تعتمد التدخّل في الشؤون الداخليّة للدول وممارسة الضغوط من خلال التهديد وفرض العقوبات. وقد أنتجت الدبلوماسيّة الصينيّة حديثاً مبادرة لاحتواء النزاع في أوكرانيا من دون التسبّب على ما يبدو بإحراج الشريك الروسي الذي بات في موقع الارتباط العضوي بالعمق الجيوسياسي الصيني.
إنّ أي مراقب متبصّر لتطوّر منظومة العلاقات العالميّة (System)، لا بدّ أن يلاحظ كيف أنّ التحوّل البنيوي الذي سبقت الإشارة إليه، جعل دولة مثل الصين، كانت تُعتبر من دول الصفّ الثاني عالميّاً أو من القوى الناشئة، تصعد سريعاً إلى موقع متقدّم على قمّة الهرم الدولي، وأنّ القطب الأميركي، الذي كان مهيمناً هيمنة كاملة خلال فترة محدودة، يحاول، بلا جدوى، أن لا يترك للقوّة الصاعدة سوى تلك الفسحة التي قد تعوّض تراجع مكانته وفاعليته، أو يغامر لعرقلة هذا المسار الحتمي للصعود. لكنّ الأمر المهمّ في جدليّة الصعود والهبوط هذه بين الصين وأميركا، أنّها قد توفّر تفسيراً استراتيجيّاً لاتّجاه الولايات المتحدة تحويل المحور المركزي لسياستها الخارجيّة من الشرق الأوسط إلى شرق آسيا/الباسيفيك، وذلك لمواجهة التهديد المتصوَّر للعملاق الصيني؛ ما يعني عمليّاً فكّ الارتباط التدريجي للولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط. وإذا كانت عملية فكّ الارتباط هذه بتداعياتها الاستراتيجيّة قد أفسحت المجال للتموضع الصيني في منطقة الخليج الحيويّة في تأمين موارد الطاقة، واعتماد المملكة العربيّة السعوديّة سياسة متحرّرة من التّبعيّة الأميركيّة، فإنها لا تعني تخلّي واشنطن عن مصالح استراتيجيّة في الشرق الأوسط، خصوصاً أمن دولة إسرائيل وحمايتها وتأمين تفوّقها الاستراتيجي.
لقد جسّدت إدارة باراك أوباما على نحو ساطع ظاهرة التراجع الأميركي وفقدان السيطرة على المنظومة الغربيّة، بحيث وُصفت السياسات المتّبعة من هذه الإدارة بالضعيفة والمتردّدة وحتى الفاشلة. وهنا يسجّل الخبراء أن «مبدأ أوباما» الذي يستند إلى صيغة «القيادة من الخلف» (leading from behind) إنّما يعود إلى الانتكاسات الأميركية في منطقتنا فضلاً عن تراجع التفوّق الأميركي عالميّاً.
ولا تزال حالة التخبّط التي تعانيها السياسة الأميركيّة تُثير المزيد من التساؤلات، خصوصاً بعد فشل إدارة بايدن في ردم هوّة أزمة الثقة مع الفريق الحاكم الجديد في المملكة العربيّة السعوديّة، وهو الأمر الذي ظهر بجلاء في مناسبة قمّة جدّة (تموز 2022)، التي سجّلت فشلاً أميركيّاً في إقناع الرياض برفع إنتاجها النفطي، وفي استعادة مفهوم «القيادة من الخلف» عبر الحلفاء الأوروبيّين لرفع التحدّي الروسي على مسرح المواجهة في أوكرانيا. وهذه الحالة التي سبق أن أصابت سياسة إدارة بوش الابن عندما ربطت بين العراق والإرهاب، واعتبرت ذلك أولويّة استراتيجيّة، إنّما تترك المجال مفتوحاً لاستعادة روسيا دورها قوّة عالميّة كبرى، مثلما تخدم الصين في سعيها إلى تبوّؤ موقع الدولة الكبرى المنافسة عالميّاً، بفضل طاقتها الاقتصادية الهائلة وتمسّكها بحرية التجارة وسيطرتها على معظم الأسواق بين الشرق والغرب، فضلاً عن استعدادها للاضطلاع بأدوار سياسية على مسارح لم يكن معهوداً أن تُفعّل دبلوماسيتها فيها مثل الشرق الأوسط (الاتفاق السعودي - الإيراني) والمسرح الأوروبي (المبادرة الصينيّة لوقف النار في أوكرانيا).
في ضوء ما تقدّم، أتصوّر أنّ اللاعبين في مدار القوى الإقليميّة، مثل السعوديّة وإيران وتركيا، باتوا يدركون أنّهم يملكون، بفضل التحوّلات في منظومة العلاقات الدوليّة، مجموعةً من الخيارات الاستراتيجيّة تمنحهم حيّزاً واسعاً من حرّية الحركة، وأنّ التفاعلات العالميّة في السياق الحاضن لتعاظم القوّة الاستراتيجيّة الصينيّة، مقابل فقدان أميركا مقوّمات الهيمنة الأحاديّة، باتت تجري في فضاءات إقليميّة دوليّة مفتوحة أمام القوى الإقليميّة لكي تعمل لاستخدام إمكاناتها من أجل التعاون وبناء شراكات مع الدول الكبيرة والمتوسطة والصغيرة في آن معاً. وللمثال، الهند التي توازن علاقاتها مع القوى الكبرى الثلاث، أميركا وروسيا والصين، وتطرح مفهوماً جديداً لعدم الانحياز. وهذا المنحى ينطبق أيضاً على تركيا العضو المشاغب في حلف شمالي الأطلسي الذي ينخرط في بناء علاقات متوازنة بين روسيا وأوكرانيا، متجنّباً تطبيق العقوبات ضدّ روسيا. أمّا إيران المتصالحة مع السعوديّة والمسهّلة لعودة حليفتها سوريا إلى حضن الجامعة العربيّة، فإنّها لا تقطع «شعرة معاوية» مع الغرب في التسوية النوويّة المتعثّرة، بينما تتمسّك بتموضعها الفلسطيني ضدّ إسرائيل، وتُعزّز تحالفها الاستراتيجي مع روسيا.
ويمكن للاتفاق السعودي - الإيراني أن يساهم، بدوره، في توفير إطار ناظم لضبط التنافس الإقليمي بين القُطبين بعيداً عن أجواء التشنّج والتوتّر التي سادت خلال مرحلة الحروب بالوكالة (حرب اليمن)، مثلما أنّه يجعل الصين الضامنة للتطبيق المتدرّج لخريطة الطريق التي حملها الاتفاق، في ظلّ الانفراج الإقليمي البادئ مع التطبيع بين تركيا والسعوديّة، من جهة، وتركيا والإمارات العربيّة المتحدة ومِصر من جهة أخرى.
أخيراً، إنّ الشراكة الاستراتيجيّة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي، وفي مقدَّمها السعوديّة والإمارات، تساعد في تظهير حقيقة أنّ قوى إقليميّة عربيّة اعتُبرت طويلاً مثابة «محميّة أميركيّة»، باتت تتصرّف بناءً على أولوّياتها هي نفسها، الأمر الذي يقوّض الاعتقاد أنّ العالم العربي هو مجرّد ساحة مفتوحة أمام تجاذبات القوى الدوليّة الكبرى، ولذلك لا يمكن التغاضي عن دور القوى الإقليميّة في تدافع الأحداث سواء داخل المنطقة أو خارجها. وعلى هذه الصورة تنكشف حدود القدرة الغربيّة على الحدّ من تطوّر البرنامج النووي الإيراني، ويتبيّن عدم جدوى الاعتراض الأميركي الذي لم يحُلْ دون التوافق الإيراني – العربي وعودة سوريا إلى الجامعة العربيّة، فضلاً عن أنّ منظومة التعاون والتنسيق بين تركيا وإيران وروسيا تعزّز فكرة أن القوى الإقليميّة قادرة على التخطيط والعمل وفق ما تُمليه مصالحها الأمنيّة والاقتصاديّة والسياسيّة.
* كاتب وصحافي لبناني