يشير ماتياس سبيكتور إلى ما يعرف بـ «التحوّط» على أنه ليس استراتيجية جديدة، إذ «لطالما استخدمته القوى الثانوية لإدارة المخاطر». وفي السنوات الأخيرة، «تبنّى عدد متزايد من الدول المؤثرة... هذا النهج». يعتمد التحوّط على السياسة الداخلية للدولة، فـ«الدوائر السياسية يمكن لها أن تعرض استراتيجيات التحوّط من المخاطر عندما تكون مصالحها الاقتصادية على المحك»، كما أنه «ينطوي حتماً على حلفاء مخيبين للآمال عندما تكون المصالح الوطنية في خطر»، ويشعر «المتحوطون بالقلق من الاعتماد الاقتصادي المتبادل لأنه يضعف سيادتهم»، ونتيجة لذلك، فإنهم «يسعون إلى تعزيز الأسواق المحلية، والاعتماد على الذات الوطنية، وتشجيع التصنيع، وإقامة قطاعات حيوية مثل النقل والطاقة والدفاع».

ومع ذلك، «من الصعب الحفاظ على التحوّط مع مرور الوقت»، وبما أن «المتحوّطين يقدِّرون حرية العمل، فقد يشكلون شراكات مصلحة لتحقيق أهداف محددة في السياسة الخارجية، ولكن من غير المرجّح أن يشكلوا تحالفاتٍ عامة». وكاستراتيجية لإدارة عالم متعدد الأقطاب، «يستلزم التحوّط إبقاءَ قنوات الاتصال مفتوحة مع جميع اللاعبين». إجمالاً، يتعلق التحوّط اليوم بـ «تجنّب الضغوط للاختيار بين الصين وروسيا من جهة، والولايات المتحدة من جهة أخرى»، إنه «استجابة لصعود عالم جديد متعدد الأقطاب». والبلدان النامية تتبع اليوم «استراتيجية التحوّط لأنها ترى أن التوزيع المستقبلي للقوّة العالمية غير مؤكد»، ولأنها «ترغب في تجنُّب الالتزامات التي سيكون من الصعب الوفاء بها»، فهي تسعى إلى أن تكون «قادرة على تكييف سياساتها الخارجية بسرعة مع الظروف التي لا يمكن التنبؤ بها».
يرى سبيكتور أنه يمكننا تفسير سلوك البلدان النامية تجاه الحرب الروسية - الأوكرانية بأنه يُعرِب عن «الرغبة في تجنُّب الزج بها في صراع بين الصين وروسيا من جهة والولايات المتحدة من جهة أخرى»، فالبلدان النامية «تسعى لتجنب الاشتباك المكلف مع القوى العظمى في محاولة لإبقاء جميع خياراتها متاحة ولتحقيق أقصى قدر من المرونة». ولا يمكن للولايات المتحدة أن «تتوقع من الدول الأخرى فرض عقوبات على روسيا بسبب وحشيتها في أوكرانيا في الوقت نفسه الذي تقوم واشنطن فيه بتزويد المملكة العربية السعودية بالأسلحة في حربها بالوكالة ضد إيران في اليمن... فالأرضية الأخلاقية تتطلَّب الاتساق بين القيم والأفعال».
وبالنسبة إلى الصين، يرى سبيكتور أنه «بدلاً من الضغط على مختلف الدول لقطع العلاقات مع بكين، يجب على واشنطن أن تشجّع تلك الدول بهدوء على اختبار حدود الصداقة الصينية بنفسها... فالدول النامية أصبحت تدرك بشكل متزايد أن الصين يمكن أن تكون مستبدة مثل القوى الغربية». يشير سبيكتور إلى أنّ «العالم النامي يرى نفاقاً في تصوير واشنطن لمنافستها مع بكين وموسكو على أنها معركة بين الديموقراطية والاستبداد... فالولايات المتحدة تواصل دعم الحكومات الاستبدادية بشكل انتقائي عندما يخدم ذلك مصالحها... وهذا ليس مفاجئاً، إذ ينظر كثيرون في الجنوب العالمي إلى خطاب الغرب الداعم للديموقراطية باعتباره مدفوعاً بالمصلحة الذاتية وليس التزاماً حقيقياً بالقيم الليبرالية».
«يكمن التحدي في أن التحوّط يمكن أن يُضخِّم المنافسة الأمنية بين بكين وموسكو من جهة وواشنطن من جهة أخرى... ونتيجة ذلك أن الولايات المتحدة قد تحتاج إلى تقديم تنازلات أكثر في سبيل إقناع البلدان النامية بالتعاون وعقد الصفقات... ولكسب الأصدقاء في عالم متعدد الأقطاب، على الولايات المتحدة أن تبدأ في أخذ مخاوف الجنوب العالمي بجدية أكبر... وسيتطلب إشراك هذه البلدان التواضع والتعاطف من جانب صُنّاع السياسة الأميركيين الذين لم يعتادوا على ذلك». وإذا أرادت الولايات المتحدة أن «تبقى الأولى بين القوى العظمى في عالم متعدد الأقطاب، فإن عليها أن تلتقي بالجنوب العالمي وفق شروطها الخاصة... وما دامت هذه البلدان تشعر بالحاجة إلى التحوّط في رهانها، فسوف تتاح الفرصة للغرب لمغازلتها».
يرى سبيكتور أن مرحلة الثنائية القطبية – قبل انهيار الاتحاد السوفياتي– تميَّزت بـ «تدخلات القوى العظمى الدموية في أطراف العالم» في حين تزامن النظام العالمي أحادي القطب – بعد ذلك – مع «التدفق المقلق لرأس المال الدولي إلى أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا». واليوم «يربط الكثيرون في الغرب النظام العالمي متعدد الأقطاب بالصراع وعدم الاستقرار، مفضّلين نظاماً تهيمن عليه الولايات المتحدة كما الحال بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ولكن الأمر ليس كذلك بين بلدان الجنوب العالمي، حيث يتلخص الرأي السائد في أنه يمكن للتعددية القطبية أن تخدم كأساس مستقر للنظام الدولي».
وفقاً لسبيكتور، يمكننا ملاحظة ثلاث وجهات نظر:
الأولى، مفادها بأن «انتشار القوّة سيعطي البلدان النامية مساحة أكبر للحركة، لأن المنافسة الأمنية الشديدة بين القوى العظمى ستجعل من الصعب على الدول القوية أن تفرض إرادتها على الدول الضعيفة».
والثانية، أن «التنافس بين القوى العظمى سيجعلها أكثر استجابةً لنداء العدالة والمساواة من الدول الصغيرة، إذ على تلك القوى أن تظفر بأن ينافس الجنوب العالمي منافسيهم».
والثالثة، أن «انتشار القوّة سيتيح للدول الصغيرة فرصة التعبير عن آرائها في المؤسسات الدولية».
يرى سبيكتور وجود «تفاؤل غير مبرر بشأن احتمال نشوء نظام متعدد الأقطاب. فقد تدفع المنافسة الأمنية، في ظل التعددية القطبية، القوى العظمى إلى إقامة تسلسلات هرميَّة أكثر صرامة حولها ما سيَحِدُّ بدوره من فرص الدول الأصغر للتعبير عن تفضيلاتها... وعلاوة على ذلك، قد تعمل القوى العظمى بشكل متعاون لقمع نداء العدالة والمساواة من البلدان الأصغر... ومن غير الواضح على الإطلاق إذا ما سيكون للبلدان النامية أداء أفضل في ظل التعددية القطبية عمّا كان لها في ظل النظم الدولية السابقة».
ترجمة إبراهيم يونس