أتذكّر، وهذا قد يكون من آخر مقالاتي، أن الامتياز الحقيقي الذي حصلت عليه من تجربة الكتابة هو أنّها قد سمحت لي أن أمارس القراءة بشكلها «الحرّ» (أحاول دائماً أن أرى العُشر الملآن في الكوب، والمسألة هنا لا تحتاج وداعيات ودراماتيكية: لكلّ شيء في الحياة نهاية، حتى الكتابة إليكم، وأنا أصلاً قد أطلت المقام أكثر مما يجب في ديارٍ ليست لي). عن موضوع القراءة: حين تدخل في الأكاديميا، أو في مجالٍ فكريّ كمهنة، لا تعود القراءة «هواية» ومتعة، الفضاء الذي تكتشفه في صغرك حين تتعلّم الحرف، ويصبح الملجأ الذي تهرب إليه، ويفهمك أنّ في الدنيا أمورٌ تتجاوز تجربتك الفردية المباشرة، وهي ما يجعل العالم مثيراً يستحقّ الاكتشاف. حين تصبح القراءة «عمل»، فهي تخسر هذه الصّفة ولا تعود مجالاً للحريّة. لن تقرأ، من الآن، إلا في اختصاصك الضيّق، وستفعل الأمر كأنه واجب، وتغفل عن كلّ ما لا يعني «عملك» المباشر - وهذا ما اختبرته لسنوات حتى كدت أكره القراءة، وأصبحت كتب السياسة والاقتصاد والنظرية تبدو جوفاء متشابهة نافلة، لا شغف لديك في استكشافها. ولكن، بفضل الكتابة في الصحيفة (وتسيّب من هم فوقي)، عدت إلى ممارسة القراءة «بحريّة». لا تقرأ إلّا ما تحبّ: يومٌ كتابٌ في التاريخ، يومٌ كتابٌ في الاقتصاد، يومٌ عن الهندسة المعمارية، تعلّمت عن الصين التي لم أكن أعرف عنها شيئاً، وبين هذه وتلك هوايات وروايات وقراءات ما قبل النّوم، وأمورٌ هامشية كان من المستحيل أن أتعرف إليها لو أنّه كان لديّ عملٌ حقيقيّ (الأهمّ من هذا كلّه، بالطبع، هو في مكانٍ آخر، مفاده أن تكون في السنوات الماضية قد لعبت دوراً - صغيراً جدّاً - في شيء كبير جدّاً، ولكن هذه الأمور هي بينك وبين ربّك).

الجميع في مجال الاعلام يتحدّث عن صعود وسائط جديدة لتبادل المعلومات وكيف أنها ستستبدل الكتب والورق، ولكن - إن كنت تريد الجدّ - فإن هناك معادلة حسابية تشرح لك لماذا ستظلّ الكتب هي أساس المعرفة اليوم وفي المستقبل (وإن أصبحت كتباً إلكترونية، فالورق في ذاته هو مجرّد وسيط). المسألة هي أنّه (إلى أن نصل إلى مرحلة ننقل فيها المعرفة إلى عقول الناس مباشرةً ولحظياً عبر أجهزة إلكترونية، كما في أفلام الخيال العلمي) فإنك لن تجد وسيلة أسرع وأفعل لنقل المعلومات واستيعابها من القراءة البسيطة باستخدام العيون. كمية المعلومات التي تحويه صفحة واحدة في كتاب أكاديمي جيّد من الممكن، نظرياً، أن تحولها إلى فيديو أو تيكتوك، ولكن الصفحة التي تقرأها في ثلاث دقائق سوف تحتاج إلى فيديو من نصف ساعة أو أكثر لشرح ما فيها. هذا المستوى و«الدفق» المعرفي لا يمكن أن تحصّله بغير القراءة المنهجية، والصلة التي تخلقها عملية القراءة بين النظر والحواس والوعي لا يمكن استبدالها بأي وسيطٍ «أسهل» إلا بثمن تتفيهه، وهنا مشكلة السوشيال ميديا: أنها تعطيك انطباعاً ووهماً بأنك «تقرأ» وتتابع وتنظّر، ولكنك لا تمارس القراءة الحقيقية. ولأنّ الزمن والوقت والسنوات هي العملة الوحيدة الذي يجب أن تعنينا حقّاً، فمن اللازم أن تنتبه لكيفية انفاقها (كيف تعرف أنك قد بدأت تكبر في السنّ؟ تكونان تشاهدان سوية مسلسلاً على التلفزيون، فتقول لك «أترى هذا الأسلوب الذي يرتديه هاريسون فورد؟ هو قد يليق عليك»، «أتقصدين بعد ثلاثين أو أربعين عاماً؟»، «كلا، أقصد الآن»).
الطّريف هنا هو أنّك، حين تقرأ أدباء الخيال العلمي في الغرب، فإنك سوف تذهل لكمية النبؤات التي كانوا يكتبونها كـ«خيالٍ» في الماضي وهي حولنا اليوم. تجد رواية نشرت في الستينيات أو السبعينيات، ولكنها تصف تطوّر «الإنترنت» كأنّ الكاتب يراها أمامه (وصولاً إلى تفاصيلها التقنية)، والكاتب يفهم أننا سنستخدم هذه الشبكة لتبادل كلّ أشكال المعلومات في المستقبل، وأننا سنجري أحاديثاً مع بعضنا بالفيديو وبسهولة، وعبر شاشاتٍ خفيفة رقيقة نحملها في أيدينا، إلخ. وهذا ينطبق على أمور كثيرة أخرى. ولكنّك تجد أن غالبية هؤلاء الكتاب الاستشرافيين، حتى وهم يتخيلون عالمنا بعد ألفٍ أو عشرة آلاف سنة، تجد في قصصهم كتباً ورقية ووثائق وبطاقات، كأنهم يفترضون أنه سنستمرّ باستخدام هذه المادّة. هذا مع أنّ انتهاء العصر الورقي قد يجري خلال أعمارنا نحن (تفسيري للموضوع أنّه نفسي: من شبه المستحيل للكاتب أن يتخيّل عالماً يخلو من الأداة الأساسية في مهنته وحياته). أنا شخصياً لا أحمل أي رومانسية تجاه الورق ولن أحنّ إليه، ومن يريد أن يقول لي أنّه يفضّل حمل كتابٍ ورقيٍّ وفلفشته على لوحٍ خفيفٍ رخيص يضمّ كامل مكتبتك، فأنا أريد أن أحدّثه عن مفهوم الـ«فيتيش».
إضافة إلى هذا كلّه، وقبل كلّ شيء، فإننا في المستقبل البعيد، لو قمنا فعلاً باستيطان نظامنا الشمسي ونشر الحضارة اللبنانية في المريخ وأقمار المشتري، فإنّ كلّ شيءٍ مصنوعٍ من الأخشاب، وصولاً إلى الورق التقليدي، سيكون نادراً وباهظ الكلفة. في هذا «المستقبل» المفترض، سيكون مكتباً خشبياً هو شيء غير قانوني أو علامة على الثراء الفاحش، لأنّه لا توجد أشجارٌ إلا على كوكب الأرض. هذا من الأمور التي تشرحها سلسلة روايات اسمها «المدى» (The Expanse)، وهي اشتهرت باعتبارها من النّمط «الأكثر علمية» من روايات الفضاء والمستقبل (وقد تمّ تصوير برنامجٍ تلفزيوني ناجح اعتماداً عليها). الكتّاب (هما كاتبان يعملان سوية، ولكنهما ينشران تحت اسم جايمس اس كوري) يحاولان أن يعطيا حلولاً «واقعيّة» لما سنواجهه إن قمنا فعلاً بالانتشار في الفضاء في القرون المقبلة، بمعنى أنّهم يتخيّلون من عندهم «مقدّمة» ما ضرورية من أجل سرديتهم - محرّك اندماج نووي غير موجود اليوم مثلاً - ولكنهم يحاولون اخضاعها لقواعد الفيزياء؛ وأكثر التكنولوجيا لديهم هي عبارة عن امتدادٍ لتقنيات اليوم، أو تحقيق لتقنيّات نقوم فعلاً بالبحث فيها، وليست «سحراً» يستنبطه الكاتب ويعطيه صفات خارقة. سوف نتكلّم اليوم عن الفضاء، بمعناه الحقيقي وأيضاً كما يتمّ تخيّله في هذه الأدبيّات؛ وإن كان الموضوع لا يهمّك ويستهويك فأنا أنصحك - بصدقٍ - أن تتوقّف عن القراءة هنا، فنحن سوف ندخل في التفاصيل.

خيالٌ غير علميّ
ما أثار غضبي حين بدأت بقراءة مثل هذه الأمور هو اكتشاف أنّ كامل مفهومنا عن «الفضاء» كما تكوّنه الثقافة السينمائية والشعبية المعاصرة، وأفلام الخيال العلمي الرائجة، هو عبارةٌ عن غشٍّ وخداع وتجاهل لقوانين الكون. الفضاء الخارجي، مثلاً، هو ليس مكاناً جميلاً ساحراً، نطفو فيه في حبورٍ ودهشة داخل سفن فضائية مريحة: الفضاء هو مكانٌ شرّيرٌ للغاية، غير مناسبٍ لك ويحاول باستمرارٍ أن يقتلك. إن شئت أن تخرج خارج الغلاف الجوي وجاذبية الأرض (ملجأك الصغير الوحيد في هذا الكون) فإنك تحتاج إلى خلق بيئة كاملة من حولك لكي تحميك من الموت الفوري في مكانٍ لا يفترض لك أن تكون فيه. وسيكون كلّ شيءٍ من حولك - لملايين الكيلومترات في كل اتجاه - يحاول تدمير هذه البيئة/الفقاعة: نيازك من كلّ الأحجام تحاول اختراق هيكلك، اشعاعات وعواصف شمسيّة، خلل في الأجهزة - ثمّ يكفي أن تتعرّض لهذا الفراغ الجميل لنصف ثانية حتى تصبح مومياء متجمّدة للأبد (سلسلة «المدى» تجيد في شرح أن تعيش في بيئة اصطناعية، مهدّدة دوماً بالفناء الفوري، على طول حياتك).
هذا ينطبق على كلّ شيء آخر تقريباً: في «ستار تريك» و«حروب النجوم» أنت ترى سفناً فضائية عظيمة تتقاتل عن قربٍ وتناور على مرأى بالبصر من بعضها، كالفرسان المتبارزين، وتستخدم أسلحة اللايزر. هذا يتحدى مفهوم المسافة والسرعة في الفضاء: في الفراغ، إن أنت أطلقت قطعةً من الفولاذ بقوّةٍ كافية، فهي قد تقطع ألف كيلومتر خلال ثانية، أي أن السفن لن تقترب من بعضها - سليمةً - إلى هذه الدرجة. في أحد أفلام «حروب النجوم»، أقسم، أظهروا لك «قاذفةً» تطير «فوق» سفينة العدو و«تسقط» عليها قنابلها (كأننا في الحرب العالمية الثانية، وكأنه في الفضاء «فوق» و«تحت»، وامكانية لأن «تسقط» القنبلة إن أفلتتها). «حروب النجوم»، على الأقلّ، لا تقدّم نفسها على أنها خيال علمي، بل هي فانتازيا تجري في الفضاء، في زمانٍ ومكانٍ وكونٍ لا علاقة له بعالمنا. ولكن «ستار تريك» و«غالاكتيكا» وغيرها من المسلسلات الشعبية، فهي تفترض امتداداً خطياً مع واقعنا، وتقترف ما لا يصدّق في هذا الاطار.
أنا شخصياً لا أحمل أي رومانسية تجاه الورق ولن أحنّ إليه، ومن يريد أن يقول لي أنّه يفضّل حمل كتابٍ ورقيٍّ وفلفشته على لوحٍ خفيفٍ رخيص يضمّ كامل مكتبتك، فأنا أريد أن أحدّثه عن مفهوم الـ«فيتيش»


الفكرة، بالطبع، هي أنّ أكثر هذه البرامج هي عبارة عن دراما تلفزيونية وأفلام تشويق، ولكنها تجري في «اطارٍ فضائي». خذوا أبسط الأمور: حتى لو توصّلنا إلى محركاتٍ ووسائل دفع تعطينا سرعات هائلة، وتسمح لنا باستعمار الفضاء، فكيف سيتحمّل جسدك البشريّ هذه السّرعة؟ نحن ضمن الغلاف الجوي ومع مقاومة الهواء، إن قامت طائرة بالتسارع بشكلٍ كبيرٍ أو فعل مناوراتٍ حادّة، سوف يرتفع علينا ضغط الجاذبية حتى نصاب بالاغماء. فلنتخيّل الآن التّسارع الذي سوف تتعرّض إليه في الفضاء وأنت تقترب من سرعة مليون أو عشرة ملايين كيلومتر في الساعة، بسرعةٍ سيصبح وزنك في مقعدك يوازي بضعة أطنان، وسيسحق جسدك نفسه وتموت فوراً. في المسلسلات الشعبية، ترى ركّاب السفن الفضائية وهم يسيرون بهدوءٍ في الأروقة ويتبادلون الأحاديث والنّكات فيما هم يتحرّكون بسرعة الضوء. بل أبسط من ذلك، فلنفترض أنّك تسافر من نقطةٍ إلى أخرى في الفضاء، هل تعتقد أنه يمكنك - حين تصل إلى مقصدك - أن «تتوقّف» ببساطة؟ أن «تفرمل»، مثلاً، عند نقطة الوصول؟ في الفراغ، لا شيء اسمه أن تبطىء سرعتك، وكل الطاقة التي اكتسبتها من التسارع لن تزول إلا حين تبذل طاقة مساوية لها في الاتجاه المعاكس. في روايات «المدى»، أنت تقوم بالتسارع لنصف مسافة الرحلة ثم، في منتصف الطريق تماماً، عليك أن تقوم بـ«قلب» السفينة (flip)، بحيث يصبح محرّكها يدفع في الاتجاه المعاكس، لكي تتباطأ تدريجياً وتكون قد خسرت أكثر سرعتها مع اقترابها من المقصد. والحدّ الأساسي للسرعة في «المدى» هو ليس في التكنولوجيا، في قدرة الجسد البشري على احتمالها (حتّى مع سرعاتٍ «واقعية جدّاً»، تخيّل أن تعيش تحت تأثيرٍ يوازي أربعة أضعاف جاذبية الأرض لمدّة أسابيع أو أشهر، أضرب وزنك ووزن كلّ شيء حولك بأربعة).
في سلسلة «المدى»، يتمّ حقنك بمزيجٍ من الأدوية في مثل هذه الحالات، أو أثناء المناورات الحربية، حتى تحتمل درجات جاذبية مرتفعة من دون أن تغيب عن الوعي، والسفينة بأكملها مصممة لهذا الغرض: المقاعد تميل مع اتجاه السفينة، وهي مملوءة بجيلاتين يمتصّ قسماً من الصدمة، والجدران نفسها مبطّنة لكي لا تسحقك إن اصطدمت بها أثناء مناورة مفاجئة. الأسلحة الفضائية في «المدى»، بالمناسبة، هي من ثلاثة أصنافٍ بسيطة فحسب. الطوربيد أوّلاً، باعتباره سريعٌ وفعال وبعيد المدى، وكونه مصنوعٌ من المعدن والسيليكون، محرّكٌ فوقه رأسٌ حربي، فهو سيناور في الفضاء أفضل من أي سفينة بداخلها بشر من لحمٍ ودمّ. السلاح الثاني هو الرشاش الدفاعي الذي تحمله السفن على كلّ جوانبها ودوره، بمعونة الذكاء الاصطناعي، أن يصطاد الطوربيدات التي تقترب منك (هو يشبه إلى حدّ بعيد رشاشات الدفاع القريب التي نجدها في القطع البحرية اليوم). أمّا السلاح الأخير، وتحمله عادة السفن الكبيرة، هو المدفع الكهرومغناطيسي الذي يطلق كتلةً من المعدن المغلّف بمادة التفلون (التي تصنع منها المقالي) في الفضاء بسرعةٍ هائلة. هذا، على عكس الطوربيد، لا يمكن اعتراضه، وهو إن أصاب سفينةً، فإن الطلقة ستخترق الهيكل من جهةٍ وتخرج من الجهة الأخرى، وتفرّغ المكان فوراً من الضغط والهواء. الفكرة هي أنّ هؤلاء الأدباء قد تخيّلوا المستقبل في أزمنةٍ مختلفة، وبأشكالٍ متباينة، ولكنهم كلّهم يجمعون على أنّ الحرب وأدواتها سوف تظلّ من ثوابتنا.

عوالم غير بعيدة
إن كانت «المدى» تحاول أن تظلّ «قابلة للتصديق»، فإنّ روايات جين سيمونز «أنشودة هايبريون» تذهب في الاتجاه المعاكس تماماً. على الهامش: من سمات هذا النمط من الأدب أن لا أحد يكتب روايةً واحدة، بل تكون أغلبها «سلسلة» من أربع أو خمس روايات، كل منها في ألف صفحة. ومع أنّ روايات «المدى» هي من صنف الخيال العلمي، إلّا أنها في جوهرها رواية صراعٍ سياسي؛ فيما هايبريون قد بدأ نشرها في الثمانينيات وهي، في أجزاء كبيرة منها، تأخذ ما يشبه البعد الصوفي. القصّة، باختصار، تدور في المستقبل البعيد جدّاً (روايات «المدى» تدور أحداثها بعد ثلاثة أو أربعة قرون فحسب)، وهي عن مجموعة من الأفراد، بينهم كاهن وشاعر وضابط وأكاديمي، تمّ اختيارهم لكي يقوموا سويّةً بـ«حجٍّ» إلى موقعٍ معيّن في كوكب «هايبريون»، هو أحد أكبر ألغاز الكون في عصرهم. باختصار، بعد أن خرج العرق البشري من كوكب الأرض، واكتشف مئات الكواكب واستعمرها، هو لم يجد أثراً لأيّ حياةٍ أخرى في أيّ مكانٍ باستثناء ذاك الموقع الغامض على كوكب «هايبريون» البعيد المنعزل: آثار ضخمة مبنيّة ومنحوتة من الحجر تركتها لنا حضارةٌ ما في الماضي (ثمّ تكتشف فيما بعد أنّ هذه الآثار ليست بالضرورة من الماضي).

وصلنا إلى تلك المواجهة الختاميّة الكبرى التي انتظرها الجميع، ولكنّ الشّرّ هو من انتصر وساد. ظهر المخلّص ولكنّه هُزم. ونحن اليوم، في أحداث تلك القصّة الخيالية، نعيش في العالم الأسود الكئيب الذي خلّفته تلك الهزيمة - ماذا نفعل الآن؟


هناك مقولة شهيرة في عالم التقانة بمعنى أنك لو عرضت علينا تكنولوجيا من قرنين أو ثلاثة في المستقبل، كالتكنولوجيا في عالم «المدى»، فإنك ستجدها مبهرة واعجازية، ولكنك لو قابلت تكنولوجيا من ألف سنةٍ في المستقبل، فأنت لن تقدر على تفريقها عن السّحر. بمعنى أنّك لن تقدر حتى على تخيّل عملها أو فهمه. دان سيمونز يستخدم هذه الميزة لكي يبني عالماً طريفاً، وهو كاتبٌ له مستوى وأسلوب، على عكس العديد من زملائه. لديك عنده ما يشبه «الباب السحري» الذي يسمح بالانتقال الفوري بين شبكةٍ من الكواكب، تدخل من مكانٍ وتخرج من آخر بعيدٍ مئات السنوات الضوئية (طالما أنه جزء من «الشبكة»). والأثرياء جدّاً هناك (وفي عالمٍ فيه مئات مليارات البشر، ولا يزال رأسمالياً، فإن ثراء هؤلاء سيكون أكثر فحشاً من اليوم بكثير) يبنون بيوتهم حول هذه الأجهزة، بمعنى أن غرفةً في بيتك تكون في الكوكب المديني الذي تعمل فيه، ولكنك تعبر الباب إلى غرفةٍ أخرى هي في كوكبٍ بحريّ وتطلّ على الماء، الخ. وسيمونز ينسج «قصصاً صغيرة» بالغة الطرافة ضمن كتبه، كقصة ابن عائلة ارستقراطية على كوكب الأرض، تبدأ حالة أسرته بالانحدار، فتقوم أمّه البخيلة بإرساله إلى كوكبٍ قصيّ. ولكن، بدلاً من استخدام الطريقة السريعة، فهي تسفّره على متن سفينة شحنٍ أبطأ من الضّوء، بمعنى أن الرحلة ستستغرق بضعة قرونٍ وهو في حالة تجميد. نظرية الوالدة كانت أنّه، مع وصوله إلى مقصده، سيكون الزمن والفوائد قد أعادا ملء حسابات العائلة ودفع ديونها. حين وصل صاحبنا، اكتشف أن الأرض ابتلعها ثقبٌ أسود بعد رحيله بقليل، ومعها كلّ الأصول والحسابات المصرفيّة (ولكن لأنه أصبح الانسان الوحيد الذي عاش في «الأرض القديمة»، ويتذكّر حياةً فيها، تحوّل إلى شخصيةٍ شعبية وراوٍ محبوب، وخلقت مذكراته موجة حنينٍ عبر الكواكب للموطن الأرضي المفقود، وباعت المليارات من النّسخ).
لا حاجة هنا للقول بأنّ هذه الروايات هي دوماً بمثابة اسقاطاتٍ على الواقع الحالي؛ ولكن المثير هو أنه - بالمقاييس الغربية والأميركية - فإنّ هذا النمط من الروايات «غير الجديّة» كثيراً ما يكون أكثر جذريّة سياسياً من الأدب الرفيع عندهم (مثلما أنّ أفلام الرعب الأميركية «الهابطة»، في الماضي، كانت تقدّم نقداً للمجتمع الأميركي والسياسة أكثر بكثيرٍ من أفلام «الواجهة» في هوليوود). مثال روايات «كثبان» (Dune) شهيرٌ، وهو اسقاطٌ مباشر على صناعة النفط وصراع الامبراطورية عليه، وعن مكان السكّان المحليين المستعمرين وسط هذه القوى. السلسلة تحولت إلى العديد من الأفلام والأعمال التلفزيونية، ومع كلّ نسخةٍ جديدة، وكلما زاد انتشار السلسلة وربحيتها، يحاولون تجريد العمل أكثر من صبغته السياسيّة الأصليّة، والتركيز على المؤثّرات والاكشن و«صراع العروش» (روايات «ديون»، حين تحيل إلى العرب، تستخدم بالطبع كل كليشيهات الاستشراق: البربري النبيل، البدائي الذي يحمل حكمة قديمة، وهو الذي سيقوده ويحرّره في نهاية الأمر انسانٌ «أبيض». هؤلاء الكتّاب، في النهاية، كانوا يقدّمون نقداً لمجتمعاتهم أساساً وهم لم يقرأوا ادوارد سعيد). مسلسل «غالاكتيكا»، أيام احتلال العراق، كان العمل الوحيد الذي يمكن أن تراه على التلفزيون الأميركي وهو يتماهى مع العراقيين الواقعين تحت الاحتلال بشكلٍ واضح، بل ويبرّر في مكانٍ ما العمليات الانتحارية ضدّ القوى التي تحتلّك. المسألة هي أن العديد من هؤلاء الكتّاب لم يعيشوا ويعملوا تحت الضوء مثل فيليب روث مثلاً، وليست لديهم ادعاءات أدبية رفيعة، ولا تحترمهم النخبة، ولا توجد فوقهم مؤسسة ثقافية صارمة. وأكثرهم، كأفراد، كانوا أناساً هامشيّين في المدرسة والمهنة والمجتمع، ويحقدون اجمالاً على من هم فوق (وذلك بالمعنى الحقيقي للكلمة، وليس كالروائي صاحب الجوائز الذي يلعب دور «الهامشي»، ثمّ يشتهر بفضل هامشيته).
تجد هذا المزيج من الخيال والنقديّة (المقصودة وغير المقصودة) في سلسلة روايات فانتازية، اسمها «مولود الضباب» (Mistborn). هذه كتب من الصعب جدّاً تحويلها إلى أفلام، حتى مع مؤثراتٍ متقدّمة ومكلفة، المثير فيها هو أنها تقلب السرديّة المعتادة لأقصوصات النمط الملحمي بشكلٍ فريد. أتعرفون كيف تكون هناك دوماً لدى الناس نبوءة عن بطلٍ موعودٍ يخرج في المستقبل؟ ومسار يعرفون أنه سيتوّج بمواجهةٍ ملحميّة بين الخير والشّرّ، يعلن بعدها «الخير» نصره النهائي؟ «مولود الضباب» تجري أحداثها بعد نهاية هذا كلّه، ولكن تخيّلوا أن تحصل النبؤة و«تفشل»؛ وصلنا إلى تلك المواجهة الختاميّة الكبرى التي انتظرها الجميع، ولكنّ الشّرّ هو من انتصر وساد. ظهر المخلّص ولكنّه هُزم. ونحن اليوم، في أحداث تلك القصّة الخيالية، نعيش في العالم الأسود الكئيب الذي خلّفته تلك الهزيمة - ماذا نفعل الآن؟

* كاتب من أسرة «الأخبار»