لمدة أربعة أيام، منذ الخميس الموافق 25 أيار وحتى الأحد 28 أيار، اجتمع أكثر من مئتين وخمسين باحثاً عربياً في بيروت للمشاركة في المؤتمر السادس للمجلس العربي للعلوم الاجتماعية. منذ تأسيسه كمؤسسة إقليمية مستقلة وغير ربحية، يهدف المجلس، عبر رؤية عابرة للتخصصات في العلوم الاجتماعية، إلى تعزيز دور البحث وإنتاج المعرفة في «المنطقة العربية». عبر تمويل متعدد من قبل جهات مختلفة مثل مركز أبحاث التنمية الدولية الكندي، والمكتب الإقليمي لمؤسسة فورد في القاهرة، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ووكالات تنموية ومنظمات دولية أخرى، يحاول المجلس الحفاظ على هامش من الاستقلالية في عصر هيمنة الممول وسيطرة السياسة بالمعنى العام والسلطوي على الحقل المعرفي.
أعلن منظمو المؤتمر افتتاحه بمداخلة لغير المتخصص ياسين الحاج صالح (بعد أن تم إلغاء وتغيب متحدثين آخرين لأسباب مختلفة). في كلمته غير المتناسقة، استقى صالح من المركزانية الأوروبية، والتي يحاول المؤتمر القطيعة معها كما يظهر في عناوين بعض جلساته

اختار منظمو المؤتمر السادس هذه المرة عنوان «إنتاج المعرفة النقدية في المنطقة العربية»، إشكالية تستحضر ضمنياً عوامل الهيمنة والنفوذ وعلى رأسها موضوع سطوة الممول وعلاقات القوى المادية والمعرفية بين مؤسسات «الشمال والجنوب». تفاوتت قدرة الباحثين العرب والحلقات التي تضمنها برنامج المؤتمر في معالجتها لهذه العوامل وظهر بعض التناقض بين عناوين المداخلات ومضامينها. ففي الوقت الذي استحضر البعض النظرة الماركسية وفكرة المركز والمحيط وموضوع التنظير من الأسفل، ووصف الشرط الاستعماري لتفكيك البنية المعرفية المنبثقة منه، لم يتمكن بعض الباحثين من الانعتاق من التصورات والمصطلحات النيوليبرالية التي غزت العالم المعرفي بفعل هيمنة المنظمات الدولية وتكاثر النظريات النيوليبرالية المعادية لفكرة استحضار الهيمنة كشرط بنيوي في قراءة الواقع. مثل هذه النظرة تستوجب جدلاً نظرياً يستقي عمقه من الأبحاث الميدانية حول شروط وممارسات إنتاج المعرفة في الوطن العربي. لا شك أن غياب مثل هذه الأبحاث يساهم في هذا التناقض ويجعل من الجدل النظري ترفاً بعيداً من واقع البحث الذي نعيشه.
على صعيد آخر، لا تخلو مثل هذه المؤتمرات من علاقات القوى بين المشاركين أنفسهم، فهي تجمع من جهة باحثين في مؤسسات محلية غير مرئية (فلسطين، العراق، الخ.) والتي تعاني حصاراً فكرياً ومادياً ضمنياً بفعل الوضع الاستعماري والأمني والسياسي مع مؤسسات أخرى لها سطوتها المادية والرمزية على المستوى العربي والغربي. غياب التكافؤ هذا ظهر في أروقة فندق كراون بلازا في بيروت، إذ تزاحم الباحثون الشباب من مختلف الدول العربية إلى لفت أنظار «نجوم» البحث العربي، أولئك الذين تمكنوا من الحصول على مكانة مؤسساتية عربية أو غربية، طمعاً في علاقة تفتح لهم الأبواب المغلقة. بغياب مؤسسة بحثية جامعة تحمل الهمّ العربي والأصالة المعرفية، يتنقل الباحثون الشباب من قاعة إلى أخرى على أمل العثور على هامش يسمح لهم بالمساهمة معرفياً في معركة التحرر والانعتاق.
ساهمت هذه النظرة في بناء الإشكاليات وطرح الأسئلة البحثية التي «تستحق» الدراسة وفق «موضوعية» تعلي من شأن السياق الغربي في فهم السياقات المحلية


لا بد من التذكير أن العلوم الاجتماعية علوم مزعجة تحاول شق الأنفاس في حقل معرفي يخضع لشروط بنيوية مركبة من التبعية المادية والمعرفية. فمن جهة، تعاني أبحاث العلوم الاجتماعية عن الوطن العربي من «خطاب معرفي سائد» أخذ شرعيته من النظرة المركزانية الغربية. ساهمت هذه النظرة في بناء الإشكاليات وطرح الأسئلة البحثية التي «تستحق» الدراسة وفق «موضوعية» تعلي من شأن السياق الغربي في فهم السياقات المحلية. بقصد مرات ومن دون قصد أحياناً كثيرة، تعمل هذه النظرة على تجسيد ناعم لإعادة إنتاج معرفي للشرط الاستعماري الذي صقل علاقات القوى بين عالم الشمال والجنوب. بهذا، احتكرت هذه النظرة عملية إنتاج النقد نفسه مما ساهم في إقصاء أي نقد خارج عن حدود «الموضوعية» المرسومة لغايات استعمارية.
من جهة أخرى، أدّى تفاوت رغبة الدول العربية وقدراتها على الاستثمار في الإنتاج البحثي المعرفي إلى عدم تجانس كبير في قدرات المؤسسات البحثية العربية على استيعاب وتوظيف الباحثين العرب. فبدلاً من أن تساءل المعرفة النقدية التي ينتجها بلد ما النظام الاجتماعي والسياسي القائم فيه، صارت هذه المعرفة سلطة رمزية في يد الأنظمة التي تمولها ضمن تنافسها السياسي على السلطة ومصدراً لتعزيز السلطة الرمزية والمادية لبعض عرابي الفكر في الوطن العربي. أضحت المعرفة شعاراً يتم التحكم في مضامينه وفق الطلب، فتكاثر المديح الزبائني واقتصر عزف الموسيقى على ذوق من يدفع للزمار.
في هذا السياق المثقل بالهيمنة والتبعية، يحمل عنوان المؤتمر وحلقاته المختلفة تحديات كبيرة وآمالاً تكسوها المخاوف. تجسدت جميعها حين أعلن منظمو المؤتمر افتتاحه بمداخلة لغير المتخصص ياسين الحاج صالح (بعد أن تم إلغاء وتغيب متحدثين آخرين لأسباب مختلفة). في كلمته غير المتناسقة، استقى صالح من المركزانية الأوروبية، والتي يحاول المؤتمر القطيعة معها كما يظهر في عناوين بعض جلساته، مثل الهولوكوست، ليظهر استثنائية الاستبداد في سوريا. تناسى صالح كيف استخدم الغرب جريمته ليشرعن الاستعمار الصهيوني على شعب لم يسمع بالمحرقة إلا حينما اقتلع من أرضه على يد من صاروا بفعل هذا الاستخدام «ضحايا استثنائيين عابرين للحدود والتاريخ». ففي الوقت الذي امتدحت فيه بعض المواقع الإخبارية الكلمة وهلل لها بعض الأكاديميين على أنها انفتاح معرفي على الميدان، رأى فيها الكثيرون خلطاً متعمداً لتحديد هوية خطاب المعرفة النقدي المراد إنتاجه. وكأن تمويل المؤسسات البحثية التي تنظّر لـ«الثورات» من دون أدنى انتباه للقواعد العسكرية الأميركية التي تجاورها، تعمل على تأطير نظري للمعرفة وتحديد لأولوياتها.
هل سينجح المجلس العربي للعلوم الاجتماعية في الإفلات من محاولات الاستحواذ عليه ويبقى مساحة، حتى ولو هامشية، للباحث العربي في معركته التحررية والانعتاقية من شروط الهيمنة المعرفية والمادية الغربية والريعية؟ أمّ أنه سيكون كغيره من المؤسسات البحثية التي تعمل على تطبيع هذه الهيمنة باسم النقد؟ أسئلة وتحديات كبيرة أمام المجلس نأمل في أن يتمكن أعضاؤه من تجاوزها والإجابة عليها بما يخدم البحث النقدي في الوطن العربي.

* باحث فلسطيني في علم الاجتماع