إذا كانت الأحزاب السياسية في العراق وأذرعها المسلحة قد سيطرت على مطار النجف، الذي يشوب الغموض الجهة المسؤولة عنه حتى الآن، فتارة يقال إنها سلطة الطيران المدني بعد فصلها عن وزارة النقل، وأخرى يقال إنها مجلس المحافظة، وحتى اقتحامه من قبل المتظاهرين في صيف 2018، فإن مطار كربلاء قد حُسمت قضية عائديته كما يبدو لمصلحة الشركات التابعة لـ«العتبة الحسينية».ففي عام 2010 قال المشرف على مطار النجف صادق اللبان إن مطار النجف هو «ملك لـ 25 مليون عراقي» [من الواضح إنه يقصد العراقيين الشيعة، أي أن التطييف السياسي بلغ المطارات] ومن غير الممكن أن يتأثر بقرار أي جهة مهما كانت»، مشيراً إلى أن «وزارة النقل طالبت رسمياً بإدارته، إلا أنَّ المحافظة ردَّت بأن المطار مشروع استثماري ومن غير الصحيح تسليم إدارته إلى وزارة النقل رغم احترامنا الشديد لها».
وبخصوص مطار النجف أيضاً، فقد كان رئيس مجلس الوزراء الأسبق حيدر العبادي قرر حل مجلس إدارة المطار الذي يهيمن عليه ممثلو الأحزاب السياسية، وإلحاق المطار بسلطة الطيران المدني في تشرين الثاني عام 2017، ويبدو أن هذا القرار ظل حبراً على ورق، ولا تعرف على وجه الدقة حتى الآن عائدية المطار وأين تذهب إيراداته المالية. ففي تصريح متلفز بتاريخ 23 شباط من العام الجاري، قال رئيس سلطة الطيران المدني، عماد الأسدي، إنه لا يعرف إلى مَن يعود مطار النجف، مضيفاً أنه لا يعرف أيضاً أين تذهب إيراداته (السومرية نيوز).
وكانت أنباء صحافية قد ترددت آنذاك عن أن ديوناً ضخمة قد ترتبت على هذا المطار تقدر بـ277 مليون دولار، أي أنها تفوق تكاليف إنشائه، ولكن تمَّ السكوت لاحقاً عن هذه القضية ودفنها قضائياً وإعلامياً خلال فترة حكومة مصطفى الكاظمي!
ومن الإشارات القوية والرسمية الجديدة لتدخل الدولة وتأكيد عائدية المطار لها، صدور حكم في قضية فساد كان بطلها رئيس مجلس إدارته، حيث نسجل مصادقة هيئة النزاهة خلال العام الجاري (شباط 2023) على قراري الإدانة الصادرين بحقِّ رئيس مجلس إدارة مطار النجف الدوليّ سابقاً، بعد الطعن التمييزيِّ من قبل الهيئة.
حيث قررت محكمة استئناف النجف المُصادقة على الحكمين الصادرين بالحبس الشديد غيابياً على رئيس مجلس إدارة مطار النجف الدوليّ سابقاً، «الحكم الأول بالحبس الشديد لمُدَّة ثلاث سنواتٍ جاء على خلفيَّة قيام المُدان بإلحاق الضرر الجسيم بالمال العامّ؛ نتيجة إساءة استعمال السلطة وصرف مبلغ 726,856 دولاراً أميركياً خلافاً للضوابط، فيما صدر حكم الإدانة الثاني بالحبس البسيط لمُدَّة ستة أشهر، إثر قيامه بمنع الفريق التدقيقيّ التابع إلى هيئة النزاهة من القيام بواجبه وتفتيش مطار النجف، والامتناع عن تزويد الهيئة بالوثائق والأوليَّات، تحت ذريعة أنَّ المطار عبارةٌ عن مشروعٍ استثماريٍّ لا يدخل ضمن صلاحيَّات الهيئة في التدقيق والرقابة» (شفق نيوز). ويلاحظ أن خبر هذا الحكم لم يتضمن اسم المسؤول المدان، ولكن المعروف هو أن رئيس مجلس النجف المحلي هو أحد رجال الدين ويدعى الشيخ فايد الشمري.

مطارات دولية وشوارع مدن مزرية!
هناك أيضاً مشروع لمطار دولي في محافظة ذي قار، شُرع في تنفيذه بهدف تحويل قاعدة عسكرية جوية عراقية شبه مهجورة في محافظة ذي قار تدعى «قاعدة الإمام علي»، ومطار آخر قيد التخطيط في محافظة واسط جنوب بغداد، ومشروع مطار ثالث طالب بإنشائه أعضاء في مجلس المحافظة في محافظة ميسان شرق ذي قار، وجميع هذه المحافظات متجاورة وقريبة من بعضها في إقليم جغرافي محدود المساحة. ويمكن لمطار البصرة الدولي أن يغني عن هذه المطارات جميعاً، مثلما يغني مطار بغداد عن مطاري كربلاء والنجف، فالمسافة بين بغداد وكربلاء مئة كلم لا غير، وبينها وبين النجف 176 كلم فقط. ومن الممكن والعقلاني أن تتم الاستعاضة عن هذه المطارات عديمة الجدوى الاقتصادية، بتطوير وتوسعة مطارات بغداد والبصرة والموصل، وبتطوير وتحديث شبكة الطرق البرية المزرية داخل المدن وشبكة السكك الحديدية العراقية العريقة والمتهالكة.
ولكن لماذا «تنجح» مشاريع الاستثمارات الزراعية والصناعية التي تقوم بها العتبات والأوقاف الدينية، كما يروج الإعلام المحابي لها، وتفشل مثيلاتها التي تديرها الدولة؟ هنا، محاولة للإجابة؛ تنجح هذه المشاريع لعدة أسباب وعوامل منها:
-لأن مشاريع الأوقاف والعتبات تقوم على أراضٍ وبمواد خام مجانية أو شبه مجانية تعود للدولة، منها كليات ومصانع قائمة فعلاً ومجهزة تجهيزاً تاماً تم الاستيلاء عليها من قبل قوى وشخصيات نافذة في الحكم، وأسماؤها معروفة ومتداولة في الإعلام.
-ولأن الدولة تقدم أموالاً هائلة من الموازنة السنوية الحكومية لدواوين الأوقاف الشيعية والسنية وغيرها، رغم أنها هيئات وقفية مستقلة دستورياً ويفترض أن تكون مكتفية ذاتياً.
-ولأن الأرباح الكبيرة المتأتية من مشاريع مقاولات واستثمارات العتبات الدينية لا تضبطها حسابات سنوية رسمية وعلنية مراقَبة للمصاريف والأرباح والتكاليف، ولا تدفع عنها أية ضرائب أو رسوم جمركية أو غيرها، وقد خُصص لبعضها رصيف خاص في أكبر موانئ البلد لاستقبال مستورداتها من الخارج لتكون معفاة من الرسوم والتفتيش.
-ولأن الأوقاف الدينية والعتبات مستقلة بحسب الدستور النافذ -دستور مرحلة بريمر - بموجب المادة 103 أولاً، والتي تنص على أن «دواوين الأوقاف، هيئاتٌ مستقلة مالياً وإدارياً». ولا تشرف على حساباتها مؤسسات الدولة المتخصصة كوزارات المالية والاقتصاد والتخطيط ولا تُدفَع عنها ضرائب سنوية للدولة. فكيف تخسر مشاريع استثمارية، تأخذ ولا تعطي.
-ولأن مشاريع الأوقاف والعتبات الدينية تشارك في إنجاحها جميع وزارات ومؤسسات الحكومة العراقية وتقدم لها الخدمات والمواد الأولية والآليات والنقل مجاناً، ومَن يجرؤ على رفض طلبات إدارات العتبات المستثمرة يعاقب بالنبذ داخل الحاضنة المجتمعية الطائفية ويخسر امتيازاته وحتى منصبه الحكومي غالباً.
ربما تصلح حالة محافظ كربلاء الأسبق، عقيل الطريحي، لتكون خير مثال على هذه الحالات من النبذ والإعفاء من المناصب؛ لقد فقدَ الطريحي منصبه لاحقاً، وتمت إقالته بعد استجوابه غيابياً من قبل مجلس المحافظة في عام 2019. وكان الطريحي قد كشف المخبوء حين قال في لقاء تلفزيوني مشهور ومنشور على منصة «يوتيوب»، أنه كان موافقاً على إحالة مشروع استثمار مطار كربلاء إلى إحدى شركات العتبة الحسينية، ولكن الجهات العتباتية المستثمرة استبعدت وزارة النقل العراقية من المشروع، وقال حرفياً: «حين أحيل مشروع مطار كربلاء إلى شركة من الشركات التابعة للعتبة الحسينية هي شركة «خيرات السّبطين»، أنا لم أعترض على هذه الشركة، ولكن هم عملوا على استبعاد وزارة النقل الاتحادية، فهل يمكن بناء مطار دولي من دون وجود وزارة نقل؟». وأضاف الطريحي: «وحين سألوني: وماذا تقدم أنت كمحافظ للمطار؟ قلت لهم: لا أستطيع أن أقدم شيئاً باسم المحافظة. فقال محاوري: ليش، أليس هذا المشروع للإمام الحسين؟ فقلت له: هذه لا تبيعها علينا لأننا نعرفها، والحسين عليه السلام ليس له علاقة بالمطار!».
ثم يسجل الطريحي الآتي: «لقد وافقت على هذا المشروع لأنني بصراحة خدعت من قبل صاحب شركة «خيرات السبطين» ومن سامي الأعرجي، رئيس الهيئة الوطنية للاستثمار في العراق». ويبقى السؤال في حالات كهذه قائماً؛ فلماذا لا يتكلم المسؤولون الحكوميون والقضائيون ويكشفون المستور إلا بعد أن تتم الإطاحة بهم ويستبعدون عن مناصبهم؟ ألا يعتبر هذا دليل إدانة ضدهم، قد يصل إلى درجة اتهامهم بالتواطؤ طالما كانوا صامتين وهم في موقع المسؤولية؟
إنّ ما يقال عن فشل مشاريع القطاع العام التي تديرها الدولة يثير العديد من الاعتراضات والتحفظات، لأنه قول لا ينطبق على واقع العراق بعد الاحتلال الأميركي وقيام حكم المحاصصة المكوناتية، فغالبية مشاريع ومصانع ومزارع القطاع العام تم تدميرها خلال الحرب، أو محاصرتها أو التضييق عليها وقطع التمويل عنها وتحويل بعضها إلى مشاريع «تمويل ذاتي» لا سوق لها، بعد الحرب ضمن خطة منهجية مسبقة لتدمير العراق وتحويله إلى سوق استهلاكية لبضائع دول الجوار؛ بلد مهشم بلا جيش ولا زراعة ولا صناعة ولا ثقافة ولا صحة ضمن معادلة الاحتلال الأميركية القائلة: لكم أيها الطائفيون حكم العراق ولنا أن تجعلوه قاعاً صفصفا!
إنّ ما يقال عن فشل مشاريع القطاع العام التي تديرها الدولة يثير العديد من الاعتراضات والتحفظات لأنه قول لا ينطبق على واقع العراق بعد الاحتلال الأميركي


القضاء يدخل على الخط
أمّا عن محاولات القضاء الدخول في متاهة «الفساد المقدّس» المرعبة فيمكن تسجيل محاولة رئيس هيئة النزاهة الأسبق القاضي عزة توفيق جعفر من مدينة الموصل، والذي تسلم مهمات رئاسة هيئة النزاهة في شهر تموز من عام 2018. فقد أعلن القاضي جعفر في بداية عام 2021 عزمه على تقديم تقرير يكشف جميع ملفات الفساد بما فيها بعض مشاريع العتبة الحسينية كمشروع إنشاء مطار كربلاء بقيمة ملياري دولار. وفعلاً زار القاضي جعفر العتبة الحسينية التي أصدر أمينها العام الشيخ عبد المهدي الكربلائي بياناً أكد فيه دعمه لمكافحة الفساد. ولكنَّ القاضي المذكور لم يتمكن أبداً من تقديم تقريره الموعود لأنه قتل داخل سيارته في حادث مروري، وكان القاضي الراحل قد قال في خطاب مسجل له قبل مقتله عبارة لها مغزاها ونصها «إن منظومة الفساد أضحت اليوم لديها استراتيجيات وخطط، وربما تصل إلى مستويات تكون أقوى من الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد»!
من اللافت حقاً أن إعلام دواوين الأوقاف وإدارات العتبات الدينية لم تُعِر كبير اهتمام لكل ما تنشره الصحافة ووسائل الإعلام والمواطنون العراقيون على منصات التواصل الاجتماعي وهو كثير، إلا مرة واحدة! وذلك حين اتهمها بالفساد طرف إعلامي أميركي فسارعت إلى الرد المطول والغاضب، ولهذا دلالاته ومعانيه العديدة؛ منها أن هذه الأطراف المتهمة بالفساد تعرف جيداً أن الطرف الأميركي هو الوحيد القادر على إقصائهم عن مناصبهم وامتيازاتهم بجرة قلم السفيرة ببغداد بعد أن ضمنوا سكوت الدولة على فسادهم!
فللمرة الأولى والوحيدة حتى الآن، ردت العتبة الحسينية في كربلاء على تحقيق تلفزيوني بثته قناة «الحرة -عراق» الأميركية، تضمن الإشارة إلى شبهات فساد تحوم حول منظومة العتبتين الدينيتين في كربلاء، بإدارة وكيلي المرجع الأعلى علي السيستاني، الشيخين عبد المهدي الكربلائي وأحمد الصافي. كما تحدث وثائقي «الحرة» عن دور مرتضى الحسني، صهر الشيخ الكربلائي، في إدارة تلك المشاريع، وعن دور ميثم الزيدي زعيم «فرقة العباس» القتالية، التابعة لـ«حشد العتبات»، وهو صهر أمين عام «العتبة العباسية» الشيخ أحمد الصافي. ويبدو أن الجهة الإعلامية الأميركية نسيت أو تناست أفضال الشيخين وبخاصة الصافي على العملية السياسية التي أطلقها الاحتلال ونظام حكم المحاصصة الطائفية الذي تمخضت عنه وخطورة الدور الذي قام به - الصافي - حين كان العضو الأول والمتنفذ في لجنة كتابة الدستور العراقي عام 2005 ممثلاً للمرجعية النجفية. وقد أكد دورَهُ هذا أحدُ أعضاء اللجنة وهو السيد ضياء الشكرجي، مقرر اللجنة الأولى، في مقابلة مع التلفزيون الرسمي العراقي قبل سنوات قليلة، والتسجيل منشور على منصة «يوتيوب»، حيث قال إن «رئيس لجنة المبادئ الدستورية الأساسية وممثل المرجعية النجفية الشيخ أحمد الصافي كان يضغط عليه ويمنعه من توزيع محاضر الجلسات على الأعضاء وأنَّ الشيخين الصافي وهمام حمودي سربا صيغة للدستور غير متفق عليها لجريدة «الصباح» الرسمية وقالا إن هذه الصيغة قد تم الاتفاق عليها قبل أنْ يتم أي اتفاق، ما حدا به إلى الاستقالة من اللجنة».

الرد اليتيم والاستثمارات «المجازية»
من الواضح أن تحقيق «الحرة» قد أغضب الشيخين ومعهما إدارة العتبتين والجهات والشخصيات السياسية المقربة منهما فصدر ذلك البيان الغاضب، فلنلق نظرة سريعة على بعض فقراته الأهم:
يبدأ البيان بفقرة مليئة بالدلالات تقول: «تابعت إدارة العتبة الحسينية المقدسة باستهجان بالغ ما صدر عن قناة الحرة من تقرير يغالط الحقيقة ويجانب الصواب ولعل الهدف من ورائه لم يكن مهنياً البتة، فقد أثار التقرير علامات استفهام كبيرة وكثيرة ولا سيما استهداف العتبات بوصفها رمزاً من رموز الاستقرار والنجاح، فضلاً على كونها مساحة تصحيح وتصويب طوال تعاقب الحكومات بعد 2003 وما تركته من ثغرات تستوجب ملأها بما ينفع البلاد والعباد. إذ سعت إلى تأسيس منظومة مشاريع تلامس حاجة المجتمع وتطلعات الشعب العراقي في مختلف قطاعات الحياة، فلم تكن العتبات مراكز دينية وحسب وإنما كانت مراكز تغيير للواقع الذي خلفته الأزمات طوال المدة المنصرمة». والبيان هنا لا يراوغ أو ينفي ما يتهم به من أفعال وما يوصف به ويقال عن تدخلاته في الشأن العام وبخاصة الاقتصادي بل هو يعطي لأصحابه حق القيام بدور الدولة، أو بدور الهيئة الناجحة في دولة فاشلة تترك وراءها الثغرات، فبادرت هي كما يقول البيان حرفياً إلى «تأسيس منظومة مشاريع تلامس حاجة المجتمع وتطلعات الشعب العراقي في مختلف قطاعات الحياة لتغيير للواقع الذي خلفته الأزمات طوال المدة المنصرمة»!
أمّا عن مشاريعها الاستثمارية، فبيان العتبة يعترف بوجودها، ولكنه يضيف أنها مشاريع استثمارية «على نحو مجازي»، لأنها لا تبتغي تحقيق الجنبة الربحية بقدر تحقيق أهداف خدمية واجتماعية وصحية. ولكن كيف يتأكد الجمهور من عدم تحقيق جنبة مالية وحسابات هذه المشاريع سرية لا يكشف عنها للرأي العام، وهل هناك مشاريع صناعية وزراعية وخدماتية بهذا الحجم لا تدر أرباحاً إن لم تكن مجانية فهل خدمات ومنتوجات العتبات مجانية أو حتى بسعر الكلفة؟!
وفي الفقرة الثالثة المقتضبة منه يقول البيان: «العتبة الحسينية المقدسة مسؤولة عن رواتب وإعانات لقرابة 14 ألف منتسب». ويبدو أن البيان بهذه الفقرة ينفي أن يكون عدد منتسبيه أكثر من هذا الرقم أو أنه يحاول بها تبرير المخصصات الكبيرة التي تخصص له في الموازنة السنوية العامة للدولة.
أمّا عن النقطة الأهم، والمتعلقة بالرقابة المالية والمحاسبة الحكومية، فقد ردّت العتبة في بيانها بالقول: «إنَّ جميع مشاريع العتبة الحسينية المقدسة الاستثمارية منها والخدمية يخضع الإنفاق فيها إلى تعليمات وقرارات الموازنة العامة للحكومة الاتحادية، إذ يدقق قسم الرقابة المالية في العتبة جميع النفقات والإيرادات، ليدققها من بعد ذلك مدقق خارجي مجاز من وزارة المالية، وترفع بعد ذلك إلى ديوان الوقف الشيعي الذي يضعها بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي لغرض المراجعة والتدقيق». وهذه الفقرة صريحة جداً فهي تجعل الرقابة المالية والتدقيق بيد إدارة العتبة نفسها ثم يكلف مدقق خارجي بتدقيق الحسابات.
إن كون المدقق يجب أن يكون خارجياً وليس من وزارة المالية العراقية، واضح المرامي تماماً، ويكشف كل شيء، فالطرف المستثمِر والمتربِّح يريد أنْ «يحسب الحِسبة وحده» وبطريقته الخاصة والتي لا تقبل شريكاً! أمّا ما يحدث لاحقاً من رفع الحسابات إلى الوقف الشيعي ليضعها بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي «لغرض المراجعة والتدقيق»، فالمهم ليس التدقيق والمراجعة المباشرة من قبل جهاز الرقابة المالية في وزارة المالية بل تُجرى المراجعة والتدقيق من قبل العتبة ثم ترفع إلى إدارة الوقف «لتوضع بين يدي ديوان الرقابة المالية الاتحادي لغرض المراجعة والتدقيق». بخصوص الفقرة الأخيرة فلم يؤكد مصدر رسمي، سواء من وزارة المالية أو غيرها، وطيلة العشرين سنة الماضية، أن مراجعة وتدقيقاً قد أجريا على حسابات الأوقاف أو العتبات الدينية. وحتى إذا افترضنا جدلاً صحة المعلومة الخاصة بإجراء المراجعة والتدقيق من قبل الرقابة المالية الوزارية فلماذا تبقى هذه المراجعة والتدقيق والمبالغ الخاصة باستثمارات العتبات والأوقاف سراً من الأسرار لا سبيل إلى الاطلاع عليها من قبل الرأي العام والإعلام المستقل؟

خلاصات
إنّ ما تقدّم التطرق إليه من ملفات فساد موثَّقة إعلامياً في هذه الدواوين وإدارات العتبات لا يعني بأية حال من الأحوال أنَّ الفساد مقتصر عليها، بل هي نماذج ربما تكون أخف وطأة قياساً إلى نماذج أخرى في دوائر ومؤسسات حكومية، وهي بمثابة رأس جبل الجليد الذي يظهر للرائي وما خفي كان أعظم.
لقد تحولت الدولة العراقية ومؤسساتها من دولة تديرها عصابة مسلحة صغيرة قبل الاحتلال عام 2003 إلى أخطبوط من عشرات العصابات بملايين الأذرع مهمته توزيع الريع النفطي الهائل على شبكة معقدة ومتضخمة باستمرار من الزبائن والموالين النافذين الذين يمنحون ولاءهم واستعدادهم للتضحية بكل شيء مقابل الفوز بحصتهم المقررة من كعكة الفساد وضمان ديمومة نظام الحكم. إنّ مؤسسات الدولة العراقية في أيامنا لم تعد تعاني من الفساد فحسب، بل يمكن القول إنها أصبحت تتنفس الفساد في شهيقها وزفيرها، وإنها إذا توقفت عن إدارة الفساد تحت غطاء توزيع الريع النفطي على الشبكة الزبائنية، والتي تقتطع لأهل النظام، وهم بالآلاف، حصة الأسد من مليارات الموازنة، مقابل الفتات للجيش المليوني من أصحاب الرواتب ومخصصات الإعانة المجتمعية (خصصت الموازنة أكثر من 150 تريليون دينار للموازنة التشغيلية ومنها الرواتب من مجموع 197 تريليون دينار هو إجمالي الموازنة، وبهذا يبقى 47 تريليون دينار للمشاريع الاستثمارية)، والذين يقترب عديدهم وفق آخر الإحصائيات من خمسة ملايين مُعيل تم تكبيلهم بسلسلة الرواتب، والذين عليهم استهلاك ما يتم استيراده من غذاء من دول الجوار. ولكن عدد هذا الجيش للبطالة المقنعة في تزايد، وخصوصاً حين حولت الحكومة الحالية برئاسة محمد شياع السوداني سياسة ضخ ونثر التعيينات العشوائية لتكون بمثابة رشى تقدمها الحكومة للعاطلين عن العمل والخريجين الجدد من الكليات والمعاهد في بلد لا ينتج حتى غذاءه، وهذا الواقع بحد ذاته سيكون عامل خلخلة واهتزاز عنيف في الوضع العام مستقبلاً، بمجرد أن تنخفض سعر برميل النفط أو أن تمنع وزارة الخزانة الأميركية العراق من التصرف بعائدات نفطه والتي يشترط أن تمر أولاً عبر الممرات المالية الأميركية. ألا يوحي هذا الوضع الاقتصادي والسياسي الذي يعيشه العراق وشعبه منذ عشرين عاماً بأنه في الحقيقة بلد مختطف وشعب يعيش تحت التهديد بالإفقار والتجويع والحصار فيما تشارك حكوماته الفاسدة في تنفيذ هذه الاستراتيجية الإبادية؟

*كاتب عراقي