كتب اكثر من باحث غربي عما اصطلح عليه بقوس الازمات، لا سيما مستشار الامن القومي الاميركي السابق زبغنيو بريجنسكي وغيره، وأطلق هذا المصطلح على امتداد منابع النفط وخطوط انابيبه وبراميله، من غرب افريقيا إلى شرق اليابان عموماً، أو من العالم العربي إلى أواسط آسيا، مروراً بكل البلدان الواقعة بينها. وفي كل الاحوال ما زالت هذه الخطوط محل الدراسة والتخطيط والتآمر عليها بحثاً عن سبل الهيمنة والاستحواذ، أميركياً وغربياً بشكل عام.
ومن بينها تأسيس الاحلاف وتوقيع الاتفاقات العسكرية بخاصة، وزرع القواعد العسكرية والاستخبارية، وصناعة الحكومات الموالية لسياسات تلك البلدان والقوى الاستعمارية الامبريالية.
لم يتوقف الكلام عن قوس الازمات سياسياً واقتصادياً. هذه المرة اخذ مسار حرائق متواصلة ومتتالية عبر الرقعة الجغرافية ذاتها أو أجزاء منها مترابطة مع الاهداف الابدية وبصور جديدة. لا سيما بعد الحراك الشعبي في بعض البلدان العربية وابعاد بعض الرؤوس الحاكمة وصعود تيار الاسلام السياسي. وكما يبدو استهدف في اشعال الحرائق اكثر من هدف طبعاً، ومنها امتصاص الغضب الشعبي وتحويل اتجاهاته، والعمل للالتفاف والانقلاب على الارادات الشعبية والخيارات الوطنية وتمزيق وحدتها وسيادتها لبلدانها وثرواتها وموقعها في البيئات الساخنة حالياً.
ظهر قوس الحرائق هذا واضحاً الآن، عبر وبعد صناعة منظمات ارهابية مستمدة من تجربة صناعة تنظيم القاعدة في افغانستان وباكستان تحت مسميات محاربة الشيوعية والاتحاد السوفياتي في وقته، او امتداداتها خلاصة انتاجها. وهذه الصناعة مفضوحة من نشاطاتها وعناوينها والأجهزة المشرفة عليها والممولة والمحركة لها في الساحات المطلوبة حالياً والتهديد بها لغيرها من الساحات التي تعرض لها وعليها الصولات للمشاركة معها في الصناعة والتمويل والإعلام وغيرها من الامكانات المقصودة والمطلوبة لها. كما يبدو ان فشل الادارات الغربية في قيادة العمليات التغييرية والحراك الشعبي الغاضب وجيش الشباب الذي ينتفض يومياً في الميادين دفع تلك الادارات الى التحرك على مخططات قديمة جديدة لاستيعاب الشارع وإعادة دورة التغيير الى تقليب اوجه الاوراق التي يمكنها من الادارة والقيادة، في تغيير التحالفات واثارة الازمات وتصعيد الاضطرابات.
قوس الحرائق المتصاعدة والممتدة من شمال العراق، مروراً بسوريا ولبنان وفلسطين وصولاً الى سيناء وليبيا وتونس. والحرائق فيها تشعلها المنظمة الجديدة التي صنعت وبنيت بمعرفة وتمويل الاجهزة الغربية وحلفائها في المنطقة وحدودها ومخابراتها والتخادم الوظيفي بينها، والتي تطورت تسمياتها من جماعة التوحيد والجهاد الى القاعدة في بلاد الرافدين، الى قاعدة الجهاد، دولة العراق الاسلامية، جبهة النصرة، اجناد الاسلام، السلفية الجهادية، والمسميات الاخرى...
ومن ثم اعلان الدولة الاسلامية في العراق والشام/ داعش، وأخيراً في مسرحية الجامع الكبير في الموصل، وتسميتها بالخلافة الاسلامية أو الدولة الاسلامية والمطالبة بالمبايعة لها وللخليفة الجديد. وانتشارها في محافظتي نينوى وصلاح الدين ومناطق متواصلة في وديان وسهول الجزيرة الى الرقة ودير الزور والحسكة في سوريا. واستمرار مثل هذه الحرائق في سيناء وعبوراً عبر الساحل البحري وصولاً الى طرابلس وبنغازي والحدود التونسية ـ الجزائرية. وبموازاتها تصعيدها في غزة، التي تفضح مشعلي الحرائق، حيث تقوم الدولة/ القاعدة الاستراتيجية العسكرية في اشعال الحرائق في غزة وتستخدم كل الوسائل والأسلحة المتطورة التي تقوم الدول الراعية بتزويدها وتجهيزها بها وتدريبها عليها، كاشفة الخيوط الرابطة بين كل هذه الغزوات والحرائق والنيران التي تلتهم الطاقات والإمكانات والثروات وقلب الحياة العامة فيها بما كان تنويراً ومعاصراً في قرون خلت وتوريط الجميع في ازمات ليست من هذا العصر وتثير ما يقلق ويفاقم صدام العلاقات والنسيج الاجتماعي والوطني والقومي.
قوس الحرائق المتمددة هذه مرسوم له ان ينتشر ويمتد الى مساحات وساحات اوسع من الحدود القائمة وقد يغير في خطوطها ومسمياتها عملياً وظاهرياً ولكن الواقع الذي صنعته الحرائق لا يمكن ان يظل كما خطط له او رسم للتناقضات الحادة وللأخطار المحدقة والممكنة التي قد تخلط الاوراق وتحرق الايدي التي شاركت فيها. وان الرؤية الاستراتيجية لها تشمل او تتسع الى صناعة بدائل مجهولة في المنظور المطروح ومعلومة عند المآلات المسيرة اليها. اذ لا يمكن تركها للفراغ الجغراسياسي او رميها الى جحيم الارض. وكانت التحذيرات الكثيرة التي تحدثت عن صندوق باندورا في اوقات سابقة تستعيد نفسها اليوم بإشعال الحرائق والتمهيد لها ودعمها ونشرها وتمويلها وتوفير كل الخدمات اللوجستية العملية لها. فهل حدود تركيا العربية خالية منها؟ وهل غرف اجهزة المخابرات فيها للسياحة ام لشم هوا هناك؟ وهل القواعد العسكرية الجديدة في مناطق عدة، منها الاردن وكردستان العراق، وبعض الدول العربية الافريقية للاستراحة وتبادل زيارات اجتماعية؟!
هذه الخطوات ليست عفوية او اصطناعية بل جاءت بعد تلك الدراسات والرؤى الغربية للمنطقة ومستقبلها والعمل على استمرار الهيمنة والنفوذ الغربي عليها. وتبدل الخطط والمشاريع شكل من اشكالها او حلول موقتة لها. وكذلك التسميات لها، فالتحولات ليست دائماً تأتي كما هو مراد لها او منها. ولهذا تشعل المنطقة الآن بالحرائق الدموية وبقوى جربت في افغانستان، رغم احداث 11 ايلول/ سبتمبر 2001 المختلف في مصادرها ونتائجها، إلا انها لما تزل القوى التي تتخادم معها الادارات العسكرية والاستخبارية الغربية وتستفيد من الجهات والحكومات التي تدعمها او تتوافق معها حتى ولو بالخفاء. ومنها سياسات التطبيع مع الاعداء وإخراج الصورة يما يليق بها من الوان الدم المراق فيها والتدمير والخراب. هل تساءل احد، كيف تكوّن داعش في غرب العراق ومن اين وصل الى شرق سوريا؟ وكيف اعاد تنفيذ مخطط احتلال العراق الذي وضعه البنتاغون؟ سبق وان كشفه الجنرال العسكري الاميركي ويسلي كلارك في كتابه وفي حوارات اخرى موجودة على يوتيوب، وقبله الجنرال تومي فرانكس في كتابه جندي اميركي... هل توضحت الصورة التي ترسم خطوطها الآن وتستعيد نفسها بإعادة انتاج مخططات الغزو والاحتلال وتجديد وجوه قيادتها والقوى المنفذة لها؟
السيناريوات الموضوعة للمنطقة التي تتحرك فيها الحرائق تتحدث عن خطط التقسيم والتجزئة للخرائط السابقة على اسس اخرى، طائفية واثنية، وتمزيق البلدان القائمة الى «امارات» و«دويلات» وغيرها من التسميات. وأيضاً في اطار تفكيك العلاقات الجغراسياسية القائمة وتفتيتها لإضعافها داخلياً والتمكن من السيطرة عليها ودفعها الى طلب المساعدة من القوى المهيمنة عليها، او اعادة رسم الخرائط بصور اخرى قد لا تشمل التقسيم المعلنة خططه، ولكن بأشكال متحركة بحسب آبار النفط والغاز والتهديد بها لغيرها، القريب والبعيد من المنطقة المشتعلة الساخنة حالياً. والعمل على مواجهة ما يمكن ان تكون تحديات معيقة امام خطط ترتيب المنطقة وفق المصالح الجيواستراتيجية للغرب الامبريالي. ومن يعش يرَ!
* كاتب عراقي