«لا شيء هناك في أفق العالم وا أسفاهسوى بعض بصيص
تخلقه الظلمات
مخافة أن تندلع النار
هذا الفساد الحضاري يلهمني
خذيني لأقرأ روح العواصف
حين تخانق صخب الليالي
خذيني فإن الحضارة تغرق
في الانحلال»


[مظفر النواب]

التفوق والازدهار الاقتصاديان يقومان على قاعدة ومصداقية العرض والطلب. يقومان على صراع الأفكار وليس على الاحتكار، أو «التروست». الاحتكار يُعتبر من السمات الواضحة تاريخياً للمرحلة الإمبريالية من النظام الرأسمالي، وهو من الأشكال التقليدية لتركز مركزية رأس المال تركزاً احتكارياً مركزياً. ويتكوّن التروست من خلال دمج المشروعات المتشابهة أو المتكاملة في مشروع واحد ضخم تحت إدارة موحّدة، وذلك بهدف السيطرة على الأسواق والحصول على أكبر قدر ممكن من الأرباح والاحتكارات. ويجري الدمج في غالب الأحيان بشكل غير ظاهر ويأخذ مظهر «القبض»، أي تظل المشروعات المختلفة تقوم بأعمالها العادية التي كانت تزاولها في حين تتحكم الشركات القابضة والدول بأسهم هذه المشروعات وتتولى الإدارة العامة وتعقد الاتفاقيات المالية وتوجه النشاط الاقتصادي والتجاري. ومما يُذكر أن عدد التروستات الهامة في الولايات المتحدة بلغ في بداية القرن المنصرم 353 تروستاً يُقدّر رأسمالها بحوالي ستة آلاف مليون دولار في ذلك الوقت. وهي تتحكم بأهم ميادين الصناعة من البترول إلى الفحم الحجري إلى تكرير السكر إلى وسائط النقل في تلك الأيام.
يجب كسر الاحتكار ونشر قوانين مكافحة الاحتكار. الاحتكار الذي يفسد المنافسة دائماً ويكافئ المتواطئين مع المتواطئين. مصطلح الائتمان أو التروست الاقتصادي (Trust)‏ هو اشتراك عدة مشاريع اقتصادية تفقد كل منها استقلاليتها تحت إدارة واحدة، ويقصد بالائتمان أيضاً، أي مشروع تجاري أو صناعي بلغ من القوة درجة يمكنه معها أن يستأثر بالسوق، سواء كانت تلك القوة بسبب اندماج عدة مشاريع أو لأن المشروع يستفيد من مزايا الإنتاجية الكبرى، ويفترق الائتمان عن الكارتيل في أن هذا الأخير هو عبارة عن مجرد اتفاق ولا يُعتبر مشروعاً، كما أن الأعضاء فيه يحتفظون بملكية المشروع ولا يتنازلون إلا عن جزء من حريتهم، فهو اتفاق بين مجموعة منتجين لبضاعة معينة غايته الحيلولة دون هبوط أسعار تلك البضاعة؛ فالكارتيل (اتحاد احتكاري لصانعي السلع والمنتجات)، في حين يُعتبر الائتمان مشروعاً مهما كان الشكل الذي يأخذه، وكذلك يفقد كل مشروع مندمج حريته تماماً. وأول ما أنشئ الائتمان كان في الولايات المتحدة في عام 1880، والكلمة Trust مأخوذة من القانون الإنكليزي، وهي «نظام يدير بموجبه شخص أملاك شخص آخر ويضع يدهُ عليها».
لقد تصلّبت الحكومات تاريخياً إلى احتكار استبدادي كما يقول جون ديكنسون، وأصبح الجنس البشري بشكل عام ملكية مطلقة مثل الوحوش في الغابات. يعيد كثيرون أصل التشريع القاضي بمكافحة الاحتكارات إلى «قانون شرمان» الصادر في 2 تموز 1890 في الولايات المتحدة الأميركية، والذي ينص على حماية التجارة والمبادلات من كل الإجراءات والاحتكارات المناقضة للقانون. إلا أن قانون شرمان ليس الأول من نوعه في التاريخ، ففي روما، وفي حدود عام 50 ق.م صدر قانون «ليكس جوليا دي أنونا» أو Lex Yulia de Annona لحماية تجارة الحبوب من ارتفاع أسعارها المتزايد، وبعده بحوالي خمسة قرون، 483 ب.م أدان «دستور زينون» ارتفاع أسعار المواد الضرورية بشكل عام. وفي القرون الوسطى، كان التشريع الإنكليزي، وخاصة في عهد إدوارد السادس، سبّاقاً في ضرب كل تكتل أو اتفاق بين البائعين أو المنتجين يهدف إلى زيادة غير منطقية للأسعار. وفي فرنسا، نص قانون العقوبات الصادر عام 1810 على معاقبة كل شخص، أو أشخاص مجتمعين أو متضامنين، يعملون على تحقيق أرباح لا تأتي نتيجة لعملية (العرض والطلب) الطبيعية في الأسواق.
أمور خطيرة تجري في عالمنا وتحت أنظارنا المحمولة في جيوبنا دون أن ننتبه أو دون أن نأخذها على محمل الجد ومحمل وجودنا. هذه الأيام ليست كالأمس، واليوم لا يشبه الغد، والمستقبل مجهول الهوية؛ فالنظام العالمي ينهار تحت ناظرينا في انتظار المولود الجديد - المولود الذي سيعيد صياغة حقيقة ما نحن عليه ويجلب معه تغيراً جذرياً سلبياً كان أم إيجابياً. لقد انتهى النظام العالمي القديم الأحادي القطب والجانب، وأصبحنا أمام «نظام عالمي متعدد الأقطاب والتكتلات الكبرى» يولد من جديد. وإذا تبدّلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره إلى خلق جديد. يقول ابن خلدون: «دوام الحال من المحال». ما حدث أخيراً من ذهاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين ليقنع الرئيس الصيني شي جين بينغ بعدم دعم روسيا ومطالبته الاتحاد الأوروبي بالابتعاد عن الولايات المتحدة والتخلي عن الدولار، يؤكد أن العالم يشهد تحولاً جديداً في العلاقات الدولية. فلقد تخلت العديد من الدول الآسيوية والأفريقية والأميركية الجنوبية عن الدولار، وبدأت في التجارة بالعملات المحلية وهذا يُعد تطوراً خطيراً جداً. هذا ناهيكم عن دعوة الرئيس الصيني الجيش الصيني إلى الاستعداد للقتال من أجل ضم تايوان وتوحيد الأمة الصينية.
الولايات المتحدة، كسائر الإمبراطوريات، لها أطوار من الصعود والأفول، وقد كشف التاريخ البعيد والقريب تلك الحكمة


نعم، العالم أصبح في «عصر صراع التكتلات الاقتصادية والصناعية العملاقة الكبرى». عالم ما بعد الحداثة والرأسمالية الكبرى. عالم التكتلات الدولية الكبرى على غرار «بريكس» المكوّنة لأسماء الدول صاحبة أسرع نمو اقتصادي بالعالم. وهي: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. الدول التي عقدت أول قمة بين رؤساء الدول الأربع المؤسسة في يكاترينبورغ بروسيا في حزيران 2009 حيث تضمنت الإعلان عن تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية. وعقدت أول لقاء على المستوى الأعلى لزعماء دول «بريكس» في تموز عام 2008، وذلك في جزيرة هوكايدو اليابانية حيث اجتمعت آنذاك قمة «الثماني الكبرى». وشارك في قمة «بريكس» في ذلك الوقت رئيس روسيا فلاديمير بوتين، ورئيس جمهورية الصين الشعبية هو جين تاو، ورئيس وزراء الهند مانموهان سينغ، ورئيس البرازيل لويس إيناسيو لولا دا سيلفا. واتفق رؤساء الدول على مواصلة التنسيق في أكثر القضايا الاقتصادية العالمية آنية، بما فيها التعاون في المجال المالي وحل المسألة الغذائية. انضمت دولة جنوب أفريقيا إلى المجموعة عام 2010، فأصبحت تسمّى «بريكس» بدلاً من «بريك» سابقاً، هذا دون ذكر طلبات الانضمام المقدمة حديثاً من دول عربية و عجمية وغربية وشرقية أخرى تتجاوز عشرات الطلبات من تلك الدول الغنية والنفطية والصناعية والإستراتيجية الكبرى.
العالم يتغيّر. تخيّل أنه تم قصف إسرائيل أخيراً من سوريا ولبنان وغزة ولم تستطع إسرائيل الرد على ذلك مطلقاً، وقالت إنه حدث عرضي. مئة صاروخ حدث عرضي. مصر تتحول إلى مركز عالمي لتصدير القمح الروسي إلى الشرق الأوسط وأفريقيا والعالم مع إمكانية أن تصبح مركز تجمع للمنتجات الروسية وتصديرها إلى العالم. نعم، العالم يتغيّر. والأحداث المثيرة التي نشهدها اليوم تدل على ذلك، حيث يتسارع التقدم التكنولوجي بطريقة لم تكن لتخطر على بال أحد. فقد شهد الذكاء الاصطناعي تطوراً رهيباً في السنوات الأخيرة، وقد نراه جزءاً من الحروب القادمة. نعم، فهناك نظام عالمي جديد يتشكل وفق تفاعلات جديدة من التمرد على بعض السياسات الاحتكارية الأميركية سياسياً، إلى الحرب العالمية في أوكرانيا، فالصراع الحالي هناك ليس مجرد صراع محلي بين دولتين، بل حروب ضارية يتواجه فيها العالم بأسره. ما يجري هناك سيسفر عن تشكيل نمط جديد من العلاقات الدولية والتحالفات الإقليمية والدولية والعالمية. هذه الأحداث العالمية تشير إلى تحول اقتصادي وسياسي عالمي، يمكن أن يؤثر على المشهد الدولي في السنوات القادمة. فالولايات المتحدة، كسائر الإمبراطوريات، لها أطوار من الصعود والأفول، وقد كشف التاريخ البعيد والقريب تلك الحكمة.
ومن قريب فإن الدرس الرئيس من زوال الاتحاد السوفياتي هو أن الإمبراطوريات قد لا تُهزم من قوة خارجية لكنها قد تسقط من الداخل... حسب ابن خلدون من بعيد، والفين توفلر من قريب. ولا يزال من المبكر التكهن بمآلات المنافسة بين أميركا والصين الاقتصادية والتكنولوجية، ومن الصعب الانزلاق نحو المواجهة العسكرية المباشرة، وفي نهاية المطاف لا يمكن أن يلحق أحد الطرفين هزيمة نهائية بالآخر. وحيث إنه لا يمكن لأحد الطرفين هزيمة الآخر، لذلك لا حل سوى التسليم بنهاية زمن الأحادية القطبية والإقرار بتعددية قطبية وتعدد الأقطاب. ومن المرجح أن النظام العالمي الجديد يفسح المجال لإعادة بناء حضارات دول على أسس مختلفة عن خرافة حضارة عالمية واحدة التي هي عبارة ملطفة للتفوق الأبيض للمركزية الغربية وسياسات الهيمنة الإمبريالية والكولونيالية. إنّ المؤكد هو أن غداً لن يكون كما اليوم، وإنه لا يمكن أن يكون كالأمس، فالعالم بحاجة إلى توازن جديد وإنهاء مرحلة الهيمنة الأميركية المطلقة على الساحة العالمية، فلقد تجاوز العالم حقبة القطب الواحد ولن يعود إليها مجدداً، حيث إن العالم بعد غزو أوكرانيا لن يكون كما قبله، هكذا يبدو لنا المستقبل، وهكذا علّمنا التاريخ.
وتبقى أهمية قانون شرمان، رغم أن الاقتصاد يحكم من خلال اتفاقيات التكتلات الاحتكارية الكبرى ولا شراكة ولا شيء مجاني للشعوب والمستهلك، في أنه أول «نص» موجه ضد الاحتكار في بلد كان يجد نفسه على عتبة التصنيع والرأسمالية (لكن مرّ وقت طويل قبل الشروع بتنفيذ أحكام هذا القانون عن سابق إصرار وترصد). وهنا لا بد أيضاً من الإشارة إلى نقطتين في «قلب» أو في «رحم» الرأسمالية الأم: الأولى أن أوروبا الغربية في ذلك الوقت التاريخي في تطور الرأسمالية (وخاصة إنكلترا وفرنسا وألمانيا) لم تحذُ حذو الولايات المتحدة في هذا المجال إلا بعد الحرب العالمية الثانية. والنقطة الثانية أن باب الاجتهادات والتفسيرات في كل ما يخص تشريع مكافحة التروست أبقى المجال مفتوحاً أمام المصالح الذاتية التي تحايلت عليه وعطّلت حقيقة هذه المكافحة وجوهرها الذي كشف للعالم الطابع الشكلي لهذا القانون في البلدان التي تعتمد ما يُعرف بكذبة «الاقتصاد الحر». يكفي هذا العالم أن يدق الباب، أو يطل بوجهه الحقيقي البشع من النافذة، حيث لا حاجة إلى اللف ولا الدوران.
* كاتب لبناني