منذ انتهاء ما سمّي بالحرب الأهلية اللبنانية عام 1991، ونحن نسمع عن قيام مؤسسات ومبادرات ولقاءات، تُعنى بالحوار بين مكوّنات المجتمع اللبناني، وخاصة الحوار الإسلامي-المسيحي، وبالرغم من اللقاءات العديدة التي عُقدت، إلا أنه لا نزال نسمع، وبكثرة، عن دعوات ومقولات تدعو للتقسيم والفدرلة، وازدادت حدتها بشكل فاقع في الآونة الأخيرة. إلا أن هذه المبادرات لا يجب أن تبقى محصورة ضمن نخبة المجتمع فقط ومحدودة في الزمان والمكان، موسمية ومتقطعة، تنحصر في حيز مكاني ضيق، ضمن قاعات وصالونات مغلقة، بينما المطلوب أن يكون الحواراً دائماً، وتبادلاً مستمراً بين جميع الدوائر الاجتماعية اللبنانية. وإذا كان المجتمع اللبناني قد أوجد عبر الزمان عناصره الفكرية والاجتماعية التوحيدية، فإنه بالتأكيد قد عيّن وحدّد أماكن ومساحات وفضاءات عمرانية، جسّدت ومورست فيها، بشكل مستمر ودائم، علاقات إنسانية ومعاش اجتماعي توحيدي. وفي سعينا الآن لتثبيت المفاصل الحيوية، التي تسمح بفتح آفاق الحوار واللقاء الفعلي، لأطياف وطبقات المجتمع اللبناني كافة، فإنه لا بد من استعادة دور تلك الأماكن والمساحات والمراكز، المفعمة بالوحدة الاجتماعية، والتي دفعت في الماضي قدماً بالحوار الاجتماعي الواسع. وأهم هذه الأماكن هو مدينة بيروت، ومركزها تحديداً، إذ إنه شكّل فضاء نموذجياً ومثالياً للحوار والتبادل، وخصوصاً في بدايات القرن التاسع عشر وحتى بداية الحرب الأهلية عام 1975.
وإذا كان الاجتماع البشري ناجماً عن طبيعة الإنسان وميله إلى الأنس والاجتماع، فإن الذي يحدد طبيعة التشكيل المكاني وتقسيماته، هو مجموع الآراء والمفاهيم الفكرية والفلسفية للجماعة. فالمكان يعكس خصائص الحضارات الإنسانية في علاقتها مع الوجود، وتصورها للحياة والموت في آن، وهو بالتالي مزيج منضبط، بين نظم اجتماعية محددة وعلاقات متنوعة ومتشابكة ومتشعّبة ومعقّدة أحياناً، وهو أيضاً خليط خفي، بين مجموع الوظائف التي تشبع حاجات الإنسان الحيوية، وبين رموز ومعان وأحداث ترتبط بقيم إنسانية صاغت أبعادها تجارب الجماعة عبر الزمان، فكانت هذه الأماكن تعبيراً عن اختياراتها الحضارية المتراكمة بعضها فوق بعض، تحدد ذاتيتها الثقافية. وهذا التشكيل المكاني المعاش، لم يكن هدفاً في حد ذاته، بل وسيلة لخدمة واستمرار وتطوّر هذه الآراء الإيدولوجية والفلسفية. إلا أن هذه الأماكن ما إن تصبح حيزاً قائماً ومتشكلاً بذاته، حتى تبدأ بدورها، من خلال ما تختزنه من مقومات فلسفية وعبقرية وجنون ومقاومة، التأثير على الاجتماع المعاش، فتساهم في ضبط العلاقات الظاهرة والخفية بين هذه الجماعة. فالمكان، أيضاً، له شخصيته وعبقريته وجنونه.
لقد سطّر تاريخ الشرق أول عمل حضاري متكامل، أبرز نتائجه كانت قيام الجماعة المتمدنة، والتي تعيش في مدن، وتعرف التخصص المهني، ويقوم فيها العيش على أساس من التعاون، في ظل نظام متكامل سياسي وإداري واجتماعي. والمدن التي بنيت في هذه الرقعة كانت كثيرة، ذاب بعضها المبني من اللبن مع المطر والفيضانات، فبقيت لنا ذكراها المدوّنة في الكتب القديمة، ومدن أخرى، طمر الرمال وحجب الزمان بعضاً منها، فأخرجها الرفش والمعول من سهادها الطويل ووضعها أمامنا واضحة المعالم، كمدن: أوغاريت، وأور، وأدك. وبقيت مدن كثيرة: كدمشق، والقدس، وصور، وبعلبك، والإسكندرية، وبيروت، وغيرها. والحضارة التي أفرزتها هذه الرقعة غلب عليها الطابع «المديني»، ففي الحضارة اليونانية كانت الحياة الاجتماعية والسياسية تدور حول فكرة، «الدولة-المدينة»: دولة صغيرة الرقعة قوامها المدينة وأرباضها. فعندما احتل اليونانيون هذه الرقعة في القرن الرابع قبل الميلاد أتوا بحياة لها معنى جديد، كان للعقل في حضارتهم دور كبير، وللفلسفة قسط وافر وللعلم أثر عميق، وللفن مجال واسع. ولمّا جاء الرومان في القرن الأول قبل الميلاد أتوا معهم بالقانون وفن المعمار الممتاز، هذه العناصر كلها تفاعلت مع من كان في هذه الرقعة، فامتزجت المعرفة والصناعات والفنون والآراء والأساطير والعبادات، واتخذت لها شكلاً محلياً ومحدداً ارتبط بالمكان. فقامت في أغلب البقاع مدينة هي مزيج مما كان عند أهل البلاد، وما جاء به اليونان والرومان. فعلى الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط نشأت في أحضان هذه الحضارات مدن كثيرة من بينها: رفح (رافيا)، غزة، عسقلان (أسكلون)، عكا (بطولمايوس)، صور، صيدا، بيروت، جبيل (بيبلوس) وأرواد (أرادوس). وهذه المدن كانت لها خصائص وتشكيلات ومكوّنات عمرانية ثابتة، حيث تركزت حول «مركز» احتوى على سوق (الأغورا) للتجارة، وعقد الاجتماعات لاتخاذ القرارات الرئيسية، وتحتوي على معبد ومسرح أو أكثر، وميدان رياضة (جمبازيوم)، وقد تحتوي أيضاً على ميدان سباق (هبودروم)، وتحيط بها الأسوار.
وهذه الرقعة من الأرض، هي مهبط الأديان السماوية الثلاثة، والتي تؤمن بإله واحد، أولها كان الدين اليهودي، والذي أصر اليهود على احتكاره، وفسّروا هذا الاحتكار، على أنهم «شعب الله المختار»، فكان أن ضاق هذا الدين رقعة في الانتشار. ومن ثم ظهر الدين المسيحي، في الوقت الذي كان الرومان فيه أصحاب السلطان الأكبر، فانتشر من فلسطين إلى جميع الاتجاهات، دون أن يحتكره قوم، فكان ديناً عالمياً، انتشر في بقاع الأرض المختلفة. وتلا ذلك، ظهور الدين الإسلامي، في النصف الثاني من القرن السادس في مكة، ولأنه دين توحيدي واضح المعالم، ولم يكن مطلقاً مجرد عقيدة وطقوس تؤدى بالمعنى الضيق للمصطلح، بل كان أسلوباً ونظاماً للحياة، وكما هي الأديان التوحيدية، فإنه يدور أساساً حول مفهوم «مركزية الله الواحد الأحد»، ومفهوم الجنة والنار، كمكان متخيل ومتصور، مرتبط بذاكرة جماعية صاغتها تعاليم هذه الأديان، وكملاذ نهائي للإنسان في الآخرة. وانعكاساً لهذه المفاهيم على الأرض، كانت «المدينة المشرقية»، التي تشكلت حول مركز واحد وحيد أيضاً، خياراً مكانياً لهذه الحضارة العربية الإسلامية، فهي حضارة مدينية الطابع والمرتكز، والمدينة فيها هي أداة مناسبة للمتطلبات الأساسية لنشأة وتطور وانتشار هذا الدين الجديد، ولتثبيت تعاليمه وخياراته. وأول جماعة إسلامية واضحة ظهرت في يثرب التي سمّاها الرسول «المدينة»، و نهى المسلمين عن لفظ كلمة يثرب، واستبدلها بكلمة «المدينة»، وذكر البخاري بأن الرسول قال: «من قال يثرب مرة، فليقل المدينة عشر مرات». والرسول محمد هاجر إلى «المدينة»، ولم يهاجر إلى الصحراء المجاورة، وكان قد نهى عن «التعرب بعد الهجرة»: والتعرب بعد الهجرة هو أن يعود المهاجر إلى البادية ويقيم مع الإعراب من غير عذر، وعُدّ من الكبائر. وجاءت مسألة أحكام صلاة يوم الجمعة، لتتطابق وتؤكد اهتمام هذا الدين بالمدينة، حينما أفتى الأئمة بعدم جواز إقامتها في القرى ووجوب قيامها في مسجد جامع، وليس في أيّ مسجد من مساجد المدينة. ليدخل مفهوم المدينة العربية الإسلامية ومكوناتها في أساس عناصر عقيدة «الأمّة»، حتى إن «المدينة» هنا تعادل مفهوم «الأمّة». وإذ اعتبرت أن الحضارة اليونانية بأنها حضارة «الدولة – المدينة»، فإن الحضارة العربية الإسلامية هي حضارة «المدينة – الأمّة».
لقد أبدى الإسلام بادئ ذي بدء، اهتماماً بالمدن الكبرى القائمة تاريخياً، كدمشق وبغداد والقدس، وحافظ عليها وعلى تكويناتها العمرانية، مكتفياً بتكييفها مع مقتضيات ومفاهيمه الإسلامية، فكانت نتاجاً تمتزج فيه عناصر الإسلام العربية بالعناصر المحلية القومية. ثم خطّط وشيّد مدناً كثيرة، مثل البصرة والكوفة والفسطاط، والتي خضعت في تخطيطها لعوامل مشتركة، بعضها نابع من البيئة العربية الإسلامية عامة، والبعض الآخر منبثق من البيئة المحلية الخاصة بموضع ودور كل مدينة. وهكذا فإن هذه الحضارات المتعاقبة لم تكن متوازية، أو متناقضة، بل كانت عملاً مستمراً: يكمل بعضُها بعضاً، واستمراريتها تلك نتجت عن استمرار الإنسان المقيم بعينه، والجماعة ذاتها، تلك الجماعات التي مضت عبر دروب التاريخ، حاملة معها ذاكرتها الجماعية، والتي ساهمت بدورها في ربط ودمج حضارات متراكمة زمنياً في حيز مكاني واحد. فالمدينة العربية كانت خياراً اجتماعياً، وأداة ووسيلة لخدمة الرؤية الفكرية للجماعة. والجدير بالذكر أنه في الوقت الذي ارتقت فيه الحياة الاجتماعية في العصور الوسطى رقياً واضحاً وفريداً، فإن المدينة الأوروبية شهدت ذبولاً وتراجعاً ملحوظاً، وذلك بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية في الغرب سنة 476 م، وبينما أخذ الغرب الأوروبي يتحوّل تدريجياً إلى النظام الإقطاعي، ما جعل النشاط البشري ينتقل من المدن إلى الضياع والحصون الإقطاعية.
لعبت المدينة العربية المشرقية، عبر تاريخها، أدواراً أساسية في مجالات عديدة، أهمها: المساهمة في نشر العلم والمعرفة والدعوة، والدفاع عن الاجتماع العربي الإسلامي، وصد الهجمات الخارجية (حول هذا الموضوع يمكن مراجعة مقالنا بعنوان: «سيكولوجية المكان في ميزان المواجهة: المدينة مقابل المستوطنة»، «الأخبار» في 9 آذار 2023). بالإضافة إلى مساهمتها في توحيد وربط هذا الاجتماع: فبغداد ودمشق والقدس والقاهرة والقيروان وفاس وقرطبة، كانت بمثابة «حلقات تثبيت»، ساهمت في تثبيت «شبكية» الأمّة، بمقوّماتها الإدارية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجغرافية، امتدت من الأندلس والمحيط الأطلسي غرباً إلى حدود الصين والهند والسند شرقاً، التي اكتظت بعديد من المدن المزدهرة، تنبض بحياة نشطة، لم يكن لها نظير في أي ركن آخر من أركان العالم: فمدينة قرطبة في ظل الخلافة الأموية، احتوت على ما يزيد عن مئتي ألف منزل يسكنها مليون نسمة، وكانت تنتشر فيها العديد من الحمامات العامة، وأزقتها وشوارعها مضاءة بالمصابيح العامة، في الوقت الذي ظلت فيه لندن وباريس، بعد ذلك بسبعة قرون، أقرب ما يكون إلى قرية صغيرة، لا يوجد فيها حتى حمام عام، أو مصباح واحد يضيء طرقاتها ليلاً. ولا تزال مكة المكرمة حتى اليوم تلعب هذا الدور الجامع والتوحيدي، فهي المدينة الوحيدة في العالم التي يتجمع فيها هذا العدد الضخم والمتنوع من البشر، في فترة زمنية محددة ومتكررة سنوياً أثناء موسم الحج. في كتابه «كيف صار الإنسان إنساناً» يقول روجيه غارودي: «الكعبة الشريفة هي الحجر الأساس، وهي تُعتبر رمز الكونية الإسلامية، ونقطة ارتكازه، فعند ساعة الصلاة، وعلى شكل موجات دائرية مركزية، تتجه كل وجوه المسلمين المصلين ناحية الحجر الأسود، الذي هو في آن واحد مركز العالم الخارجي والعالم الداخلي، سواء بسواء». كما أن أهمية مدينة القدس تكمن في أنها كانت ولا تزال تلعب هذا الدور التوحيدي، واحتلالها لم يلحق أضراراً من الناحية المادية فقط، بل كان ضرباً لهذا الدور المميز والحي، وهو بالتالي ضرب لذاكرتنا الجماعية المدينية والحضارية، والتي تشكل مدينة القدس انعكاساً حياً ومستمراً لها، فهي مدينة حافلة بالمقدسات الدينية ورمز لتعايش الأديان السماوية الثلاثة.
لقد شكّلت مدينة بيروت التاريخية، والتي أُطلق عليها في ما بعد أسماء متعددة: «بيروت العتيقة» و«المدينة» و«وسط المدينة»، والذي كان انعكاساً لفكرة الأديان السماوية الثلاثة، المرتكز على مفهوم «الإله الواحد» و«المركز المطلق»، أحد أهم الأماكن العمرانية، المفعمة بالحركية والنشاط، سمحت بعقد حوار جدي ومستمر، بين جميع طبقات المجتمع اللبناني ومذاهبه، فكان فضاء مدينياً مميزاً لحوار الحضارات المتعاقبة، إذ إن تأسيسه امتد إلى الزمن السحيق وعهد الأسطورة. والمدينة، بمفهومها الفلسفي، هي التقاء بين الإنسان والمكان والزمان، وتشكل الذاكرة الجماعية محور هذا اللقاء. وطبقاً لهذا فإن مدينة بيروت استمدّت ماهيتها من مفهوم فلسفي للمكان، ومن تطور زماني للعمران، ومن صيغة معينة لتعامل الإنسان مع الإنسان وبالتالي الجماعة. وبعبارة أكثر وضوحاً، فإنها لم تقتصر على مكوّناتها العمرانية فقط، من طرقات وأزقة ودور ومرافق عامة، بل هي فعل زمني مستمر، لتراكم طبقات حضارية عديدة، بيزنطية ورومانية وعربية وعثمانية، مع ما تحمله من مفاهيم فكرية وحضارية واجتماعية، وأساطير وحكايات وأحداث، وهذه كلها توالت وتراكمت في هذا المكان المحدد، وارتبط بعضُها ببعض بواسطة «نقاط تثبيت وتواصل» - وهي غير المعلم ونقاط الاستدلال – بل هي فضاءات عمرانية أو طبيعية، تعبر عن جانب من جوانب شخصية مجتمع المدينة، وتجسدت في زمنها الاجتماعي، ومتى كان ذلك ممكناً فإن هذه الفضاءات تحمل بالتأكيد بعضاً من الذاكرة الجماعية للمدينة، دخلت في أساطيرها وحكاياتها الشعبية وأمثالها العامية. ولأن المخيلة تستحضر هذه الفضاءات عند تخيل مدينة بيروت، فإنها تعد مواطن خيالها، تثبت صورها في الذاكرة، ولعل أهم ما يرتبط بنقاط التثبيت والتواصل هذه، أنها تطرح إمكانية الحوار والتبادل واللقاء – مادياً ومعنوياً – بين جماعات المدينة. ولأنها ساهمت في الماضي بتنظيم مدى مدينة بيروت، والمفترض أن تساهم بذلك في الحاضر، ويمكن أن تساهم في المستقبل.
قد لا تكون بيروت مدينة مثالية للتخطيط العمراني، لكنها كانت على الدوام «مدينة متخيلة» ومتصورة ومجسّدة في مخيلة ووعي السكان. قليلة جداً هي المدن كذلك - مدينة طوكيو عاصمة «إمبراطورية الرموز» إحداها - فقد احتوت بيروت على الكثير من معالم الاستدلال والاسترشاد، الحية والحاضرة في المخيلة. فبالرغم من وجود نظام تحديد أسماء وأرقام مناطق وشوارع بيروت وأزقتها الداخلية وأبنيتها وعماراتها، من خلال لوحات زرقاء مثبتة على مفارق تلك الشوارع، بغرض الاستدلال عليها، كما هو معمول في جميع المدن العالمية، والتي لا يمكن الاستدلال مطلقاً على أي من عناوينها دون اعتمادها، بما في ذلك الرسائل البريدية، إلا أن هذا النظام لم يتم اعتماده من سكان بيروت مطلقاً، فللسكان نظام استدلالهم الخاص لتحديد عناوين أماكن المدينة، من خلال الاستعانة بمعالمها الاسترشادية ونقاط استدلالها ورموزها المكانية والزمانية المنتشرة في المكان والمخيلة في آن: رموز ومتتاليات مكانية حفرت عميقاً في المخيلة لتشكل نظام توجه تتناقله الأجيال وهو متناول من الجميع. ولم يتوقف الأمر على ذلك، إذ إنها احتوت أيضاً على أماكن وفضاءات دخلت في نسيج الذاكرة الجماعية لأهلها، من خلال مظاهر الذاكرة الجماعية والمتمثلة بـ: الأسطورة، والحكم والأمثال العامية، والحكايات الشعبية المتوارثة، ومأثور الثقافة الشفهية الوصفية، من حكايات وأقوال وأغاني الجدات، فإذا وُجدت مدينة تحتوي على هكذا «مواطن خيال»، فهي مدينة مميزة ومحظوظة في آن.
ومن هذه الأماكن والفضاءات - على سبيل الذكر وليس التعداد - «حرج صنوبر بيروت»، بما هو فضاء طبيعي، شكّل «الخارج الاجتماعي» لأحياء بيروت في أيام الأعياد والمناسبات، إذ يقول المثل العامي البيروتي، «نشروها عا صنوبر بيروت». وهناك مثل محلي بيروتي يقول: «بفية الجميز ما بينبت حشيش، وإذا نبت ما بيعيش»، فشجرة الجميز، وهي شجرة لا تنبت إلا في لبنان وفلسطين ومصر، شكّلت، بما هي حيز طبيعي – عمراني جزءاً من الذاكرة الجماعية لبيروت، ولعبت دوراً في تنظيم مدى بيروت، على مستوى الحي والمحلة والحوش والدار. فنادراً ما كانت تخلو ساحة أو باحة حي في بيروت منها، وحضورها هناك جعل منها مكاناً مفضلاً للقاء ولاجتماع الشيوخ والشبان للتحدث. والمكان المعهود الذي ينظم زمن لقاء صبية الحي للهو. حتى إن المحلة القريبة من ساحة الشهداء شمالاً، سُمّيت «محلة الجميزة». كما كان للحكاية الشعبية البيروتية نصيب في تناول أماكن وفضاءات للمدينة، والتي تتحدث عن حكاية شعبية مشتركة، مسيحية-إسلامية، تدور حول «مار جريس» الذي حارب التنين على ضفاف نهر بيروت، والذي كان مقدّراً من مسلمي بيروت إلى حد القداسة، إذ يقولون عنه بأنه هو «النبي خضر» نفسه، وكان قد شيّد الأهالي في تلك الموقعة كنيسة مار جرجس وجامع الخضر، وما زالت المحلة القريبة من نهر بيروت تُسمى «محلة الخضر». وقد لا يتسع المجال هنا للتوسع والإحاطة بأدوار نقاط التثبيت والتوصل هذه، بالإضافة إلى نقاط أخرى مماثلة، على أمل أن يتم ذلك في مقالات لاحقة. وسيتم التركيز في مقالنا هذا على مركز بيروت أو «وسط البلد»، الذي يمكن اعتباره من أهم أماكن الذاكرة الجماعية التوحيدية لمدينة بيروت منذ نشأتها وتأسيسها، إذ إنه ارتبط مع بحرها بالأسطورة (1)، والتي تخبر عنها فتقول: «إنّ الآلهة اختارت موقعها وركّزت حجارتها الأولى ثم تهادتها في ما بينها، وإن الإله أليون أحد الملوك الأوائل على مدينة جبيل تزوج من امرأة تدعى بيروت، فبنى إلى الجنوب من جبيل مدينة أسماها بيروت وأهداها إلى نبتون وعشتروت إلهة البحر...». وهكذا فإن «بيروت العتيقة» هي بحد ذاتها حاملة لعدة نقاط تثبيت، وارتبط بحرها - هو مدى جغرافي طبيعي - بذاكرتها الجماعية منذ عهد الأسطورة، مشكّلاً بالتالي إحدى نقاط تثبيت المدينة. وكان له الأثر الكبير في صبغ شخصية السكان منذ القدم.
بدا وكأن المدينة بحد ذاتها مستهدفة: المدينة كفكرة وفلسفة وكخيار اجتماعي وثقافي. هو اعتداء على مخيلتنا وذاكرتنا الجماعية، إذ إنه كان يضم «مدى من التخيل» هو في متناول أنواع متعددة من التوظيفات الثقافية والتجارية والتبادلية


وهذا المكان ليس «وسطاً تجارياً»، و«السوليدير» حالياً، كما يحلو للبعض تسميته، بل إنه مكان اتخذ أبعاداً فكرية وفلسفية واجتماعية مرتبطة بمدينة بيروت، بما هي مدينة مشرقية: فهو مركز المدينة. والمفهوم العام لـ«المركز»، يرتبط بعلاقات وثيقة مع مفاهيم أخرى متقاربة، تسمح بفهم معناه وأبعاده، وأول هذه المفاهيم هو «الدائرة»، إذ إن كليهما يعبّر عن حقيقة وعن تجربة إنسانية. ومن واقع هذه العلاقة، يمكن النظر إليه باعتباره بأنه البداية والنهاية، والنبع والأساس، وبأنه عمل تاريخي قبل أن يكون مدى عمرانياً. وفي هذا المدى تحديداً، تظهر شخصية المدينة بوضوح، فهو رمزها، وكيانها المميز، والمشبع بمعانيها ودلالاتها، وموطن خيالها، وذاكرتها الجماعية. وهو المرآة التي تعكس صورة المدينة، وغالباً ما يشع ذاته عليها. وهو قلبها النابض، وعقلها المفكّر والمقرّر، ومركز ثقلها، وحجر زاويتها. وهو المكان الذي يلخص ويختزل ويستنتج، كل ما يدور حوله. وهو المكان «الوحيد» و«الأوحد»، مهما تشابهت معه مناطق أخرى. وهو القطب والمحور الذي يدور ويتحرك حوله الكل، وبدونه يتفكك الجميع، يتفتت في العدم والفوضى. وهو بؤرة تكامل وتوحيد ودمج، يشد الإنسان إليه بتماسكه وثباته. وبنفس الطريقة والقوة التي يجمع بها الأشياء ويجذبها نحوه، فإنه يعيد نقلها من خلال إشعاعات الدائرة إلى حدودها: المركز يركز والدائرة تشع، وهكذا فالدائرة تجذب المركز بإشعاعاتها دائماً إلى الخارج، نحو حدود الحقيقة، وحافة هاوية العدم، وتحدد المحيط والتمدد والمكانية والمجال. وهو المكان الأكثر حركية وكثافة، وهذه الحركية وتلك الكثافة هما أول ما يشد نظرنا إليه. وهو المكان الأمثل للاجتماع واللقاء والتبادل، إذ يجتمع فيه العدد الأكبر من الناس بمختلف طبقاتهم وأعمارهم، وهو المكان المميز والمألوف والذي يسهل التعرف إليه. وهو المكان الذي تتواجد مكوّنات معمارية لا توجد في أيّ منطقة أخرى في المدينة، ففيه مركز السلطة، والساحة الكبرى، والأسواق المتخصصة بكل أنواع التجارة والحرف. وهو أخيراً مكان يسهل الوصول إليه.
ومركز بيروت، وحتى عشية حرب عام 1975، كانت تتجسد فيه تلك المفاهيم جميعها، فهو حجر أساس تكوينها ومنطلق بدايتها، والمكان الوحيد الذي لا يشبهه أي مكان آخر، فبالرغم من نمو مراكز جديدة في الأطراف، وبصورة خاصة في شارع الحمراء - بقي هذا المكان حتى عشية حرب 1975 يشكل مركز المدينة الوحيد. لعب دوراً مهماً في تنظيم مدى بيروت، ليس على صعيد العاصمة فحسب، بل على صعيد كامل الجمهورية، إذ كانت جميع طرقاتها تتجه نحوه. ومنذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر، شهد هذا المركز تطوراً عمرانياً على التراب العضوي للمدينة الرومانية القديمة، متخطياً أسوار المدينة العربية، ليصبح المنفذ الرئيسي للداخل السوري من جهة، بعد أن تم شق طريق الشام انطلاقاً من ساحة البرج أحد الأركان المميزة لبيروت، ونحو البحر وآفاقه من جهة أخرى، وخاصة بعد الاتساع المتواصل للمرفأ، ليشكل صلة وصل بين غرب البحر الأبيض والداخل العربي. وكان المحطة الرئيسية للمواصلات إلى المناطق والمدن اللبنانية كافة، وكانت ساحة البرج، أو ساحة الشهداء، المكان الرئيسي لانطلاق باصات النقل إلى باقي المدن الساحلية والداخلية، بعد إنشاء الطرق والسكك الحديدية التي تربط بيروت بالمناطق اللبنانية الأخرى. وهو مقر مؤسسات السلطة السياسية، والاقتصادية والتجارية والمالية من خلال وجود سراي الحكومة والبرلمان، وباقي الإدارات العامة، ومكاتب الوكالات التجارية والمصارف والبنوك. فقد كان مركزاً مثالياً للحوار واللقاء، فحضوره وحركيته ساهما في اندماج المحيط وربطه اجتماعياً وجغرافياً: ألم يكن مكان لقاء يومياً للأكثرية الساحقة من اللبنانيين بجميع طبقاتهم وطوائفهم؟ حتى إن غياب دوره المفاجئ في أول أيام الحرب كان تعبيراً مادياً ورمزياً عن تفكك المجتمع وتجزئته. فمنذ اللحظات الأولى لهذه الحرب، دُمّر مركز المدينة دفعة واحدة، فأصبحت بيروت مدينة بلا مركز (2)، مركز اختفى فجأة من المدى الحسي للمدينة، وتحول إلى فراغ موحش، يختفي شيئاً فشيئاً من وعي السكان، فراغ أحدث انفصاماً في وحدة النسيج المديني، فاختل توازن المدينة، وهكذا استحال قلب المدينة إلى مكان موحش، فبدا وكأن المدينة بحد ذاتها مستهدفة: المدينة كفكرة وفلسفة وكخيار اجتماعي وثقافي. هو اعتداء على مخيلتنا وذاكرتنا الجماعية، إذ إنه كان يضم «مدى من التخيل» هو في متناول أنواع متعددة من التوظيفات الثقافية والتجارية والتبادلية، وكأن القذائف لم تكن تتساقط على أرض الواقع فقط، بل كانت تتساقط على ذاكرتنا، كانت العمارات تنهار والذاكرة تنهار، حرب ذاكرة ضد ذاكرة، القاتل والمقتول فيها الذاكرة.
إنّ محاولات القضاء على ذاكرتنا المكانية الجماعية استمرت، حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية عام 1991، وكان ذلك من خلال المنهجية العمرانية المتبعة - هذا إذا كان هناك فعلاً منهجية - في إعادة إعمار بيروت القديمة، والتي غيبت فيها المعاني الفكرية للمدينة المشرقية وتكويناتها العمرانية الثابتة. وتحديداً الفهم الناقص لمفهوم «المركز»، وتجاهل بادئ ذي بدء، بأنه مكان الرمزية والمعاني، وبؤرة مميزة لذاكرتنا الجماعية، حيث إن تجاهلها وتغييبها يؤديان إلى فقدانها، وحينما يفقد الإنسان – كذا الجماعة – ذاكرته، فإنه يفقد ذاته: إذ يفقد الشروط الموضوعية التي تجعله يعيش الحاضر ويتعامل مع المستقبل، كما أنه قد تم اعتباره مكاناً لتراكم الوظائف النفعية والمادية فقط، فتم فيه الفرز الاجتماعي والمكاني، وتم الفصل بين الزمان والمكان، فتم الفصل بين الإنسان والإنسان، ما أنتج حدوداً بين الجماعات نفسها. بالإضافة إلى اتباع سياسة المضاربات العقارية، التي تجعل من مركز المدينة مدى لتبادل السلع فقط. وعدم احترام دوره في توازن بيروت، وبالتالي لبنان، لينكمش على نفسه متحولاً إلى منعزل و«غيتو» في قلب المدينة، بعد أن كان مكاناً، بمتناول جميع سكان مدينة بيروت وضواحيها وباقي المدن اللبنانية، من خلال حركية أسواقه المتخصصة والمركزية، والطريقة المميزة والمناسبة لعرض تلك السلع، بالإضافة إلى تمركز الإدارات والوكالات ومراكزه الثقافية والسياحية وأماكن التسلية واللهو، والحمامات العامة التي كانت تشكل فضاء معمارياً مفعماً بالمساواة الاجتماعية (3).
بينما كان يجب اتباع منهجية عمرانية خلّاقة ومتحركة، تتناسب مع طبيعة هذا المكان، كما تكون تاريخياً، فنحن لسنا أمام رقعة أرض عذراء، بل أمام مركز، تفوح منه رائحة التاريخ وتراكم الحضارات، ما يحتم علينا احترام ذاكرته الجماعية، عند أي عملية تخطيط وإعادة بناء، إذ إن الذاكرة الجماعية هي التي تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهي حصيلة الخبرات والتجارب والتراث التي تشكل وعي وثقافة المجتمع، وتحدد قدرته وشروط تعامله مع الحاضر الراهن، تلك الشروط التي تُعد أساس كل معرفة بشقيها النظري والمادي. وهي صلة اتصال فعالة ومستمرة بين الفرد والجماعة وبين مختلف الجماعات التي تشكل مجتمعاً ما، إذ كان يجب الارتكاز على احترام وإبراز «الوحدة الإنسانية» لاستخراج مقاييس وأبعاد مدينة بيروت المنسية، والتي جمّدتها التحاليل والنظريات العمرانية التقليدية، المرتكزة على الأعداد والأرقام الجامدة، التي جمدت بدورها حركيّة مدينة بيروت المعهودة. كما كان يجب أن يرتكز هذا المشروع العمراني المتبع لبيروت على إرجاع الحياة لـ«نقاط التثبيت» التي تم تحديد بعض منها في هذا المقال، لتأخذ حدودها – هذا إذا كان لها حدود – لتشكل أبعاد الشبكية العمرانية، في مخطط إعادة التعمير. فربما تكون نقاط التثبيت المستخرجة من ذاكرة المكان الجماعية حلاً تقدّمه مدينة بيروت لأهالها، ليساهم في استرجاع وحدته، بعد أن قدّمت هذه النقاط وسائل الصمود والاستمرار سابقاً.

قد يكون ما شهده هذا المكان، باستعادة شيء من رمزيته في الأيام الأولى من انتفاضة 17 تشرين 2019 من حركيّة واجتماع أغلبية اللبنانيين فيه، بمثابة رمزية مقاومة هذا المكان وإصراره لاستعادة دوره في التواصل والحوار


وقد يكون من غير المبالغ فيه إذا ما قلنا بأن استعادة وحدة الاجتماع اللبناني المعاش قبل حرب 1975 هي بصعوبة بمكان بدون عودة دور مركز مدينة بيروت، كفضاء وحيد يسمح بإجراء الحوار والتبادل الحقيقي والفعال والمطلوب بين الجماعات اللبنانية وطبقاتها ومناطقها ومذاهبها. ولا أكون مبالغاً بأنه لو افترض بقاء هذا المركز خارج تداعيات الحرب الأهلية، واستمر بنشاطاته المعتادة ولم يتم تدميره في اللحظة الأولى للحرب، فإنه بالتأكيد لتوقفت تلك الحرب بفعل إرادة ودور، والمخزون المعنوي والمادي لهذا المركز، إذ إنه مكان نهائي لعواطفنا وأهوائنا، واستيهاماتنا، ورغباتنا بما فيها رغبة الحياة والموت. وقد يكون ما شهده هذا المكان، باستعادة شيء من رمزيته في الأيام الأولى من انتفاضة 17 تشرين 2019 من حركيّة واجتماع أغلبية اللبنانيين فيه، بمثابة رمزية مقاومة هذا المكان وإصراره لاستعادة دوره في التواصل والحوار. وبقدر إيماني المطلق، بأن لا قيامة للبنان الموحد خارج إطار استعادة الأدوار الحقيقية لمركز مدينة بيروت، فإنني على يقين بأن هذا المكان المفعم برموز ومعاني الوحدة والمقاومة، سينتفض على الفراغ الذي يعانيه الآن، من جراء اتباع سياسات عمرانية جاهلة وقاتلة في آن، اعتمدت عند إعادة تعميره، إذ ردته إلى مكان هامشي، تم عزله وفصله عن باقي أماكن بيروت وجماعاتها، وتم تجاهل أدواره العديدة والمعتاد تاريخياً، بما فيه دوره التوحيدي، بأنه سيعود حتماً يوماً ما، ليسترجع دوره التوحيدي المعهود. فـ«مركز المدينة» لا يطيق الفراغ والتهميش، فالمكان لديه أيضاً شخصيته وعبقريته ومقاومته، بما فيها فعل الانتقام. هل ما يشهده لبنان الآن، من مآس وكوارث، هو جزء من عتاب وانتقام هذا المكان على فعل تدميرنا له بحروب ومنهجيات عمرانية قاتلة؟

* معمار

هوامش:
* إنّ الأفكار والمعاني والتحاليل، والمنهجية العمرانية التي تناولها هذا المقال، كانت قد وردت في التقرير الكتابي، 230 صفحة، لنيل كاتب المقال أطروحة حلقة ثالثة في الهندسة المعمارية، للمشروع المعماري «بيروت ذاكرة المكان»، كلية العمارة وتخطيط المدن، تونس 1985، والتي كانت مرتكزة على كتابات وآراء تناولها النقيبان المعماريان، عاصم سلام وجاد ثابت، حول مدينة بيروت ومركزها

(1) الأسطورة هي غير الخرافة، وهي ليست نتاج الخيال المجرد، بل ترجمة ورصد لأحداث جرت فعلاً، ولكن العقل البشري حينها لم يكن يملك المعرفة العلمية لتفسير تلك الظواهر الطبيعة التي حدثت فعلاً، فاستعان بالأسطورة لتفسيرها، وهي مغامرة العقل الأولى مع الكون، وقفزة متقدمة نحو المعرفة، وهي حكاية مقدسة تشرح بلغة الرمز حشداً من الأفكار وتأمّلات الإنسان وحكمته، هي حكاية مقدسة أبطالها من الآلهة وأنصاف الآلهة.

(2) تتشابه وضعية هذا المركز إلى حد ما مع مدينة طوكيو التي تدور حول مركز محظور على السكان يعيش فيه الإمبراطور. وأيضاً مع مركز مدينة ماناغوا الذي دُمّر بزلزال ولم تتم إعادة بناء أبنيته واقتصر على عبور السكان شوارعه التي بقيت مستخدمة.

(3) وفي هذا يقول شاعر بيروت الشعبي عمر الزعني:

«الناس في الدنيا درجات
وكل واحد شاري رتبة،
ما في جنس المساواة
غير بالحمام والتربة»