ظهرت على الساحة الفلسطينية حركات مقاومة متعددة سواء قبل عام 1948 إبان الانتداب البريطاني أو بعد حرب عام 1967، لكنه لم تتولد استراتيجية فلسطينية دفاعية واضحة يمكن الاستناد إليها في مختلف التكتيكات العسكرية والسياسية التي يمكن استخدامها نحو تحقيق الأهداف والمطالب الفلسطينية، أو على الأقل لتوفير نوع من الأمن للشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة وبخاصة في الأرض المحتلة/ 67.
كشفت الحرب الأخيرة، حرب العصف المأكول أو حرب تموز 2014 أن المقاومة الفلسطينية قد طورت استراتيجية شكلت قاعدة لتكتيكات عسكرية وأمنية تشكّل كلّاً متكاملاً يمكن أن يؤدي إلى تغيير موازين القوى ومن ثم إلى تحقيق بعض المطالب الفلسطينية أو تخفيف الضغط عن الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة/ 67. وكان في هذا التطوير منطق قوي يعبر عن استجابة عقلانية وراشدة لمجمل الظروف التي يعيشها الشعب الفلسطيني والتي يمكن تلخيصها بالتالي:
أولاً: تمادت إسرائيل كثيراً ومن دون أي رادع في عدوانها على الشعب الفلسطيني، وأخذت تتصرف وكأن الشعب الفلسطيني غير موجود، وتقوم بأعمال عدوانية متكررة ولا تجد سوى بعض عبارات الاستنكار التافهة الصادرة ضدها والتي ملّتها الجماهير العربية في كل مكان. أمعنت إسرائيل في مصادرة الأراضي والتوسع الاستيطاني، وكثفت من اعتقالاتها للمواطنين الفلسطينيين وهدم بيوتهم واقتلاع أشجارهم، ونهبت مياههم وخربت مزارعهم، وتحكمت بتفاصيل حياتهم اليومية والمدنية.

ركزت فصائل المقاومة
عبر سني الانقسام على تطوير القدرات العسكرية
ومنعت عنهم البحر الذي يشكل مصدر رزق كبير للصيادين الغزيين، وشددت من حصارها على قطاع غزة، وتحكمت في تدفق الأموال إلى الضفة الغربية ومنعت مشاريع التنمية. وفوق ذلك، تمادت بانتهاك حرمة المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية، وبات واضحاً أن خطواتها نحو السيطرة على المسجد تتسارع. لقد قامت إسرائيل بكل ما من شأنه أن يؤدي إلى تهويد القدس والضفة الغربية من دون أن تتحداها مقاومة يمكن أن تحد من إجراءاتها العدوانية.
ثانياً: وجد الفلسطينيون أنفسهم وحيدين في الساحة في مواجهة إسرائيل من حيث أن بعض الدول العربية أصبحت تعترف بإسرائيل وتقيم علاقات دبلوماسية معها ، وأن أغلب الأنظمة العربية تطبع علاقاتها مع إسرائيل وتقيم معها علاقات تجارية واسعة تعزز الاقتصاد الإسرائيلي، وقدرة إسرائيل على التطوير العسكري. والأهم أن الفلسطينيين وجدوا أن منهم من يعترف بإسرائيل ويطبع معها ويتعاون معها أمنياً على حساب الشعب الفلسطيني.
ثالثاً: تراجعت القضية الفلسطينية عربياً ودولياً، وبدا أن العالم لم يعد مكترثاً بحقوق الشعب الفلسطيني إلا من بعض قرارات بالية وغير مهمة تصدر تقليدياً عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. تراجعت القضية الفلسطينية في نشرات الأخبار العربية، وأصبحت في أدنى سلم اهتمامات الدول، وحتى الدول الكبرى التي من المفروض أن تدافع عن حقوق الشعوب مثل الهند والصين وروسيا لم تعد تتلفظ بكلمة دفاعاً عن الحقوق الفلسطينية.
رابعاً: سلب الحراك العربي في عدد من الدول العربية الأضواء الإعلامية، وحصر الوعي العربي عموماً بهموم الأنظمة العربية ومناهضيها، وخرجت القضية الفلسطينية إلى حد كبير من الوعي العربي، حتى أنها خرجت إلى حد ما من الوعي الفلسطيني بخاصة في الضفة الغربية. وقد بدت القضية الفلسطينية في أسوأ حالاتها منذ عام 1948. انشغل الكتاب والمثقفون في الحراك العربي والصراعات العربية الداخلية، وغاب انتباههم عن الهموم التي تصنعها إسرائيل بدأب وإصرار.
خامساً: أنهك الانقسام الداخلي الفلسطيني الشعب الفلسطيني ووضعه في تيه مادي ومعنوي. كان شعب فلسطين يأمل بوحدة عربية يمكن أن تساعده في استعادة حقوقه فإذا بالفلسطينيين غير قادرين على توحيد أنفسهم وأعملوا بأنفسهم الرصاص. انتشر الفساد في مناطق السلطة الفلسطينية بصورة واسعة، وتأثر النسيج الاجتماعي سلباً، وتدهورت منظومة القيم الفلسطينية، وعجز الفلسطينيون عن الاعتماد على أنفسهم لتصبح لقمة خبزهم بأيدي أعدائهم. تدهور الوضع الداخلي الفلسطيني بصورة خطيرة زادت الشعب ضعفاً على ضغف، وهزالاً على هزال حتى بات الفلسطيني فاقداً الثقة بالمستقبل وبنفسه وبإمكان الخروج من المآزق الداخلية الصعبة.
لهذه الأسباب أعلاه قررت المقاومة الفلسطينية، أو بالتحديد فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة أن تتحمل مسؤولية تاريخية بالبحث عن سبل ووسائل الدفاع عن الشعب الفلسطيني وإبقاء القضية الفلسطينية حية وذلك من خلال تطوير قدرات دفاعية فعالة يمكن أن تعطي الشعب الفلسطيني أملاً في المستقبل. وضعت فصائل المقاومة استراتيجية أمامها تتلخص بالنقاط التالية:
أولاً: الاعتماد على الذات كمبدأ أساسي في شق الطريق نحو قدرات دفاعية متطورة. وذلك التزاماً بنظرية القوة الخاصة بالحفاظ على الحقوق أو استرجاعها تعلم الفلسطينيون دروساً قاسية كثيرة من الاعتماد على الغير لأن ذلك لم يحسن من أوضاعهم شيئاً، بل على العكس أدى إلى هزائم متكررة، وإلى مزيد من الغطرسة الإسرائيلية. ظن الفلسطينيون أن الآخرين سيحاربون بالنيابة عنهم وأنهم سيهزمون إسرائيل، لكنهم تعلموا الدرس جيداً، واستنتجوا أن أفضل الطرق لإثبات الذات هو الاعتماد على الذات، ومن دون السواعد الفلسطينية لا يمكن لهم أن يحققوا إنجازات.
ولهذا ركزت فصائل المقاومة عبر سني الانقسام الفلسطيني على تطوير القدرات العسكرية، وتطوير كل ما يتصل بهذا الأمر من تكتيكات، واستفادت بصورة كبيرة من تجارب حزب الله. المقاومة لا ترفض المساعدات التي يمكن أن تقدمها دول عربية وغير عربية، لكنها لا تنتظرها كمنقذ للوضع الفلسطيني. أهلاً وسهلاً بكل مساعدة تقدمها الدول، لكن الاعتماد الأساسي يبقى على الذات، أي أن المساعدات تشكل عاملاً مساعداً وليس عموداً فقرياً.
ثانياً: التحصين الأمني. عانت الساحة الفلسطينية على مدى السنين من الاختراقات الأمنية الإسرائيلية. الفصائل الفلسطينية كانت مخترقة وكذلك المجتمع الفلسطيني والمؤسسات المختلفة، وقد وفرت هذه الخروقات الكثير من المعلومات عن النشاطات الفلسطينية حتى بات المجتمع الفلسطيني بفصائله وأحزابه ومؤسساته مخترقاً من قبل الجواسيس والعملاء. نشرت إسرائيل جواسيسها في كل مكان، واستطاعت أن تفسد على الفلسطينيين مخططاتهم وشلت قدراتهم على المواجهة. كانت تضرب إسرائيل الخلايا والمجموعات الراغبة في المقاومة استباقياً بسبب توفر المعلومات لديها، واستطاعت أن تفشل المقاومة. لهذا قررت المقاومة في غزة ملاحقة الجواسيس والعملاء جسدياً وشخصياً، ومن خلال التطوير التقني والإلكتروني. وقد حققت إنجازات كثيرة في هذا المجال إلى درجة أن إسرائيل بدأت حربها الأخيرة هذه من دون أن تتوفر لديها معلومات كافية. بدأت إسرائيل حرباً عمياء إلى حد كبير وأخذت تتخبط بتحديد أهداف الحرب وبتحدديد المواقع العسكرية المؤثرة. لقد فوجئت إسرائيل بالكثير من الأسلحة والتكتيكات العسكرية، ولولا قدرة المقاومة على التحصين الأمني لفعلت إسرائيل الكثير من الخسائر في قوة المقاومة العسكرية.
ثالثاً: التطوير العلمي. غلبت الفهلوة والارتجال سابقاً على المقاومة الفلسطينية، وكانت تتميز فصائل المقاومة بالكثير من التصريحات النارية والخطابات الساخنة والادعاءات الكثيرة بتحقيق إنجازات. المقاومة في غزة ألقت بالتراث الخطابي الكاذب جانباً، وأخذت تعتمد على الأبحاث العلمية والمختبرات والمعامل لتطوير الأسلحة والمتفجرات لكي تقف نداً لإسرائيل، أو على الأقل قوة يمكن أن تتحدى وتجعل من حروب إسرائيل مسألة شاقة وليس مجرد نزهة. وفي هذا التطوير العلمي ما قاد المقاومة إلى العمل على تحييد القطاعات الحربية الإسرائيلية الفتاكة بخاصة الطيران ولتحجيم مفعولها في المعارك. وهنا استفادت المقاومة أيضاً من تجربة حزب الله. عملت المقاومة على تطوير الأنفاق العصية على الطيران، وتطوير التكتيكات البرية لتشل سلاح المشاة المدعوم بالدبابات والمدرعات. أنشأت المقاومة شبكة أنفاق معقدة جداً، ولم يكن الطيران الإسرائيلي قادراً على النفاذ إلى المقاتلين ومخازن السلاح، وتحول إلى لعبة قذرة بقدر قذارة الجيش الإسرائيلي، وقصف المدنيين ودمر البيوت.
لقد أقامت المقاومة مراكز البحث العلمي، وأخذت تعتمد على العقول وعلى العلماء وتخلت تماماً عن لغة الارتجال والفهلوة، وتمكنت من تطوير الصواريخ والبنادق، وأدوات شل الدبابات. ولم تغفل المقاومة أيضاً عن مسألة تهريب السلاح ما أمكن، لكن البحث العلمي والتطوير التقني حقق استقلالاً كبيراً للمقاومة عن الأنظمة العربية التي لا تتحمس أبداً للقتال ضد إسرائيل، ولديها الاستعداد لملاحقة المقاومة والمقاومين وفقاً لرغبات الدول الاستعمارية بخاصة الولايات المتحدة الأميركية.

التكتيك العسكري

التكتيك دائماً في خدمة الاستراتيجية. سارت المقاومة الفلسطينية في تنفيذ مبادئها الاستراتيجية، وفي الوقت نفسه عملت على تدريب أبنائها تدريباً قاسياً متطوراً وفق المقاييس العالمية، وشكلت وحدات قتالة فدائية متمرسة وشجاعة وواعية وقادرة على تنفيذ المهمات بمهنية عالية. لقد تفوقت الوحدات الفلسطينية الفدائية على القوات الإسرائيلية الخاصة وأوقعتها في العديد من الكمائن القاتلة. الجندي الفلسطيني بات مدرباً ومنظماً وعقلانياً ومفكراً ومتمتعاً بقدرات عالية المستوى. وفوق ذلك، يتمتع الجندي الفلسطيني بوعي إنساني ووطني وأخلاقي رفيع المستوى، وبعقيدة قتالية واضحة ومستوعبة تماماً، وبعقيدة صلبة تقوم على مبدأ النصر بل أو الشهادة، وأن الحياة والموت بيد الله سبحانه وتعالى. الجندي الفلسطيني يقبل على الموت من أجل الحياة، من أجل أن يحيا شعب فلسطين، وهو لا يتلقى الرصاص بظهره وإنما بصدره أو رأسه.
لقد فكرت المقاومة وخططت وبحثت ودققت وتروت، وتغلب العقل الفلسطيني على العضلات الإسرائيلية.
* كاتب فلسطيني