حين يشاء المؤرّخون الذين يدرسون المؤسسات وتطوّرها (على هدى بارينغتون مور) ايضاح كيف أن خيارات سياسية معينة، في لحظات مفصلية، تضع بلداً وتطوره السياسي والاقتصادي على "طريق" محدد، فتقرّر مساره الى أمدٍ بعيد، فهم كثيراً ما يستخدمون مثال الأزمة التي ضربت التجارة الدولية في سبعينيات القرن التاسع عشر. على مدى عقود قبل سنة 1870، كانت "السوق الدولية" الناشئة والمتوسعة (بفضل ارتفاع الانتاج والثورة الصناعية والاستعمار) تنمو باضطراد، والتبادل بين اوروبا والعالم يزداد وسط صعودٍ للنظريات الليبرالية في الاقتصاد والتجارة، حتى صارت هذه الأدبيات تتحكم بتفكير الحكومات والهيئات الاقتصادية ــــ التي اقتنعت بأنّ التجارة الحرّة يمكن أن تكون، بالفعل، مفيدة لكل الأطراف وضمانةً لنموّ لا يتوقف.
هذه "السوق الدولية الأولى" في عصر الرأسمالية الحديثة (البعض يعتبرها نسخة مبكرة عن "العولمة") وصلت الى تحدٍٍّ قاسٍ مع أوّل "أزمة مالية" كبرى واجهتها؛ والأزمة انطلقت عام 1873 وأفهمت صنّاع السياسات المحليين بأن السوق الحرة لا تعني بالضرورة نمواً دائماً ولا هي محصّنة ضد الأزمات. وأن الاندماج في السوق الدولية بلا شروط وحدود يعرّض مجتمعك لتبدلات ونكسات لا يمكن لك التحكم بها. على رغم أن الأزمة كانت شاملة، من أسواق الأسهم التي انهارت الى أسعار المعادن والمواد المصنّعة، الّا أنّ نطاق السياسة الزراعية كان هو الهمّ "الاستراتيجي".
في نصف القرن الذي سبق الأزمة، أدّى نشوء سوقٍ دولي لتبادل المحاصيل الزراعية الرئيسية (خاصة الحبوب) الى تدفق استثمارات كبيرة على الزراعة التجارية ولإيجاد مصادر جديدة للمحاصيل المهمة. مع استثمار مساحات شاسعة من سهول اوكرانيا وشرق اوروبا والولايات المتحدة، وتحويلها الى زراعة الحبوب بغية التصدير، أُغرقت السوق بالقمح الرخيص وفهمت الأنظمة الحاكمة في اوروبا الغربية أن السماح بدخول القمح الأجنبي (كما تفترض قواعد حرية التجارة) سيعني ــــ ببساطة ـــــ تدمير قطاعها الزراعي التقليدي، الذي لن يقدر على المنافسة مع انتاج "المناطق العذراء" في شرق اوروبا وولايات الغرب الأوسط الأميركية؛ وهي ستكون مجبرة، بالتالي، على تحمّل الكلفة السياسية لحرمان ملايين الفلاحين من رزقهم وتخريب نظام الانتاج الذي ألفوه لقرون.
هنا، اخذت كلّ من الدول الأوروبية "طريقاً" مختلفاً للتعامل مع الأزمة، وكان لهذه الخيارات أعمق الأثر على تطور هذه البلدان في المستقبل، وصولاً الى الحرب العالمية الثانية. في فرنسا، مثلاًً، قرّرت الحكومة اتباع سياسات حمائية ووضع حواجز جمركية على سلع معينة بغية عزل هذه القطاعات عن أسعار وتقلبات الاقتصاد الدولي، وتخطيط دورها ــــ بشكل مركزي من باريس ــــ في سياق الاقتصاد الوطني. أما في بريطانيا، فقد أصرّت الحكومة على الالتزام بمبادىء حرية السوق، وتركت للريف الانكليزي ليتطور في مسارٍ تجاري (تحت قيادة ملاك الأراضي الأرستقراطيين، الذين تخلوا عن الريع الاقطاعي وتحولوا ــــ منذ أواخر القرن الثامن عشر ــــ الى "رجال أعمال"، يستثمرون في الزراعة الحديثة وزيادة الانتاج)، بينما يرتحل "فائض" الفلاحين البريطانيين الى المدن الكبرى، للعمل في المصانع وخطوط الانتاج. في المانيا، من جهةٍ أخرى، قرّر بسمارك والامبراطور أن يضربوا عرض الحائط بالمبادىء الليبرالية، وأن يزيدوا من دور الدولة في ادارة وتنسيق الاقتصاد؛ بينما تعاونوا مع طبقة ملاك الاراضي التقليديين (الـ"يونكرز") لتثبيت نظامٍ صارم لاستخراج الريع من الفلاحين، يشبه العودة الى الاقطاع وعلاقة السيد بالقنّ.
يعتبر مؤرخون كبارينغتون مور أنه، بسبب هذه الخيارات، تجذّرت في فرنسا صورة الدولة كمخططٍ فوقي للاقتصاد، مع سلطةٍ فائقة لباريس باعتبارها المركز البيروقراطي؛ بينما حافظت بريطانيا على نمط اقتصادي حرّ ذي طابع ارستقراطي؛ وتأسس في المانيا مفهوم "الادارة الجماعية" تحت امرة الدولة، وعبر تحالفات فوقية مع طبقات ومجموعات مهنية ــــ حرفية (corporatism). هناك دولٌ أخرى، كالامبراطورية النمساوية والسلطنة العثمانية، كان سوء تأقلمها مع الأزمة من أسباب ضعفها الاقتصادي ومشاكل في الأطراف والأقاليم الزراعية لاحقتها لعقودٍ قادمة (في حالة السلطنة العثمانية، لم تكن الدولة، بسبب معاهداتها وتنازلاتها للقوى الخارجية، قادرةٌ أصلاً على التحكم بسياساتها الجمركية أو صياغة موقعها بحرية في السوق الدولية).
بعد قرنٍ ونصف من أزمة 1873، تجد مجموعةً من الدول المصدرة للنفط نفسها اليوم في موقعٍ مشابه. روسيا والسعودية وايران وغيرها قد اعتمدت، منذ أوائل الألفية، على نمط نموٍّ يستفيد من النفط الغالي الثمن (ويفترض، في بعض الحالات، أن الأسعار ستظل مرتفعة الى الأبد)، ومن سياق اقتصادي يكون التبادل فيه مع السوق الدولية ــــ اجمالاً ـــــ لصالحها. غير أن الصدمة النفطية الأخيرة قد وضعت هذه الدول أمام مفترق طرقٍ وخياراتٍ صعبة؛ وهي اتخذت اجراءات "جذرية" خلال السنة الماضية قد تقرر مصيرها الى أمدٍ بعيد، وقدرتها على الخروج من الأزمة بسلام، وشكل "العقد السياسي" الذي يحكمها.