على المستوى الدولي، لم يكن للقذّافي أصدقاء حين عزّت الحاجة إليهم، ولعلّ ذاك كان من أهمّ أسباب سقوطه. السردية الإعلامية الوحيدة في المنطقة والعالم كانت تلك المعادية بعنف للقذافي والمنخرطة في الحرب ضده، وهي أخذت حرّيتها في إخراج صورة الثورة وجعلها الخير المحض في مواجهة «كتائب القذافي».
لم ينتصر أحدٌ للقذّافي في الميدان ولا حتّى في مجلس الأمن، لأنّه ـ وهنا السخرية الكبرى ـ كان قد باع أكثر حلفائه ورفاقه، وتخلّى عن ترسانته الرّادعة، مقابل وعدٍ من الغرب بأن أميركا لن تسعى إلى إسقاط النظام الليبي مجدداً (ولو ظلّت للقذّافي القدرة على تهديد جنوب أوروبا بالصواريخ الكيميائية، لما كانت هناك حملة، ولما انتهى الزعيم الليبي طريداً لطائرات الـ«ناتو»).
كأغلب التدخّلات الخارجية في المنطقة، كانت جيوش الغزو تدّعي القتال من أجل قضيّة ما، بينما هي ـ في الحقيقة ـ تخوض حروبنا الأهلية (القائمة أو المؤجلة)، وتنصر فعليّاً شطراً من الشعب على شطرٍ آخر. بعد الحرب في ليبيا، تكشّفت ثنائية شعب/نظام، التي أرساها الإعلام، عن ثلاث حروبٍ على الأقل كانت تجري في البلد في آنٍ واحد، تحت مسمّى «ثورة 17 فبراير».
الثّورة الليبية كانت، في بعدٍ من أبعادها، انتفاضة مناطقيّة ذات طابع انفصالي، تخوضها أقاليم الشرق وبنغازي ضدّ سلطة طرابلس. وهي كانت أيضاً حرباً قبليّة، اصطفّ فيها النّاس حسب أصولهم وانتماءاتهم ومناطقهم، وهنا لا مكان للسياسة والخيار الايديولوجي. وكانت هناك أيضاً ثورة لفصائل إسلامية تقاتل من أجل مشروعها الخاص، و«إمارة درنة»، التي سخر الجميع من القذافي حين ادّعى وجودها، هي اليوم واقعٌ على الأرض. أخيراً، أُضيف إلى هذه الساحة صراعٌ جديد، وهو نزال المحاور الخارجية على أرض ليبيا.
قادة «الثوار» الليبيين تباهوا مراراً بأنّ الغزو الأجنبي كان جوياً فقط، وأنّه لم يتضمن قوات احتلال برية، كأنّما هناك فارق. وحتّى هذا الادعاء قد ثبت كذبه في ما بعد. في الحقيقة، إنّ صيغة «الاستعمار المريح» هذه تناسب الغزاة كثيراً، إذ تجنّبهم كلفة إدارة البلد أو مسؤولية الاقتتال بين أبنائه وخسارته لوحدته؛ ولا تعبير أبلغ على ذلك من أنّه، فيما تدمّر مدن ليبيا ويغيب الأمن عن بقاعها، ويهرب منها أبناؤها القادرون على السفر، نقرأ أنّ إنتاج النفط يرتفع بشكلٍ ملحوظ، وأن منشآت النفط آمنة، ومرفأ «راس لانوف» يعاود تصديره إلى أوروبا.
الهدف هنا ليس محاكمة التّاريخ، ولا المقارنة بين ليبيا قبل وليبيا اليوم، حتّى من زاوية الاعتقال السياسي والجماعات المضطهدة والحريات، ولكن يكفي القول إنّ ما يجري الآن لا يمكن النّظر إليه على أنّه إرهاصات لـ«دينامية ثورية» ما، سوف تثمر شيئاً واعداً في المستقبل - هذا حتّى لا نسأل عمّا إذا صار يحقّ لليبيين أن يترحّموا على القذّافي.