جاء مقترح الهدنة من النظام المصري، المسمى بالمبادرة المصرية، لتوفير اطار وآلية لوقف حرب اسرائيل على قطاع غزة. إذ جاء مضمون المبادرة كترجمةٍ لحاجات إسرائيل الماسّة للخروج من حربها على غزة بعد ان فشلت في تحقيق اهداف استراتيجية او تكتيكية وتركيزها على اهداف عملياتية محدودة. كما لم تعكس المبادرة المستجدات في موازين القوة بين دولة الاحتلال اسرائيل والمقاومة في فلسطين التي افرزتها الحرب. بعدها جاءت الورقة المصرية لوضع اطار للتباحث في لائحة مطالب الطرفين، دولة الاحتلال إسرائيل والفريق الفلسطيني، مع تأكيدها مبدأ استمرار وقف اطلاق النار لاعطاء فرصة لمفاوضات لا ضمان للطرف الفلسطيني فيها تحقيق الحد الادنى من حقوقه.
تبلورت المبادرة المصرية لوقف اطلاق النار بعد قيام مبعوث الرباعية، توني بلير بحثِّ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على القيام بدورٍ فاعلٍ في التوسّط لوقف اطلاق النار. إذ رتب بلير- بحسب الصحيفة العبرية «هآرتس» - لاجراء مكالمةٍ هاتفية بين الرئيس المصري السيسي ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو لوضع اتفاق وقف اطلاق نار على أساس ما جرى عام ٢٠١٢. نسّق النظام المصري مع أطراف عدّة، متجاهلاً قوى المقاومة في قطاع غزة لثلاثة اسابيع، تحت مبرر ان النظام لا يتعامل الا مع الممثل الرسمي للشعب الفلسطيني، اي رئيس سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني ومندوبوه. لكن صمود المقاومة دعا النظام الى القبول بممثلي فصائل المقاومة ضمن الوفد الفلسطيني الموحد. لعل تفادي النظام المصري التنسيق مع المقاومة هدفه الضمني عدم اعطاء شرعيّة التمثيل لقوى المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس.
ساوت بنود مبادرة وقف اطلاق النار بين طرفي الصراع من دون ذكر احتلال اسرائيل لفلسطين وحق المقاومة الفلسطينية في الدفاع عن شعبها ونفسها. كما أنّ المبادرة لم تحتو على آلية تطبيق المطلب - الحق الفلسطيني الأساسي وهو رفع الحصار عن قطاع غزة. إنّ الالية الاساسيّة التي نصّت المبادرة عليها هي الوقف المتبادل لاطلاق النار، وترك ما دون ذلك الى عملية التفاوض. لقد اثبتت الوقائع ان سلسلة التهدئات بدءاً من الـ٧٢ ساعة التي تلت ٢٩ يوماً من الحرب على غزة لاعطاء فرصة للتفاوض غير المجدي فلسطينياً كونه يعيد الوضع كما كان عليه من حصار قبل الحرب.
اما المفاوضات التي تمخضت عنها ما اصطلح على تسميته بالورقة المصرية كانت وسيلة خروج اسرائيل من الحرب. حيث مالم تأخذه اسرائيل مباشرة من هدنة قد تم فعلياً عبر «تبريد» الاجواء في اطار اعطاء فرصة للتفاوض من دون اطلاق نار مدة ٣٠ يوماً بدءاً من تاريخ توقيع الورقة. الا ان سعي الوفد الفلسطيني الى ضمان رفع الحصار قبل الانتقال الى المرحلة التالية من المفاوضات وتعنت اسرائيل ورفضها الاقرار بالحقوق الفلسطينية ادى الى انسحاب وفد الاحتلال الاسرائيلي وانهيار «التهدئة» اي انفراط الورقة.

لقد اعتادت الأنظمة
في مصر التعاطي مع القضية الفلسطينية من خلال سياسة الاملاء

من المفترض ان تتصرف مصر لضمان مصالحها الاستراتيجية. مصالحة مصر الاستراتيجية تكمن في قدرتها أولاً على توفير استقرارٍ سياسي داخلي يوفر اجواء نمو اقتصادي. ثانياً قدرة مصر على لعب دور اقليمي يحافظ على وزنها كدولة قادرة على التأثير في تشكيل سياسات المنطقة بما يخدم امنها القطري والقومي - الاقليمي. في شبه جزيرة سيناء، يمتزج العاملان، الوضع الاقتصادي والامن القومي. الرئيس السيسي الذي كان الى وقت قريب مدير فرع المخابرات المصرية في سيناء وقد خبر ذلك بشكل شخصي.
تعتبر سيناء ممراً أساسياً وحيوياً إلى غزة. كما أنه سواء وافق النظام او أغمض عيونه، فسيناء هي الممر الاساسي لخطوط التهريب الى غزة بما يتضمّن تهريب الأسلحة والذخائر. هذه الخطوط لا يمكن وقفها ولكن يمكن الحد من نشاطها، إذ أنّ الدوافع القومية الى جانب توفير هذه الخطوط الى موارد دخل للعاملين عليها على طرفي الحدود الفلسطينية المصرية يولد الحافز الدائم لمواصلة العمل. اي محاولة لضرب هذه الخطوط من الطرف المصري يعني المس بمصادر عيش هذه الفئات، ويعني التصادم معها، ما يولد حالة عدم استقرار في منطقة غير مستقرة بسبب الملحق الامني لاتفاقية كامب ديفيد للسلام بين مصر واسرائيل. حيث أنّ الاتفاق يحرم القواتِ المصرية من العمل بحرية في سيناء ما يحدّ من السيطره الأمنية عليها. هذا إلى جانب البنية الاجتماعية القبليّة التي تفرض ترابطاً وتحالفات عشائريّة وتاريخيّة تلزم القبائل الدفاع المشترك ضد أي عدوٍّ خارجي حتى لو كانت الدولة التي بالكاد توفر خدمات اساسية للسكان هناك.
موقف النظام تجاه حرب إسرائيل على غزة يتناقض مع المصالح الاستراتيجية لمصر حيث أنّ أمن غزة جزء من أمن مصر الحدودي. كما أنّ اي موقف يتّخذه النظام له تداعيات اقليمية تحدّد مكانتَه من اصطفاف المحاور و دوره فيها. لكن في الاطار العام تتأثّر مواقف وعلاقات النظام تجاه المقاومة في قطاع غزة بعوامل عدة:
١ــ العداء التام والصريح لحركة الاخوان المسلمين داخلياً وخارجياً. فالنظام الحالي جاء اثر انقلاب على نظام الاخوان المنتخب. بغض النظر عن مبررات النظام لانقلابه، إلّا أنّه يمضي في سياسة اقصاء الاخوان وعدم ادماجهم في الحياة السياسية. سياسة عدم التعاون مع الاخوان امتدت خارجياً لعدم التعامل مع حركات للاخوان خارج مصر.
٢ــ النظام حتى الآن يغلب في نظرته الى حركة حماس على أنّها امتداد للاخوان من دون النظر لدور حماس كقائد لحركة المقاومة الفلسطينية في غزة، كما أنه، كما يبدو، لا يميز بين حماس كحركة تشارك الاخوان مسلماتهم الايديولوجية من جهة وأنّها في فعلها المقاوم السياسي باسم القضية الفلسطينية جزء من اصطفاف اقليمي له مواقفه الواضحة تجاه إسرائيل والعلاقة معها.
٣ــ العلاقة مع السعودية والامارات. حيث ان كلتي الدولتين تدعمان الاقتصاد المصري المهلهل بمليارات الدولارات سواء على شكل ودائع في البنك المركزي المصري او على شكل مساعدات واستثمارات. معلوم ان الموقفين السعودي-الاماراتي معاديان لحركة الاخوان فحكام البلدين ينظران الى حركة الاخوان كتهديد لاستمرار حكم النظامين في كلتي الدولتين. في هذا الاطار نظام السيسي في مصر يتناغم مع هذين الموقفين الذي يلعب فيه الموقف السعودي دوراً حاسماً متناسباً ودعم السعودية المادي المتواصل لمصر.
٤ــ علاقة مصر مع اسرائيل. حيث أنّ لهذه العلاقة مستويين. الأوّل أنّ هناك التزامات لمصر تجاه تنفيذ اتفاقية السلام مع إسرائيل. جزء من هذه الالتزامات أمني يحدّد نوعاً وكمّاً التواجد المصري في سيناء الى جانب حماية الحدود بينهما التي تشمل حدود غزة. في الاطار العام لاتفاقية السلام يُحدّد الاعتراف المتبادل بين الحكومتين المصرية والاسرائيلية الاقرار الضمني ان يحترم كل طرف سيادة الطرف الاخر ضمن الولاية الجغرافية المحددة والمعترف بها دولياً. ضمن هذا الفهم، غزة ضمن الولاية والسيادة الاسرائيلية وأي تفاهمات حدودية تتم عبر حكومات البلدين. لذلك فمصر تساهم في اغلاق الحدود مع غزة مبرّرة ذلك بالتزاماتها الدولية.
إنّ علاقة النظام مع اسرائيل هي مدخل ووسيلة تأثير للنظام في جماعات الضغط (اللوبي) الصهيوني في الولايات المتحدة الاميركية. فقد اعلنت الادارة الاميركية منذ الانقلاب (لأسباب مختلفة) تجميد بعض مساعداتها للنظام ما يؤثّر في اقتصاد العسكر في مصر من جهة ودرجة اندماج وتقبّل النظام الدولي لنظام السيسي من جهة اخرى. اللوبي الصهيوني قادر على التأثير في موقف الادارة الاميركية في حال كان ذلك يخدم اسرائيل وسياسات الولايات المتحدة في المنطقة، ولعلّ السيسي يراهن على ذلك. على المستويين سيجد النظام المصري نفسه يتناعم مع سياسات وحاجات اسرائيل الامنية.
٥ــ المصالح الاميركية في المنطقة. لا يستطيع النظام المصري اغفال أنّ اميركا تنظر الى ترتيب المنطقة بما يسهم في دعم سياساتها الدولية. المصالح الاميركية تأخذ بعين الاعتبار حاجات وسياسات الدولة التركية التي تعتبر عضواً في حلف شمال الاطلسي، كما يأخذ بعين الاعتبار احتواء ايران من خلال التوصل الى تفاهمات اقليمية. عدم رغبة النظام المصري في إعطاء دور لكل من تركيا او ايران بشكل مباشر لا يعني عدم التعاطي معهما من خلال الدبلوماسية الاميركية. كما يدرك النظام أنّه لا يمكنه اخذ قرار تجاه الحدود مع غزة يتجاهل أي مبادرة للادارة الأميركية.
٦ــ تقاليد الحكم والادارة. صحيح ان النظام في مصر تغير ثلاث مرات في غضون اربع سنوات لكن تقاليد المؤسسة الحاكمة في مصر لم تتغير. لقد اعتادت الأنظمة في مصر التعاطي مع القضية الفلسطينية عموماً وقطاع غزة خصوصاً من خلال سياسة الاملاء. اضافة الى تغليب معالجة المسائل الفلسطينية في اطار أمنيٍّ بحت. ادارة الحوارات، الوساطات ومعالجة المسائل كانت وما زالت تتم من خلال منسق في المخابرات العامة المصرية، عمر سليمان سابقاً وضباط في الجيش حالياً.
٧ــ عدم تقبّل النموذج المخالف. حيث أنّ المقاومة في غزة تقدّم نموذجاً مخالفاً للتعاطي مع اسرائيل وحلفائها لنهج التفاهمات بناء على تقاسم المصالح والاكتفاء بالحصص. المقاومة الفلسطينية تعمل على فرض معادلة قديمة جديدة - مثلما ينص القانون الدولي- وهي أنّه من حقّها الدفاع وحماية الشعب الفلسطيني ونفسها، ولعلّ جزءاً من هاجس النظام هو ضرب النموذج المقاوم.
٨ــ السعي لوجود سلطة حليفة في قطاع غزة متناغمة مع سياسة النظام المصري ورؤيته تجاه اسرائيل. حيث ان سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني بقيادة رئيسها محمود عباس الانسب للنظام. لذلك تضمنت افكار الورقة المصرية ادخال عناصر من امن الرئاسة الفلسطينية في اطار اعادة سيطرة سلطة رام الله على مقاليد حكم قطاع غزة.
٩ــ ان يبقي اي اتفاق مجالاً وثقلاً واضحاً للنظام المصري في السياسة الاقليمية-الدولية. فالقضية الفلسطينية بشكل عام ووضع قطاع غزة خاصة، موضوعان دائمان على طاولة السياسة الدولية. فقد يقلل توفر موانئ جوية وبحرية من اعتماد قطاع غزة على مصر كمعبر بري من وسائل تأثير النظام في السياسة الفلسطينية وبالتالي السياسة الاقليمية الدولية.
يعتقد النظام المصري انه في موقع مقرّر في أي اتفاق هدنة محتمل بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال إسرائيل. فأولاً، يعتبر النظام ان موافقته على اي ترتيبات في اتفاق هدنة هي لازمة. كون مصر هي المعبر الارضي الوحيد امام فلسطينيي غزة في ظل عدم وجود مرفأ جوي أو بحري. ثانياً، يعتبر النظام أنّ امكانية حصول تحرّك جماهيري داخلي يضغط على النظام ضعيفة نتيجة قدرته على قمعها واحتوائها لا سيما ان قانون منع التظاهر سيف مسلّط على المحتجين.
كما يردد النظام مغالطة -حسب القانون والعرف الدولي- في اعتبار ان موضوع الحدود بين قطاع غزة ومصر شأناً بينهما ولذلك لا ينبغي ادراجه في اطار التفاوض. من الناحية القانونية، إسرائيل صاحبة السيادة على قطاع غزة كقوة محتلة، اضافة الى ما اشارت اليه اتفاقية كامب ديفيد واتفاق المعابر عام 2005، حيث ان اي ترتيب بخصوص معابر غزة مع العالم الخارجي يلزم ان تقرّه إسرائيل.
لا يمكن اعتبار مصر طرف ضامن لاي اتفاق بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل. فوسائل ضغط النظام المصري على إسرائيل محدودة في توريد الغاز وعبور شاحنات ذات صلة بإسرائيل عبر قناة السويس اضافة الى التنسيق الامني. كما ان التجربة تشير إلى ان الانظمة المصرية المتعاقبة لعبت دور الوسيط-الرسول الذي يحاول املاء مصالح طرف (اسرائيل) على طرف (الفلسطيني) سواء كان ذلك في عدوان ٢٠٠٨-٢٠٠٩ او٢٠١٢ وفي الحالتين كان رأس النظام مختلفاً ولكن كان للنظام الاداء نفسه. مع ذلك كل الاطراف متفقة مبدئياً ان لا اتفاق بلا النظام المصري الذي يعتبر حجر الزاوية في الفترة الحالية. المقاومة الفلسطينية تنظر الى مصر على انها عمق استراتيجي. اما إسرائيل فتنظر الى النظام في اطار برغماتي-عملياتي اوضحه ان إسرائيل درجت بعد كل حرب على غزة ان يوفر النظام في مصر الية للخروج بعيداً من مجلس الامن الدولي. هذه وظيفة النظام المصري كما تراها اسرائيل حالياً.
* ناشط وباحث ــ فلسطين المحتلة