في تقرير أخير له في «الغارديان» من الجبهة في ديالى، يقارن الصحافي اللامع غيث عبد الأحد بين الجيش العراقي والميليشيات التي تقاتل إلى جانبه. يقول له مقاتلٌ من «عصائب أهل الحق»، على بعد امتار من الحاجز الترابي الذي يفصل القوات الحكومية عن خطوط «داعش»: «حتى لو وضعوا ألفي جندي (من الجيش) في هذه القرية، فإنني لن آخذهم بجدية، ولن أعتمد عليهم... نحن فصيل مقاومة، ونحن نقاتل منذ 11 عاماً. كلّ عنصر منّا قد أُرسل، على الأقل، إلى ثلاثة معسكرات تدريب خارجيّة تحت اشراف حزب الله... هل تعرف معنى أن تخوض 60 يوماً تحت التدريب المضني لحزب الله؟ أنّك ترجع انساناً جديداً... لا يمكنك أن تقارننا بأولئك الجنود الذين تطوّعوا في الجيش من أجل المال».
تاريخيّاً، يكنّ العراقيّون احتراماً خاصّاً لجيشهم الوطني؛ وقد عُدّ تأسيس الجيش وبدء التجنيد، بحدّ ذاته، مكسباً استقلالياً وثمرة نضال، بعدما كان البريطانيون يحكمون العراق بواسطة قوّات من تشكيلهم وتقاتل تحت قيادتهم. الجيش العراقي قاد انقلاب الـ41 وثورة الـ58، والحركتان حازتا تأييداً شعبياً كبيراً. ما حدث هو أنّه، في أكثر الدول العربية، لم تتمكن الدولة الوطنية من انشاء جيوش فعّالة - حتى بمعنى القمع والتأديب - إمّا لأسباب ذاتية، أو لأنّ أي مشروع وطني بدأ بالنمو كانت تضربه إسرائيل أو أميركا، أو ترهقه الحرب الأهلية (والجيش العراقي نالته العوامل الثلاثة).
ضعف الجيوش الرسمية قابله بروز حركات مقاتلة من نوعٍ مختلف: عابرة للحدود ومحليّة في آن واحد، تحرّكها عقيدة فوق ـــ وطنية ولكنّها، في الوقت نفسه، متجذّرة في مجتمعها. هذه التنظيمات، سواء نشأت كتشكيلات مقاومة ضد عدوّ خارجي أو كحركات احتجاج، فاقت الجيوش النظامية في فعاليتها. هل تجوز المقارنة، مثلاً، بين الجيش العراقي والعصائب (أو داعش)؟ أو الجيش اللبناني وحزب الله؟ أو الجيش اليمني والحوثيين؟ هذه وغيرها مؤسسات ولدت من رحم الحرب، واستمرّت لأنّها أتقنت فنونها.
في التاريخ قواعد لا يمكن تجنّبها، ومنها أنّ القدرة العسكرية هي رأسمال القوّة الوحيد الذي يدوم ويمكن الاعتماد عليه – وخاصّة في فترات القلاقل؛ ومن يملك التفوّق على هذا المستوى يكتب المستقبل. المسألة ليست في أن نُصدم ونحتجّ لأنّ هذه التطوّرات لا تناسب نسق الدولة الوطنية أو مقاييس «الحداثة» السياسية كما نهوى استنساخها، فإن هذا لن يغيّر شيئاً في واقعنا اليوم. المسألة هي في كيفية الانطلاق من هنا، وكما يقول الكاتب العراقي حسن الخلف، فإنّ الدوافع الذاتية للفاعل السياسي هي، بمعنى ما، ثانوية (إلّا لمن يطمح إلى الهيمنة المطلقة): بعض الناس سوف تحرّكه العقيدة، والبعض الآخر الخرافة، وآخرون يقنعهم المنطق والمصلحة، هكذا هي الحال دائماً، ما يهمّ هو الأهداف والقضايا التي يتحرّكون من أجلها.