أنتجت الانتفاضة المصريّة وما تلاها من تحوّلات كبرى وصغرى حنيناً إلى زمن جمال عبد الناصر. وعبد الفتّاح السيسي، الباحث عن عنصر لتعزيز شرعيّته السياسيّة بعد أن زوّر الانتخابات الرئاسيّة وفرض ديكتاتوريّة غير مقنّعة على مصر، قرّر أن يستعين بذكرى وصورة عبد الناصر للتشبّه. لكن الفارق بين السيسي وعبد الناصر هو مثل الفارق بين الضفدع والغزال، أو بين سعد الحريري وهيغل.
السيسي أسير (طوعي) لأنظمة الخليج والعدوّ الإسرائيلي، فيما كان عبد الناصر يحارب على أكثر من جبهة ضد أنظمة الخليج (حتى الهزيمة في 1967) وضدّ العدوّ الإسرائيلي وحلفائه حول العالم. عبد الناصر كان نصير الفقراء، فيما السيسي لا يناصر إلا أصحاب المليارات وآبار النفط. عبد الناصر كان يتمتّع بكاريزما لم يتمتّع بها زعيم عربي منذ قرون، وللسيسي من الكاريزما ما لدى محمود عبّاس منها. عبد الناصر دعم وسلّح حركة مقاومة في غزة، فيما يضيّق السيسي الحصار على أهل غزة بالاشتراك مع العدوّ الإسرائيلي. عبد الناصر مثّل القطاع العام المُنتج، فيما يمثّل السيسي القطاع الخاص الذي يدعم حملته الانتخابيّة. الحديث عن عبد الناصر صعب في الثقافة العربيّة لأن آل سعود لم ينتهوا بعد من دفن أحقادهم ضد الرجل، ولا تزال أبواقهم تصفّي الحسابات مع مَن تجرّأ على فضح أنظمة الخليج وتعبئة الرأي العام ضدّها. ولولا دعم الاستعمار القوي لأنظمة الخليج، لما صمدت بوجه الحملات الناصريّة. سمير عطالله يتخصّص في الكتابة الدوريّة ضد الأنظمة الشيوعيّة والنظام الناصري: تسديد حسابات لأولياء الأمر. كما أن نظام كامب ديفيد الذي فرضته أميركا في مصر شنّ حملات لم تتوقّف ضد المرحلة الناصريّة تحت عنوان «محاربة الديكتاتوريّة». لكن مع كل ما يكن ان يُقال ان تقييد الحريّات في الحقبة الناصريّة - لأسباب مشروعة وظالمة معاً - فإن الحقبة الناصريّة تفوّقت على حقبات مبارك والسادات معاً في الإنتاج الفنّي والثقافي والصناعي والعسكري. كانت مصر ستصبح مثل كوريا الجنوبيّة، فحوّلها كامب ديفيد إلى دولة باهتة فاشلة لا تنتج حتى مشروباتها. ان الكثير ممّا التصق بالحقبة الناصريّة من صنع خيال الأنظمة الخليجيّة والاستخبارات الأميركيّة.

أحسن عبد الناصر
في إفهام الجماهير
أن مشكلة الغرب ليست معه هو شخصيّاً

لقد أنتج النظام الساداتي الأميركي - تحضيراً لـ«كامب ديفيد» ثقافة رجعيّة يمينيّة ضخّت كمّاً هائلاً من الأكاذيب عن النظام الناصري الذي أعدم في عقديْن من الزمن أقل مما يعدم آل سعود في أسبوعيْن. إن كتب مصطفى أمين (والذي ثبت في المراجع الأميركيّة خبر عمالته للاستخبارات الأميركيّة بعد ان كانت الثقافة الساداتيّة والخليجيّة تعتبر أمر محاكمته وإدانته من جوْر النظام الناصري) عن سنواته في السجن كانت جزءاً من الثقافة التي مهّدت الطريق إلى الاستسلام مع العدوّ. من يعود إلى «سنة أولى سجن» يدرك ان كل ما رواه أمين كان من صنع الخيال وبعضه مُستقى من أفلام الرعب الأميركي (نسي ان قصّة الكلاب البوليسيّة كانت في حينها أميركيّة). إن هذا السياق صعّب من عمليّة تقييم عبد الناصر بالرغم من المراجعة الجديدة التي تلت الانتفاضة المصريّة المُجهضة.
يمكن اعتبار خطاب النكسة من أفضل الخطب العربيّة المعاصرة بمعيار الأدب السياسي. لم يكن تقييم موهبة عبد الناصر الخطابيّة مسألة تقنيّة: كان هناك من هو أفصح منه وأبلغ، بما فيهم أحمد الشقيري وأمين الحافظ وحتى الملك الحسن الثاني. لكن أداء عبد الناصر وإلقاءه نمّ عن صدق وإخلاص لم يتبيّنه الجمهور العربي الواسع عند غيره من الحكّام. كان عبد الناصر يبدو لمستمعيه أصدق من غيره: تقارنه مثلاً بألاعيب وبهلوانيّات السادات وعرفات ومحمود عبّاس في الحديث، أو في تأتأة الأميّين من آل سعود. استطاع عبد الناصر أن يكسب ثقة الناس به، كما أنه كبر من دون غرور أو دعة. لو أتيح لواحد من جهلة آل سعود ربع ما كان لدى عبد الناصر من قدرات وعناصر جذب جماهيري، لما اتسعت الأرض لغروره.
لكن خطاب النكسة مهم على أكثر من صعيد. هو وثيقة تاريخيّة تعكس شخصيّة زعيم له من الفضائل الكثير ومن النواقص المعلوم. هزيمة 1967 عندي (وعند غيري) كانت أكبر خطيئة للنظام الناصري على أكثر من صعيد (بالرغم من الأسباب التخفيفيّة):
1) لم يكن هذا القائد، مثل القادة التاريخيّين الكبار، انفعاليّاً أبداً لكنه سمح لنفسه بأن يكون انفعاليّاً نتيجة لمزايدات نظام البعث السوري ومزايدات حليف الصهيونيّة العربي الأوّل، الملك حسين الأردني.
2) كان عبد الناصر قد اعترف قبل أشهر فقط ان ليس بمقدوره محاربة العدوّ الإسرائيلي بعد، فكيف لا يتجنّب معركة يعرف مسبقاً أنه سيخسرها؟
3) أوكل عبد الناصر مهمّة القيادة العسكريّة - وبالنيابة عن الملايين من الجماهير العربيّة في معركة تاريخيّة وفاصلة - إلى واحد (عبد الحكيم عامر) لا يصلح لقيادة مخفر شرطة، فقط بسبب الصداقة الشخصيّة التي جمعتهما.
4) ارتكب عبد الناصر خطأ جسيماً في الثقة بعدوّه الأميركي خصوصاً في عدم مبادرته إلى شنّ الحرب استباقيّاً، حتى لو كان النصر مستحيلاً (يجب الرجوع إلى مساهمة الصديق كمال خلف الطويل عن هذا الموضوع).
5) كيف يدخل عبد الناصر حرباً إلى جانب الملك حسين، حليف العدوّ؟ كيف يمكن أن يثق به؟
أما الأسباب التخفيفيّة لعبد الناصر فهي:
أــ كان عبد الناصر يواجه الأعداء من كل حدب وصوب.
ب ــ حليفه السوفياتي كان أقلّ إخلاصاً له من إخلاص اميركا لحليفتها.
ج ــ لم يُخلص أقرب الناس له لمشروعه.
دــ لم يكن يفكّر قطريّاً أو عشائريّاً أو طائفيّاً بل قوميّاً. هب لنجدة سوريا عندما أخطره السوفيات بخطر داهم أمامها.
ه ــ كانت قيادة عبد الناصر كبيرة إلى درجة ان الأمور الداخليّة والتنظيميّة لم يتسع لها وقته الضاغط.
و ــ فضّل عبد الناصر أن يجازف بنظامه فداءً لسوريا بعد أن اخطره السوفيات بعدوان داهم عليها.

خطاب النكسة
يعكس شخصيّة زعيم له من الفضائل الكثير ومن النواقص المعلوم


لكن الخطاب يحتفظ بمغازي ومعانٍ لا تزال صالحة في دلالاتها ومعانيها إلى اليوم. في بداية تحليله للأزمة يشرح عبد الناصر مُسبّباتها ويبدأ بأنباء ما أحاط بسوريا من مخاطر وتهديدات من العدوّ، ونقلاً عن لسان حليفه في موسكو، ويضيف: «ولقد وجدنا واجباً علينا ألا نقبل ذلك ساكتين، وفضلاً عن أن ذلك واجب الأخوة العربيّة، فهو أيضاً واجب الأمن القومي، فإن البادئ بسوريا سويف يثنّي بمصر». قد يكون هذا المقطع من الخطاب أفضل توصيف لمفهوم الأمن القومي من منظور جمال عبد الناصر. إن العلاقة بين دوائر الهويّة في «فلسفة الثورة» لم تكن جامدة أو ثابتة، بل مُتحرّكة وجدليّة: لا تتناقض وشائج الدوائر عنده. يعترف عبد الناصر هنا أن دافع نجدة سوريا هو الذي دفعه إلى تصعيد الموقف المصري لكن يربط من واجب الأخوّة العربيّة (بالمفهوم الناصري الحقيقي الذي يدفعه إلى نجدة الثوّار في مختلف انحاء العالم العربي وليس بمفهوم التدليس الطائفي الخبيث لدى النظام السعودي) وبين الأمن الوطني المصري. عرف عبد الناصر طبيعة العلاقات الدوليّة وعرف طبيعة المعركة التي كان التحالف الإسرائيلي ــ الأميركي يخوضها ضد كل أعداء إسرائيل في العالم العربي. والمرحلة كانت غير ما هي عليه الان: كان التنافس (الحقيقي والمصطنع) يدور بين الأنظمة حول أفضل وأجدى الخطط لمواجهة إسرائيل وتحرير فلسطين. ومعادلة «مَن يبدأ بسوريا يثنّي بمصر» لا تزال سارية اليوم وهو تصلح لتفسير طبيعة التفجيرات والحروب في المنطقة العربيّة. إن الذي يبدأ بسوريا لا بدّ ان يثنّى بمصر، والعكس صحيح. والذي يبدأ بغزة لا بدّ ان يثنّي بلبنان.
ويتحدّث عبد الناصر بصراحة مطلقة عن دوافع إغلاق خليج العقبة فيقول: «ولقد كان مرور علم العدوّ أمام قوّاتنا أمراً لا يُحتمل، فضلاً عن دواع أخرى تتصل بأعز أماني الأمّة العربيّة». تلخّص هذه الجملة مرحلة أُريد لها ان تموت. إن كل الكلام السائد في إعلام النفط والغاز عن السخرية من اللغة الخشبيّة انطلق من قرار بالتطبيع مع العدوّ الإسرائيلي وبدفن كل شعارات وثقافة المرحلة الناصريّة التي أقلقت العدوّ والتي عبّأت أجيالاً عربيّة وأفريقيّة وآسيويّة ضد العدوان الإسرائيلي والإمبرياليّة الأميركيّة. العلَم الذي لم يتق عبد الناصر رؤيته بات يرفرف في المؤتمرات العربيّة وفي العواصم العربيّة وفي المراقص العربيّة. لم تعد رؤيته تزعج الراعي السعودي «للحوار بين الأديان» الذي ضمّ إسرائيليّاً لمركزه في فيينّا، ومن دون اعتراض من الذين كانوا بالأمس يغرّدون ضد «أحفاد القردة والخنازير». انتقل الخطاب السعودي الرسمي (ليس هناك من خطاب خاص في مملكة القهر) من الكراهية المعاديّة لليهود - كيهود، وهي مُستنكرة - إلى خطاب التطبيع المُتنازِل، والذي لم يقض في منهاج العقيدة والتعليم على فكر الكراهية. ما يُسمّى اليوم بالخطاب الخشبي هو الخطاب الذي يعبّر عنه عبد الناصر في هذا الخطاب والذي أخرج الملايين من منازلهم بأثواب النوم مُطالبينه بالعودة عن استقالته (أنا شهدت على ذلك في حيّ المزرعة في بيروت في سن السابعة).
إن مسألة العلَم ليست تفصيليّة او عاطفيّة فقط بل هي تعبير عن رفض لوجود دولة العدوّ. ومن المنطقي ان يؤدّي فكر التطبيع الذي قاد إلى زيارة السادات وتلاها إلى قبول فكرة إسرائيل وإلى اعتبار رفرفة علمها على الأراضي العربيّة مسألة «واقعيّة». وفلسفة الواقعيّة تقابل فكرة المقاومة في التعاطي مع الاحتلال. واجمعت كل الدول العربيّة على الواقعيّة منذ مبادرة الأمير فهد (ومثل كل المبادرات السعوديّة للسلام مع العدو، كانت المبادرة مشروعاً أميركيّاً يحمل اسماً عربيّا-إسلاميّاً لإسباغ الشرعيّة). أما ما يتصل بـ«أعز أماني الأمّة العربيّة» فكان عبد الناصر يتحدّث هنا (وفق خبير الناصريّة، كمال خلف الطويل) عن إزالة آثار العدوان الثلاثي وإحقاق الحق للاجئين الفلسطينيّين عبر تطبيق قرار الأمم المتحدة بشأنه.
وقد سخر صادق جلال العظم، كما سخر غيره، من حديث عبد الناصر عن قوى أخرى وراء العدوّ عندما قال: «هناك قوى أخرى وراء العدوّ، جاءت لتصفّي حساباتها مع حركة القوميّة العربيّة». إن مرور السنوات على هزيمة 1967، ونشر وثائق متعلّقة بتلك الفترة يثبت بما لا يقبل الشكّ ان عبد الناصر لم يكن يبالغ أبداً، وأن الحكومة الأميركيّة كانت وراء العدوان. هذا لا يعفي النظام من عدم التحسّب وسوء التقدير، طبعاً. وعبد الناصر كان مُحقّاً ان قوى الغرب كانت مُصمّمة منذ الخمسينيات على تصفية حساباتها مع النظام المصري. كان عبد الناصر العدوّ عند الإدارات الأميركيّة بمثابة القادة الشيوعيّين، وكان القضاء عليه من أولويّات الإدارات الأميركيّة منذ أيّام الأخويْن دالاس، وقد تكشف السنوات أنه لم يمت ميتة طبيعيّة. والرئيس الأميركي ليندن جونسون كان ينظر إلى الصراع العربي ــ الأميركي بمنظور يجمع بين الفهم الإنجيلي للصراع، وبين تاريخيّة الصراع بين البيض في تكساس وبين المكسيكيّين. هذه كانت حدود معرفة جونسون الذي دشّن لعهد المساعدات العملاقة لدولة العدوّ (والتي فاقت الـ100مليار دولار بمجموعه منذ تلك السنة).
وبالرغم من الهزيمة فإن إصرار عبد الناصر على ترسيخ فكر رفض الاحتلال الإسرائيلي كان عنصر قوّة وساهم في البناء الجدّي للقوة المسلّحة المصريّة إذ يقول: «إن القضاء على الاستعمار في العالم العربي يترك إسرائيل بقواها الذاتيّة، ومهما كانت الظروف ومهما طال المدى، فإن القوى الذاتيّة العربيّة أكثر وأقدر على الفعل». من هنا فإن عبد الناصر وعى لدوره في تبعئة الرأي العالم العربي ضد الاستعمار الغربي لأكثر من سبب. ولقد ثبت بعد وفاته ان الاستعمار كان يتربّص بالنظام المصري من أجل القضاء على عبد الناصر وإنشاء ديكتاتوريّة متحالفة مع العدوّ الإسرائيلي. إن نظام كامب ديفيد ما كان يمكن ان يمرّ لو ان عبد الناصر بقي حيّاً. هناك خطاب لعبد الناصر على «يوتيوب» من عام 1970 وفيه يشرح عبد الناصر رفضه القاطع لأي تسوية مع العدوّ حتى لو تخلّى العدوّ عن كل سيناء. والخطاب المذكور يصل إلى ذروته في قرار عبد الناصر بتحمّل المسؤوليّة «كلها» (لم يكن مشروع خطاب هيكل يتضمّن تحمّل كامل المسؤوليّة من قبل عبد الناصر) عن الهزيمة. هذا القرار كان نادراً، ولا يزال، في السياسة العربيّة. عهدنا بالحكّام العرب انهم يتحمّلون كل المسؤوليّة عن الخير - لو عمّ - ويُحمّلون المسؤوليّة كلّها لأدواتهم عن قراراتهم فيما لو سادت نقمة ضدّها. لكن عبد الناصر لم يكتفِ بتحمّل المسؤوليّة الأدبيّة والأخلاقيّة والسياسيّة والعسكريّة، بل هو تخلّى - وفي عزّ قوّته وشعبيّته - طوعاً عن السلطة. حاول إعلام آل سعود فيما بعد ان يصوّر الاستقالة على أنها مسرحيّة وهناك بين الساداتيّين مَن روّج لفكرة ان المخابرات المصريّة كانت وراء حشد المتظاهرين (في ساعات الليل) لكن من عاش تلك الفترة وشاهد بأم العين الناس تخرج من منازلها غاضبة وتهتف «عبد الناصر يا حبيب، بدنا نحرّر تل أبيب»، يعلم أن استقالة عبد الناصر كانت حقيقيّة وأن المطالبة الشعبيّة بالعودة عنها كانت حقيقيّة أيضاً. طبعاً، إن إصرار الناس على إبقاء عبد الناصر في سدّة المسؤوليّة هو تسليم منها بضرورة ان يُصلح هو ما كان مسؤولاً عنه، من إفساد لنظامه أو تسيّب في وضع خطط عسكريّة وعدم إعداد جدّي. وقد أحسن عبد الناصر في إفهام الجماهير بأن مشكلة الغرب الاستعماري ليست معه هو شخصيّاً وإنما مع مجمل العالم العربي. لكن الأنظمة التي تلت الحقبة الناصريّة دجّنت وطوّعت وقولبت وسيّرت الجماهير العربيّة على مسار مختلف من المسار الذي رسمه جمال عبد الناصر. إن الزمن الأميركي تناقض مع وجود عبد الناصر، وهيمنة المشروع الأميركي تطلّب إزالة عبد الناصر وثقافته وشعاراته من العالم العربي.
أعترف انني في موضع خطاب النكسة أعيدُ النظر. أعترف أنني نشرتُ مقالة عام 1994 في مجلّة «العالم الإسلامي» عن النزعات الجبريّة في خطب عبد الناصر وصدّام بعد الهزائم العسكريّة. وأعترف أنني استشفيّتُ آنذاك ملامح من الجبريّة الجهميّة في الخطاب المصري الرسمي بعد 1967 في محاولة لتسويغ الهزيمة ولإلقاء المسؤوليّة عنها على كاهل «القدر»، الذي لا يغني عنه حذر. وأعترف ان العودة إلى ذلك الخطاب في الأيّام الحاليّة أتاح لي إعادة قراءة متأنيّة مع ان هناك الكثير في الخطاب من الذي لا يمكن الدفاع عنه، مثل:
1) انتقال عبد الناصر من اللوم الصريح لأنظمة الخليج (قبل الهزيمة)، وآل سعود تحديداً، إلى تحييدهم (بعد الهزيمة).
2) الانتقال من تقسيم العالم العربي إلى فئات من الأنظمة إلى فرض توحيد غير منطقي بينهم، والإيحاء أن الاستعمار يستعمل «قسراً» مطارات دول عربيّة.
3) الإفراط في الثناء على الأداء العسكري لجيش تلقّى واحدة من أشنع الهزائم العسكريّة في التاريخ.
4) الإيحاء ان الأنظمة العربيّة متوّحدة ضد العدوان الإسرائيلي.
5) التستّر على التواطؤ الذي شاب تلك الحرب من قِبل حليفه الأردني، وغيره من الأنظمة العربيّة.
6) الإفراط في اختلاق الأعذار لتسويغ الهزيمة العسكريّة.
7) الاعتراف بأن عبد الناصر وضع ثقته ليس فقط بالقيادة السوفياتيّة قبل الحرب لا بل بالحكومة الأميركيّة، وهذه الثقة كانت قاتلة - حرفيّاً - طبعاً.
8) إن مصطلح «إزالة آثار العدوان» كان محدود السقف ومتدنٍّ جداً بالقياس مع شعار تحرير الأراضي العربيّة، وفلسطين تحديداً.
تستطيع ان تخطّئ عبد الناصر على مواقف عدة وقرارات بالنسبة للقضيّة الفلسطينيّة: من وضع «منظمّة التحرير الفلسطينيّة»، لا بل من تأسيسيها، تحت سلطة النظام المصري لقطع الطريق على ظهور حركة مقاومة مستقلّة، إلى القبول بـ«مبادرة روجرز» إلى الموقف المصري الضعيف في «أيلول الأسود» إلى القبول بالقرار 242، لكن تقارن خطاب المرحلة ومواقف النظام الناصري بمواقف المرحلة الحاليّة ومواقف الأنظمة العربيّة فتجد فارقاً مهولاً. العدوان الإسرائيلي على غزة كان عدواناً عربيّاً في جانب منه، شاركت فيه كل الأنظمة، أو تفرّجت - من دون استثناء. الزمن الناصري رفع شعارات كثيرة ويحلو لأبواق آل سعود السخرية منها لكن صحة شعارات تلك المرحلة يثبتُ يوماً بعد يوم. إن خطاب النكسة، أو خطاب التنحّي، يمثّل أرفع نموذج من الخطاب السياسي العربي الحاكم، لا من حيث الصياغة البارعة (وهذا فضل هيكل) وإنما من حيث المصارحة. على عكس ما يُصّور خصومه من المتطفّلين على حاشية أمراء آل سعود، فإن الخطاب الناصري لم يكن مليئاً بالحشو واللغو الذي يتسم به الخطاب الرسمي الخليجي والبعثي والأردني والمغربي. كان الخطاب الناصري أقلّ خشبيّة من كل هؤلاء، وأكثر مصارحة. يكفي عبد الناصر فخراً انه الزعيم العربي الوحيد الذي نال من الشرعيّة الشعبيّة والسياسيّة ما لم يَنله الفائزون بالانتخابات التي تحظى بالرضى الأميركي في عالمنا العربي. لكننا ندخل في مرحلة عربيّة جديدة والعودة إلى الماضي - السحيق او المعاصر - لا تفيد. المهمّة هي في خلق مستقبل ثوري جديد زاهر يجعل من الحنين الى الماضي عقماً.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)