خلال معارك التصدّي للعدوان الإسرائيلي على شعبنا في كلّ مكان حيث ركّزت عدوانها وجرائمها وعمليات التدمير في قطاع غزّة، وخلالها أطلق مسؤولون أميركيون ابتداء من رئيس الولايات المتّحدة، وصولاً إلى الناطقين الرسميين، مدنيين وعسكريين أكثر من 15 مرّة تعبير: «الولايات المتّحدة مستعدّة للتوسط لوقف إطلاق النار».
جاء ذلك بعد سلسلة من بيانات التأييد اللامحدود لجرائم إسرائيل ضدّ شعبنا والتي وصلت إلى حدّ جرائم الإبادة والتدمير الشامل.
وذلك عندما وصلت كمّية المتفجرات التي دوّت في غزّة وقتلت 600 طفل و400 امرأة و200 مسنّ ورجل وجرحت 12000 نسبة الأطفال منهم هي الثلث.
لماذا؟
لأنّ الولايات المتّحدة سعت وتسعى طوال الوقت لإنقاذ إسرائيل وإخراجها من مأزقها، وإبعاد الخطر الكبير الذي بدأ يحيط بها، ليس كقوّة معتدّ بها فقط، بل كمشروع استيطاني استعماريّ توسّعي.
فقد تنامت في الساحة الأميركيّة تحرّكات شعبيّة تطالب بوقف الدعم العسكريّ والماليّ لإسرائيل.
وكذلك في كلّ دولة أوروبيّة خصوصاً انكلترا، وبدأت تدخل إسرائيل في إطار العزلة الدوليّة بعد موقف دول أميركا اللاتينيّة ودول أفريقيا ودول عدم الانحياز.
وأصبحت على حافّة الموقع الذي كان يشغله نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا.
وعلى الصعيد الإقليمي:
أصيبت دول عربيّة حليفة لواشنطن وتنظر لإسرائيل بعين العطف برعب شديد من صمود المقاومة واستبسالها وإمكاناتها، ليس في الصمود وحده، بل بنقل المعركة من غزّة حصراً إلى محيطها المزدحم بالمستوطنات والمستوطنين وإلى مطار بن غوريون، ومحطّات الكهرباء، وأصابت اقتصاد الطفل المدلّل بالشلل.

لم يعد شعبنا يثق
بهذه القيادة التي ساد في عهدها الفساد والنهب


وأصبحت تتراجع عن مباركتها للضربة التي أبلغتهم إسرائيل عن نيتها وارتفعت درجة حرارة الضفّة الغربية رغم أنف الأمن الذي درّبه الجنرال دايتون (لقمع الشعب، ودرّبه على التنسيق الأمني بأوامر رئاسيّة مع الأمن الإسرائيلي – والذي يعني مدّ إسرائيل وأجهزتها الأمنيّة بالمعلومات الميدانيّة عن المقاومين). وهذا الأمر (ارتفاع درجة حرارة الضفّة) كان العامل الأهم الّذي أرعب إسرائيل.
فبين ليلة وضحاها تحوّلت القدس العربيّة إلى أتون ما اضطرّ أجهزة الأمن الإسرائيليّة لإعادة وضع الحواجز والسواتر بين القدس الشرقيّة والقدس الغربية.
وعبّر نتنياهو عن رعبه ورعب إسرائيل في مؤتمره الصحافي الّذي كان مخصّصاً للحديث حول نزع سلاح غزّة ومنع الصواريخ حينما قال: «ماذا سيحصل لو أنّ جنين وطولكرم وقلقيلية امتلكت مثل هذه الأسلحة؟!».
ومحليّاً ارتعبت أميركا وهي تشاهد وتسمع وتلمس أنّ رأس السلطة الّذي راهنت عليه لم يعد صاحب القرار، بل إنّ صنع القرار انتقل إلى الشعب عبر قواه المقاومة للعدوّ وللاحتلال وللعدوان.
أبو مازن كان يستجدي على عتبات العواصم اعتباره صاحب القرار عبثاً، وعندها هبّت إسرائيل وواشنطن للمطالبة بعودة السلطة إلى غزّة.
(السلطة التي لم تنل منهم طوال فترة «التفاوض» إلّا على خوازيق المستوطنات ومصادرة الأراضي وتهويد القدس... الخ).
وكذلك الولايات المتّحدة التي شعرت أنها تفقد حليفاً مطيعاً جدّاً إن هي لم تنقذ أبو مازن والشلّة التي تتحكم بالفلسطينيين ومصيرهم معه!
إذاً الولايات المتّحدة أسهمت بضغوطها لوقف إطلاق النّار من دون شروط، وتمكّنت المقاومة من تخطّي ذلك بفرض ما سمّي «شروط المقاومة»، وهي طلبات عادلة لإعادة الوضع في غزّة إلى ما كان عليه أثناء وجود الرئيس الراحل ياسر عرفات في غزّة.
لكنّ الحسابات واستكشاف الأبعاد لا تستند فقط الى هذا، فالّذي حصل هو أكبر بكثير مما يظنون، وله ترتيبات بعيدة المدى لا يرونها هم بل نراها نحن.
لقد رسّخت نضالات شعبنا ومقاومته لإسرائيل الأمور المهمّة التالية:
أولاً: استمراريّة النضال والمقاومة لتحرير الأرض ورحيل الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينيّة كاملة السيادة وعاصمتها القدس الشريف.
ثانياً: أنّ المقاومة الفلسطينية هي في الطليعة للتصدّي لأحد أعمدة التآمر والعدوان التي يتعرض لها وطننا العربيّ وأمتنا العربية ويستهدف تمزيقها والهيمنة على إماراتها، وإسرائيل هي عمود رئيسيّ في المؤامرة وبناء أدواتها التكفيريّة وتسليحها ودعمها.
(تماماً كما يفعل الضبّاط الإسرائيليون في أوكرانيا الآن، فهم الّذين خطّطوا ودرّبوا لشنّ العدوان التدميري على المناطق الشرقيّة من أوكرانيا، وإسرائيل هي التي خطّطت وموّلت الانقلاب على الشرعيّة في أوكرانيا لتأتي للحكم مجموعة من الصهاينة تدين بالولاء لإسرائيل (أشكناز) ولا عجب إن وجدنا عشرات الجرحى من الجيش الأوكراني يعالجون في مستشفيات إسرائيل). نحن نتصدّى لدولة نظامها عنصري، دولة استعمرت أرضنا وبنت عليها مستعمرات لمهاجرين من أنحاء العالم... فرنسيين وأميركيين ولاتفيين وأوكرانيين، وعرباً من مصر وسوريا والعراق ولبنان والمغرب... ينتمون للدين اليهودي.
نحن نتصدّى للاحتلال والتوسّع الّذي ترتكبه هذه القاعدة العنصريّة الاستعماريّة، ونحن بذلك جزء لا يتجزّأ من قوى المقاومة العربيّة التي تتصدّى لمخطّط تمزيق أمتّنا العربية وتحويلها إلى إمارات خاضعة للصهيونيّة.
هذا هو ما أرعب الولايات المتّحدة وإسرائيل وحلفاءهما في الساحة العربيّة.
هرولوا لإنقاذ إسرائيل عند نقطة تعيدها عن خط اللارجعة. هرولوا لإنقاذ إسرائيل التي كشفت المقاومة البطلة هشاشتها وسرعة تفككّها حتّى بوجود طائرات F-16 والتي ستصبح من دون قيمة عندما تلتحم القوات المعتدية بالقوات المدافعة والمقاومة.
والسؤال هو: كيف تنقذ إسرائيل وما هي خطتها لذلك؟
بعد وقف إطلاق النار، سيفتح مجرى تفاوضي يسوده اللفّ والدوران والمماطلة حول إتمام فكّ الحصار والميناء والمطار.
خلال ذلك ستفتح معركة حول إعادة البناء... (بدأت) وجوهرها السؤال لمن تذهب الأموال لإعادة البناء. فبدا أبو مازن هذه المعركة قبل الأوان ونال على ذلك لوم الأميركيين حينما زلّ لسانه بالقول:
1ــ هنالك حكومة ظلّ في غزّة وهذا ضدّ الوحدة الوطنيّة.
2ــ إن السلطة هي المسؤولة عن إعادة الإعمار في غزّة.
3ـــ إن المساعدات يجب أن تصل للمواطنين ولا تباع في الأسواق متّهماً بذلك ما سمّاه حكومة الظلّ (المقاومة) بالاتجار بالمساعدات الإنسانيّة.
4ــ وتوّج ذلك بقوله إنّ نتنياهو وافق على إقامة دولة في أراضي 1967 وبقي ترسيم الحدود.
وجاء نفي قاطع من نتنياهو لهذه «الكذبة» كما سمّاها رغم أنّ كلام ابو مازن كان المقصود به إنقاذ إسرائيل، لأنّ كلامه لا يعني إطلاقاً إنهاء الاحتلال بل يعني تسليم أجزاء واسعة من الضفّة للإسرائيليين... كيف ذلك؟
يقول أبو مازن: «وافق نتنياهو على إقامة دولة فلسطينيّة على أراضي 1967»، وليس على الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 وإضافته (وبقي ترسيم الحدود)، أيّ أنّ الحدود هي التي يفرضها الأمر الواقع الذي خلقته إسرائيل بقوّة الاحتلال المسلّح وليس تنفيذاً لقرار الشرعيّة الدوليّة 242 والذي ينص على حدود الرابع من حزيران.
لم يعد هنالك مجال لخداع شعبنا تحت عنوان المفاوضات، ولم يعد شعبنا يثق بهذه القيادة التي فرطّت وساد في عهدها الفساد والنهب وجاع المواطنون.
المقاومة الفلسطينيّة أعطت جواباً آخر متناقض مع ما يقوله ابو مازن: «إنّ ما أخذ بالقوّة لن يستردّ بغير القوّة»، قوّة مقاومة الاحتلال، في ظلّ هذه المعركة الجديدة التي فتحها ابو مازن قبل التوقيت المقرر.
يصبح لزاماً على كافّة اطراف اتفاق المصالحة البدء بالتحضير لانتخابات، يشارك فيها كلّ الفلسطينيين داخل الأرض المحتلّة وخارجها ليختار الشعب مجلسه الوطنيّ الجديد ولجنته التنفيذيّة والّتي ستنتخب بدورها رئيساً جديداً لـ م. ت. ف ويلي ذلك انتخاب شعبيّ لرئيس شرعيّ جديد، خصوصاً أنّ الرئيس الحاليّ لا يمكن اعتباره شرعيّاً بعد انتهاء ولايته منذ سنوات.
هذه الانتخابات ستكرّس معاني ومضمون الانتصار وستشكّل حجر أساس لمرحلة مقبلة يفهم معها العدوّ أن السلام لا يمكن أن يكون في تل أبيب والدمار في اراضينا.
العنوان العريض لعمليّة إنقاذ إسرائيل سيكون جرّ السلطة مرّة أخرى إلى مفاوضات لا تجدي سوى إعطاء الوقت لإسرائيل لاستكمال ابتلاع الضفّة الغربيّة وتهويد القدس والخليل.
ولذلك سيسرع جون كيري كما أسرعت كونداليزا رايس (عميلة الصهيونيّة التي قبضت منهم أموالاً طائلة)، لشدّ السلطة نحو طاولة المفاوضات لإضاعة الوقت وإتاحة الفرصة لإسرائيل لتغيير الرأي العام العالمي، وإحكام السيطرة على الضفّة وقمع القوى الوطنيّة فيها.
ولهذا بدأ الرئيس محمود عبّاس بالتطبيل لهذه العمليّة مدّعياً أن نتنياهو وافق على إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة، وكأنه يبرّر سلفاً عودته إلى المتاهة نفسها.
وسينضمّ للرئيس محمود عبّاس بعض الدول العربيّة التي عبّر نتنياهو عن سعادته لاقترابها من إسرائيل خلال عدوانها على قطاع غزّة وقال: إنّ هذا التقارب يشكّل فرصة لإسرائيل لتنمية علاقاتها مع المنطقة!
ولم تخفِ جهات إسرائيليّة عديدة اعتقادها بأن علاقة إسرائيل ببعض دول المنطقة هي أفضل من علاقة السلطة بهذه الدول.
وسوف يحاول الرئيس محمود عبّاس (بالفعل بدأ بذلك) الإمساك بزمام الأمور في قطاع غزّة بحسب ما طلبت الولايات المتّحدة وإسرائيل التي دعت إلى «عودة السلطة إلى قطاع غزّة»، وهي السلطة التي تنسّق معها أمنيّاً في الضفّة، ولم تحصل من إسرائيل إلّا على الخوازيق.
فأعلن الرئيس محمود عبّاس أنّه يرفض وجود «حكومة ظلّ في غزّة»! وأنّ أموال المساعدات يجب أن تمرّ عبر السلطة للمواطنين وكأنّ المواطن لا يعلم شيئاً عن فساد السلطة.
يتحدّث الرئيس عبّاس عن حكومة ظلّ في غزّة، ولا يتحدّث عن قيادة فصائل المقاومة التي كانت صاحبة القرار في السلم والحرب وتصدّت للعدوان الإسرائيلي. ويهاجم عبّاس القيادة التي قادت المواجهة والتصدّي بقوله إنّ حكومة ظلّ في غزّة تتناقض مع الوحدة الوطنيّة. ولكنّ هذا النهج يأتي خدمة لما يريده جون كيري والإدارة الأميركيّة التي تتخبط في سياستها الشرق أوسطيّة كما يتخبّط هاوي الملاكمة أمام المحترفين.
أستطيع القول إنّ الولايات المتّحدة تدرك تماماً مدى النجاحات التي سجّلتها قوى المقاومة في معركة التصدّي للعدوان الإسرائيلي.
فقد ظنّت في البداية أنّ العالم سينخدع بأنّ للإسرائيلي حقّ في ضرب حماس، لكنّ العالم غير المتآمر اكتشف بسرعة أنّ جرائم الحرب ترتكب ضدّ شعب بكامله، وأنّ قوى المقاومة تدافع عن الشعب والوطن.
تماماً كما اكتشفت كوندايزا رايس والسيّدة كلينتون التصاق الشعب بالمقاومة اللبنانيّة التي انتصرت على العدوان الإسرائيلي.
والأمور لا يمكن أن تترك هكذا، والشعب لن يسمح بالعودة إلى سياسات المهادنة المذلّة والتراخي والتهاون والسماح بابتلاع القدس والأرض والماء والسماء.
والولايات المتّحدة تعلم أنّ للقوّة انعكاساً على الميزان السياسي، وهي تسعى إلى منع ذلك بإعادة المفاوضات إلى مجراها العبثي والعدمي كما خاضتها السلطة منذ اغتيال الرئيس ياسر عرفات.
ولذا نخلص إلى القول إنّه من الضروري استمرار نهج المقاومة – أي مقاومة الاحتلال – بالوسائل كافّة ومن الضروري إحداث النقلة التنظيميّة المنسجمة مع هذا التغيير بتغيير جذري في الأطر القيادية عبر انتخابات ديمقراطية.
* قيادي فلسطيني