وكذا استثمار الجو الاقليمي المعبأ ضد الدوحة من ناحية أولى، والمعبأ طائفياً من جهة ثانية لاستمرار قيام سلطات المنامة بعمليات تجنيس واسعة النطاق، بهدف الإخلال بالتركيبة السكانية ذات الغالبية الشيعية التي يعتبرها النظام معادية، ما دامت قطر تحاول تفريغ المنامة من السنة، بحسب الإعلام الرسمي.
ويترافق الأداء الحكومي في موضوعي هجرة السنة وتجنيس الأغراب مع المضي في سحب الجنسيات من المعارضين الشيعة عقاباً لهم على مواقفهم المطالبة بالعدالة وبناء نظام ديمقراطي فاعل.
هجرة البحرينيين إلى الدوحة
تحاول المنامة، مدعومة من الرياض وأبوظبي، حرف الأنظار عن هجرة السنة من البحرين إلى قطر، بإشاعة الحديث عما تسميه قيام الدوحة بتجنيس البحرينيين، فيما الواقع يشير بوضوح إلى وجود أسباب عدة، تدفع السنة، كما الشيعة، للبحث عن أفق أرحب.
لقد تريثت المنامة طويلاً قبل الحديث العلني عن الهجرة السنية، وهو موضوع ليس بالجديد، وإن زادت وتيرته. مع الإشارة إلى أنه منذ الستينيات من القرن الماضي غادر كثير من البحرينيين (سنة وشيعة) إلى بعض دول الخليج الأخرى، خصوصاً الإمارات العربية المتحدة وقطر واستقروا فيها، وحصلوا على الجنسية في حالات كثيرة، هذا إلى جانب هجرات قام بها الشيعة العرب، المعروفين بالبحارنة، والذين يمثلون تاريخياً السكان الأصليين للجزيرة، بموجات متتالية من الهجرة إثر تمكن العتوب من فرض سيطرتهم على البحرين في ١٧٨٣، وقيامهم بانتهاكات لا حصر لها ضد حقوق الإنسان.
لقد اختارت السلطات البحرينية توقيتاً مقصوداً لإثارة هذا الإشكال
دلالات توقيت تفجير القضية
لقد اختارت السلطات البحرينية توقيتاً مقصوداً لإثارة هذا الإشكال المثير للهواجس الشعبية، كما اختارت الحديث عن التجنيس وليس الهجرة.
وقد صدر أول تصريح رسمي عن الهجرة السنية في ١٣ يوليو/ تموز ٢٠١٤، على لسان وزير الخارجية خالد بن أحمد آل خليفة، وذلك في مقابلته مع قناة «روتانا» التي يمتلكها الملياردير السعودي الوليد بن طلال، والذي يعتزم افتتاح قناة «العرب» من مقرها في البحرين.
قال وزير الخارجية في ذاك التصريح «أن الكثير من أبناء البحرين يتم إغراؤه (من قبل قطر) بمنحه الجنسية (بما) يؤثر في استقرار البلد ويفرغه من أهله، والأمر الآخر ان (قطر) تفرق بين أبناء البحرين على أساس مذهبي، إذا كان (المواطن) سنيّاً فالباب مفتوح (للهجرة)، وإذا كان شيعيّاً فالباب أمامه مغلق!».
ويمكن القول إنّ توقيت التصريح المذكور مرتبط بالنزاع السعودي الإماراتي البحريني مع قطر، ولم يسبق أن تمت الإشارة إلى هذه القضية من قبل مسؤول رسمي بحريني أو خليجي. كذلك لم يُشر إلى هذه القضية في البيان الذي أصدرته، في مارس/ آذار ٢٠١٤، الدول الخليجية في تبرير سحب سفرائها من الدوحة.
التصريحات البحرينية الأخرى جاءت على لسان مسؤول الهجرة والجوزات راشد آل خليفة في ٦ أغسطس/ آب ٢٠١٤، الذي جدد الاتهام إلى قطر بإغراء المواطنين السنة، معتبراً ذلك تدخلاً في شؤون البحرين، داعياً قطر إلى مراجعة إجراءاتها، كما هدد السنة بـ«ضرورة الالتزام بأحكام القانون حتى لا يضار أي منهم، وينعكس سلباً على أوضاعهم ومراكزهم القانونية».
وقد صدر هذا التصريح في اليوم نفسه الذي أعلنت فيه سلطات المنامة سحب جنسيات 9 من المعارضين، مُتهمين كالعادة بالإضرار بأمن الدولة.
وبالفعل، فقد تصدّر التصريح بشأن الهجرة إلي قطر نشرات الإخبار، فيما جرى التعاطي مع حدث سحب الجنسية كخبر ثان. وخلال الأسابيع الثلاثة الأخيرة من شهر أغسطس، بدا خبر الهجرة البحرينية للدوحة وكأنه أبرز قضايا الخلاف الثلاثي الخليجي مع قطر.
لقد مضت البحرين في الحديث أكثر عن الموضوع، وتصدر الإعلام السعودي المشهد («الشرق الأوسط» مثلاً)، محاولاً إبراز إشكال الهجرة على أنه إشكال تجنيس، وإشكال خليجي قطري وليس إشكالاً بحرينياً قطرياً، وأن الدوحة تعهدت وقف ذلك، ثم اتضح أن هذه التصريحات لا تتعدى البروباغندا الإعلامية.
دوافع المنامة لإثارة القضية
إثارة المنامة لإشكال الهجرة إلى قطر يعكس جوانب عدة، أبرزها ذلك المتعلق بالخلاف التاريخي بين المنامة (العاصمة البحرينية)، أو قل بين الرفاع (منطقة سكن عائلة آل خليفة الحاكمة) والدوحة، والمشاعر السلبية المتبادلة بين العائلتين الحاكمتين، والذي بلغ مداه منتصف الثمانينيات من القرن الماضي حين دفعت قطر بقواتها إلى فشت «الديبل» رداً على تعزيز البحرين سيطرتها العسكرية على الفشت وجزر أخرى.
ورغم أن الخلاف بين الدوحة والمنامة قد سوي في محكمة العدل الدولية مطلع الألفية، فقد ظل الصراع محتدماً بين الطرفين، لأسباب لا تتعلق إلا بغياب الحكمة لدى سلطات المنامة، والتبعية للرياض في السياسات الخارجية. بمعنى أنه يصعب القول إن برود العلاقات البحرينية القطرية، بل توترها على الدوام، يعود فقط، أو حصراً، إلى النهج السعودي السائد في البحرين، وإنما وأيضاً هو ناتج من الفشل الداخلي والخارجي لنهج الملك حمد، بعد ١٥ عاماً من حكمه. (راجع: ١٥ عاماً من حكم الملك حمد: البحرين في حالة يرثى لها).
ولا يتردد ملك البحرين من التعبير عن ازدرائه لقطر بكلمات تفتقد الكياسة والدبلوماسية، كما عكستها وثائق «ويكيليس»، وتشهدها مجالسه المعلنة.
كما لا تترد المنامة في رمي إشكالاتها الداخلية على الحكام القطريين، بما في ذلك اتهامات غير مسنودة بدعم المعارضة سبقت «الربيع العربي»، حين اعتقل عدد من الناشطين في صيف 2010، اتهمهم ملك البحرين بتنفيذ مؤامرة قطرية، مبرئاً إيران حينها، ثم ما لبث أن أفرج عن المعتقلين تحت ضغوط الاحتشاد العارم في دوار اللؤلؤة (فبراير - مارس ٢٠١١)، وأعاد اعتقالهم بعد فض قوات الجيش البحريني المدعوم سعودياً اعتصام اللؤلؤة بالقوة العسكرية منتصف مارس 2011.
ومع ذلك الموقف القطري المناصر لحكومة البحرين، فإن المنامة تظل تغني لحن العداء نحو الدوحة.
معروف أن قناة «الجزيرة» لا تعط فرصاً للمعارضين لابداء رأيهم، كدليل جلي على مزاج الدوحة السلبي من حدث البحرين الذي يصعب إخفاءه، فيما موقف الدكتور يوسف القرضاوي، أحد الناطقين البارزين باسم السياسة القطرية، واضح في وقوفه ضد المطالب الديمقراطية في البحرين واعتباره الحدث المدوي طائفياً، رغم أن تقرير بسيوني الذي قبله ملك البحرين أقر أن الحدث البحريني كان استلهاماً لما حدث في مصر وتونس وأن أسبابه داخلية وتعود إلى المظالم ضد المواطنين، بما في ذلك المواطنين الشيعة الذي يشتكون من التغييب عن سدة القرار السياسي والاقتصادي والأمني، بل يعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية.
أوضاع السنة
صحيح أنّ السنة أفضل حالاً بكثير من الشيعة في البحرين، بيد أنه مطلوب منهم مقابل ذلك الكثير، مثل غض البصر عن كثير من الأوضاع المزرية، وعلى رأسها التجنيس الذي تفاقم في المناطق السنية ويكاد يغير هويتها على نحو شبه كامل.
وتقوم السلطات بتوطين المجنسين الأغراب في مناطق منعزلة، مثل منطقة سافرة، التي هي مدينة/ غيتو/ معسكر كبير يضم عشرات الآلاف من المجنسين، خصوصاً من البلوش الباكستانيين.
وإضافة إلى الغيتوات المتعددة، تعمل السلطات على تركيز أصحاب الجنسيات الجديدة في المناطق السنية، وبات هؤلاء قوة عددية بالغة التأثير في مدينة حمد مثلاً، بل وفي أحيان كثيرة غالبية عددية واضحة، كما في بعض مناطق البسيتين والحد في جزيرة المحرق، وكذا في قرية الزلاق، التي هي نموذج فج لياسات آل خليفة. فقد تحولت هذه القرية الصغيرة مقرا للمنجسين على حساب ابن البلد، ومحل للاستثمار على حساب السكان، وموخراً تشهد القرية احتجاجات لأنها من دون ساحل، علماً بأن السواحل العامة في البحرين تقدر بنحو ١٤٪، فيما يحتكر آل خليفة وما يسمى المتنفذين، سواحل الجزيرة.
أما الرفاع، وهي تقليدياً المنطقة التي يقطنها آل خليفة، فإن وجود المجنسين فيها كبير وملحوظ، وقد غيّر الملك حمد منطقة سكنه من الرفاع إلى الصخير، حيث بنى قصوراً متعددة.
وتحاط الزلاق والرفاع باستثمارات ضخمة، من فنادق وحلبة البحرين للفورمولا، من دون أن يلمس المواطن تحسناً في وضعه الاقتصادي والمعيشي، ويظل سنوات ينتظر بيت إسكان، فيما تُعطى الأولوية للمجنس الذي يحصل على سكن بمجرد وصوله للبلاد.
لذا، فإنه من السذاجة، بل من السخف الحديث عن إغراء قطري للمهاجرين السنة وتجاهل أحوالهم المثيرة للجدل. ويمكن تصور مشاعر السنة وهي يلاحظون أن الأغراب باتوا أهل الدار.
دوافع الهجرة
قد يكون الوضع الاقتصادي دافعاً للهجرة السنية، وإذا صح ذلك، فإن سببه السياسيات الاقتصادية التي أحالت البلاد مزرعة كبيرة لصالح طبقة صغيرة. لكن معظم المهاجرين في أحوال تكاد تكون ممتازة أو متوسطة، (مثل النائب السلفي المنتخب السابق حمد المنهدي، وشقيقه رئيس بلدي الجنوبية المنتخب علي المهندي، وكلاهما هاجرا إلى قطر).
إلى ذلك، فإن السؤال ذاته ينطبق على عموم الحالة البحرينية. فطالما تساءل بعض العرب: لمَ يثور الناس في بلد نفطي كالبحرين؟ والجواب هو ذاته: لماذا يهاجر السني ووضعه جيد؟ في الواقع، فإن البعد الاقتصادي ليس إلا جانب من القضية الشائكة في البحرين. ولعل غياب الكرامة والعدالة سبباً للانتفاضات الشعبية المتتالية، فيما قد يكون غياب الحظوة سبباً إضافياً لهجرة عوائل تعد مرموقة.
علاقة آل خليفة بالسنة
لقد تحول المجنسون إلى 20٪ من السكان على أقل تقدير، وإذا كان الشيعة قد تناقصت نسبتهم وباتوا في حدود 65٪ كما تعكسها الكتلة الانتخابية التي أدلت بصوتها لجمعية الوفاق في الانتخابات النيابية 2010، فإن السنة البحرينين الأصليين يمكن تقديره نسبتهم بنحو 25٪، ومن المرجع أن هذه النسبة آخذة بالتراجع لمصلحة المجنسين، الذين يلقون دعماً حكومياً مثيراً لغضب السنة والشيعة.
إن علاقة السنة بآل خليفة تظهر أن العائلة الحاكمة لا تثق بالكثير بالسنة بالقدر الذي يُحاول الترويج له، لذا تقوم السلطات بتجنيس الأغراب في المؤسسات الأمنية، وذلك قد يكون من بين أسباب أن سلطات المنامة لم تقدم وعوداً بالنظر في تطلعات السنة المهاجرين إثر نزوحهم المثير للجدل، بل مضت تهديداً ووعيداً، واتهمتم بالخيانة وبالرضوخ للإغواء القطري.
ورغم هذا التناقض الخليفي السني، فإن قدرة المعارضة على استثماره تبدو متواضعة، على الرغم من مضي السلطات في التخلي عن كل شرعية شعبية محلية، وتمسكها أكثر بالمجنسين سنداً، وبالمد الخارجي (السعودي) عوناً، وهذه وصفة كاملة لعدم الاستقرار، وربما وللسقوط المدوي، حين تنفجر فقاعة المجنسين، وفقاعة السعودية.
إن استمرار النهج الحالي البحرين سيزيد من النفوذ السعودي (تم تجنيس نحو ٤٠ ألف سعودي في البحرين)، ويخل بالتوازن الاقليمي الهش، ويحيل البلاد على منصة لعدم الاستقرار في منطقة ما عرفته أصلاً منذ عقود.
كما سيقود الوضع المحتقن في المنامة إلى تنامي الهجرة السنية، والهجرة الشيعية، حيث يوجد المئات من الشيعة العرب كمهاجرين في أوروبا واستراليا وبلدان شرق أوسطية، بما في ذلك بعض دول الخليج والعراق ولبنان وإيران.
أما زج قطر في قضية الهجرة السنية، فلا يعدو أن يكون استثماراً لحالة بحرينية داخلية فاقعة.
* إعلامي بحريني ــ لندن