لعل المتابع المتبصر لما يجري من أحداث مركّزة مكثّفة متلاحقة بشكل غير مسبوق في قلب العالم العربي ودوله الكبرى المؤثرة يكاد يعانده استقراء المنطق السليم، ولايصدق تدفق شلال هذه الأحداث الرهيبة العبثي وسيجد حتماً صعوبةً كبيرة في استيعاب مفاعيلها وتأثيراتها في الواقع الجغرافي والسياسي.
إن الأحداث المتوالية التي قدحت في منطقتنا وراحت تحرق بنيرانها المشتعلة الجميع وتهدد بتغيرات وجودية وكيانية مذهلة تقع بعد سنوات طويلة من نشر مشاريع ومخططات أطلقتها أصوات وأقلام في مراكز بحثية غربية لمستقبل شعوب المنطقة وشكل بلدانها الجديد. لكنها بدت لكل العقول العربية «الكبرى» وقتذاك نوعاً من الأحجيات والطلاسم، صعبة الفهم والتصديق والاستيعاب لدرجة أنها لم تكن قادرة على تفكيكها وإعداد خطط المواجهة المصيرية لها عندما تحين سنوات الحسم.
فلم يُقابل نشرُ خرائط المنطقة الجديدة وإطلاقُ تعابير ومصطلحات وافدة من مثل «الفوضى الخلاقة» أو مشروع «الشرق الأوسط الجديد» إلا بنوعٍ من ثقافة نخبوية ضيقة تشبه إرهاصات توجسات غير ناضجة أو مُدركة وكأنها صنفٌ من الترف الفكري تناولَتها بعضُ النخب من دون أن تكون قادرةً على إيصالها لوعي الجماهير، والعمل على خلق بيئات ممانعة لها، قادرة على تحطيمها وإسقاطها في أوقات المواجهة المصيرية. قوبلت هذه الأصوات القليلة التي تحدثت بخطر هذه المشاريع بهدير ثقافة وجوقة مثقفين «نفطيين» أن هذا كله ليس إلاّ ولعٌ وإيغالٌ في ترويج فكر المؤامرة، وسيطرةٌ له على العقول العربية التي ابتليت بلغة خشبية قديمة لم تغيرها. وبات على الإنسان العربي أن يعطل عقله وأن يتناسى تاريخه القريب والبعيد، وأن ينشط كل غرائزه ليصبح متلقياً «صالحاً» سهل المنال لسيل لا ينتهي من الكذب والتضليل. هذا الفكر النفطي المُستأجر هو ذاته من فرش الطريق لهذه الخطط المدمرة وكان مفكروه أنفسهم من استخدم السيناريو المعدُّ سلفاً لها. وانطلقت بواكير التصنيفات الطائفية والمذهبية، فأصبح عندهم الردُّ على «الفوضى الخلاقة» إعلانَ وجود «هلال شيعي» في المنطقة من قبل ملك الأردن. المعلومة العبقرية الفهلوية التي تغطّست بعوائدِ النفط مراتٍ كثيرةً ولاكتها ألسنةُ طائفية مأجورة من دون كلل أو ملل، وبات الرد على مشروع «شرق أوسط كبير» ومخاضه أثناء حرب تموز 2006 نوعاً من الانخراط مع العدو الصهيوني بالتآمر العلني وما استتبع ذلك من فضائح تزكم الأنوف، بحيث يُعهد بمال عربي بترودولاري لتشكيل مجموعات إسلامية متطرفة لغرض طائفي من أجل قصِّ أجنحة المقاومة وسحق مقدراتها البشرية واللوجستية وضرب البنى الأساسية التي تستند إليها.

يستعاد السيناريو القديم في ضرب الخطر «الشيوعي» بأدواته وبيادقه ذاتها

كما جرى العمل على تشويه سمعة وشيطنة كل من يحارب الكيان الصهيوني أو يحمل هذه الثقافة. وهنا يمكن قراءة الواقع الحالي وتأثيراته الكارثية المتلاحقة في أوراق ووثائق الماضي القريب (تقرير سيمور هيرش 2007 عن تشكيل المجموعات المتطرفة في لبنان وطرق تغذيتها لوضعها وجهاً لوجه أمام المقاومة) وعبر التقارير والبيانات الصادرة عن الإدارات الأميركية ومسؤوليها تكشف ما حدث ويحدث في المنطقة (خطة بوش والمحافظين الجدد لإسقاط سبع دول في المنطقة بدءاً من العراق فسوريا ولبنان وليبيا والسودان واليمن... بحسب ما صرّحَ به كبار رجال الاستخبارات الأميركيين عبر ما دعي نظرية «تساقط قطع الدومينو»). جرى خلال ذلك صرف مبالغ كبيرة لتشويه المقاومة ولشراء ذممٍ للنشر والتعميم والترويج وللتورية والكذب والتضليل بدأت بها الإدارة الأميركية مباشرة بعد حرب تموز 2006، مضافاً إليها الدعم السخي الذي حظيت به المعارضة السورية الخارجية ومجموعات «المجتمع المدني وتشجيع الديمقراطية» في أقطار عربية كثيرة من قبل الإدارة ذاتها.
هاهم العرب مرة أخرى يستعدون لتشكيل جوقة مساندة جديدة، تقرع طبول الحرب وتندفع في الصفوف الأمامية لجحافل المعارك العالمية الكبرى للقضاء على خطر الإرهاب «الإسلامي»، البعض يفعل ذلك مضطراً وبعضهم يفعل ذلك مختاراً، وبعضهم يفعله خاضعاً لأجهزة تحكم وسيطرة خارجية. يستعاد السيناريو القديم في ضرب الخطر الأحمر «الشيوعي» بذات أدواته وبيادقه وبذات الطريقة والأسلوب يتم تشكيل الجبهات المتقاتلة لدفن الصفحات القديمة وتشكيل المصطلحات المواكبة لسيناريو إنهاك المنطقة الجديد. لا يمكن تفتيت الأمة وإضعافها بطريقة أسهل من ذلك، معارك طائفية ومذهبية وعرقية متنوعة. ولكيلا لا يتوه المرء في خضم دخان الحروب المشتعلة والسيولات الجغرافية المذهلة التي تجتاح المنطقة، وبسبب تقارب الجبهات المتقاتلة وتغير بعض التحالفات فقد تجد نفسك في خندق عدو أزليّ لك، تطلب مساعدته من خلف متراسك، بحيث أصبح هذا الخيار متاحاً في المنطقة. وصار الأميركي بفكره موجوداً في ساحات مشتعلة كثيرة من العالم العربي يُطلب منه المساعدة كمخلِّصٍ في الحرب على الإرهاب. لذا يجب أن لا تضِلَ مراكبنا في هذه الأنواء القاسية والطقوس المظلمة، ويجب أن تتجه بوصلتنا نحو جنوب مغناطيسي لا نخطأه عند هبوب العواصف. يجب أن يستبقى مجال واسع لرأي مختلف يرفض رهنَ قسم كبير من عرب المنطقة «السنّة» والتعامل معهم ككتلة صلبة واحدة متطرفة دينياً، تشكل بيئةً حاضنةً لهذه الفكر الديني وتصبح معها المقامرة بهم في حرب مذهبية مُفصّلةٍ أصلاً للمنطقة في دوائر الغرب المعادي أمراً لا يسترعي حفيظة أحد. إن جموع التيار البشري الواسع المُعبِّر عن المناطق الواقعة في شمال وشرق سورية وغرب العراق المأسور حالياً بطبقة متطرفة طافية على سطح التحولات الجديدة، لا يمكن معاملته كقيمةٍ مضافة غير مؤثرة حسابياً في مشهد المواجهة الأخير ونتائج الحرب الكارثية أو اعتباره ضحية مقبولة لقصفٍ أميركي أو لتمترس أفواجِ من المتطرفين بينهم.
إن تفكيك الفكر المتطرف الحالي الذي يغطي الصورة الكاملة في كل العالم العربي وعزله فكرياً وموضوعياً في بيئته، والعمل على إحياء وتنمية فكر معتدل يعبر حقيقةً عن المطالب الوطنية العقلانية المرتبطة بالمصالح الشعبية السنيّة. ويعدُّ باكورةَ الطريق نحو حلٍ موضوعيٍ تجترحه شعوب المنطقة وقياداتها الواعية. إن انخراط حلف المقاومة الكامل ودخوله في حرب مذهبية طائفية في المنطقة يفرض إسقاطاً موضوعياً لكل طاقات الأمة العربية وشعوبها في السيناريو المعادي الذي لطالما حذرنا منه. وبذلك ينجرّ الجميع لحربٍ عبثية يقودها الحمقى والأغبياء والطائفيون وسيسقط فيها مئات الألوف من الأبرياء. وقد تفاجئك ظروف الواقع الميداني للحروب المصيرية فتسقط في خندق العدو وتصبح معه في جبهته كتفاً لكتف وتبدأ بالتصفيق لعدوك القديم (أميركا وتوابعها) وهو يقتل ابن بلدك في صور متلاحقة لقُصُوفاتٍ (جمع قصف) جوية تشبه ألعاب الفيديو والرسوم المتحركة، تحتاج كل صورة وموقعة منها عشرات التحقيقات لكشف مصداقيتها وبراءة أو إجرام الضحايا فيها. لذا يجب عدم الانجرار وراء الأحداث الجارية بمنطق الغرائز الطائفية والرؤوس الساخنة، والبحث السريع عن حلول إبداعية تعيد تحكيم العقل إلى هذه الساحات المليئة بالجنون المذهبي، والعمل على استعادة كل طاقات ومقدرات الأمة العربية والإسلامية، ونفضِ هذا الغبار الطائفي عن ضميرها الراسخ، ومواجهة مؤامرة مشاريع الخرائط الجديدة بخطط توحيد وتشارك لكل الإرادات الواعية والمقاومة في المنطقة بعيداً من اجترار السيناريو الأميركي ومصطلحاته ذاتها.
ــ حوادث و حقائق: 1) صدور القرار 2170 من مجلس الأمن بمكافحة التنظيمات الإرهابية تحت الفصل السابع. 2) الطيران الأميركي يقصف في العراق واليمن وليبيا. 3) أوباما يعلن: سنستمر في الطلعات الجوية فوق العراق و«الدولة الإسلامية» سرطان في المنطقة لا يمكنه أن يعيش فيها. 4) العراق يتسلم 15 مليون قطعة سلاح. 5) الطيران السوري يقصف معاقل المتشددين في الرقة. 6) أميركا تعلن فشل عمليات استخبارتية في سورية لتحرير أسرى ورهائن لدى «الدولة الإسلامية». 7) سقوط مئات الضحايا كلَّ يوم في العراق وسورية وبقية الدول العربية.
* كاتب سوري