إن مراكز الأبحاث (أو ما يسمّى هنا بـ«خزانات الفكر» - على ضحالته) في مدينة واشنطن باتت من المعالم السياحيّة. يصرّ الزوار والسيّاح العرب على رؤية مباني مراكز الأبحاث لعلّهم يلمسون فيضاً من العبقريّة المُفترضة وكأن القرار ينبع من مكاتبها. سركيس نعّوم، بعد أن توقّف عن أسلوبه لسنوات والذي دأب فيه على نقل روايات وخيالات وتحليلات عبد الحليم خدّام، بات ينقل بالحرف آراء وتحليلات لأفراد في مراكز الأبحاث في واشنطن على أنها موثوقة بدرجة توقّعات ميشيل حايك وأترابه من فئة المشعوذين نفسها (الذين يتلقّون عقوبة قطع الرأس في مملكة القهر الوهابيّة السعوديّة إلا إذا كانت توقّعاتهم ملؤها الخير والنعيم لآل سعود).
أفردت صحيفة «نيويورك تايمز» قبل أسبوع مقالة طويلة عن نفوذ أموال دول أجنبيّة على مراكز الأبحاث في مدينة واشنطن (طبعاً، ذكرت الجريدة نفوذ 50 دولة بالاسم باستثناء دولة العدوّ الإسرائيلي، كما لاحظ مُحرّر موقع «موندوفيس»). وتحدّثت عن المال القطري والإماراتي والياباني بصورة خاصّة. وتضمّنت المقالة مثال حالة «مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط» في «أتلانتك كاونسل» الذي أنشأه الطموح، بهاء الحريري. لم يرضَ الحريري بالتسليم الكلّي بتقدّم شقيقه سعد عليه في التمثيل السياسي، فحاول حفر مكان حظوة لنفسه عبر التقرّب من الحكومة الأميركيّة وبالطريق المُعبّدة من الصهاينة. وهل هناك من مكان يدخل يدخل فيه الثري الأجنبي إلى العاصمة السياسيّة إلا بتمويل كرسي أو مركز ما في واشنطن، أو بالاستعانة الباهظة الثمن بشركة علاقات عامّة، أو بالاثنيْن معاً؟ بهاء الحريري أنشأ «مركز رفيق الحريري» كي يتعرّف على صانعي القرار وكي يرتبط بشبكة التأثير الصهيوني في المدينة. اختار صاحبكم بهاء المسؤولة السابقة في وزارة الخارجيّة الأميركيّة، ميشيل دَن، كي تحتلّ أوّل منصب في المركز المذكور (كانت ميشيل المذكورة زميلتي على مقاعد الدراسة ولم تتخصّص في دراسات الشرق الأوسط السياسيّة بل كانت منكبّة على دراسة اللغة العربيّة وآدابها، فأتقنتها وأذكر انها حضرت «سيميناراً» متقدّماً في الشعر العربي مع الأستاذ في جامعة «جورجتاون، عرفان شهيد، الذي لم يكن يسمح لأي طالب باحتلال مقعد في صفّه هذا ما لم يكن قد أتقن اللغة). وعملت ميشيل في وزارة الخارجيّة الأميركيّة من سنوات 1986 حتى 2003 عندما التحقت بمعهد «وقف كارنغي» (الذي مثله مثل معظم مراكز الأبحاث تحوّل باتجاه أكثر يمينيّة في العقد الماضي).

هناك تعتيم كامل
على القمع في دول
الخليج في إعلام وتقارير مراكز الأبحاث

لكن ميشيل اتخذت مواقف قويّة ضد الطاغية السيسي بعد انقلابه، ما أزعج بهاء الحريري (الذي لا يقلّ ولاء وطاعة لآل سعود عن أبيه وشقيقه الأصغر). فاتصل بهاء برئيس «المجلس الأطلسي» وتمّ فجأة من دون سابق إنذار إقصاء ميشيل، واستبدلها بالصهيوني العتيق، فردريك هوف (الذي كان يستقبله ميشال سليمان والرؤساء الثلاثة بالأحضان - لعلّهم ظنّوه «صديق لبنان» - على وزن أصدقاء سوريا من صهاينة واشنطن. علم بهاء أن طريقه إلى قلب واشنطن لتسهيل مستقبله السياسي (غير الواعد) يتحسّن عبر تبنّي صهاينة الليكود، وهكذا كان. القصّة عن بهاء أوردتها «نيويورك تايمز» لتدلّ على قوّة ونفوذ المال السياسي، وكي تطرح طريقة عمل مجالس الأبحاث (لكن القصّة لم تلق اهتمام الإعلام العربي).
هي ظاهرة في مدينة واشنطن الذي يأتي إلى العاصمة للدراسة يذهله العدد الهائل من مراكز الأبحاث (أو «خزّانات الأفكار»، في إشارة إلى مراكز أبحاث تعتمد على تمويل دوري وعلى وقف للإنفاق على عدد من الباحثين والباحثات كي يتفرّغوا - بالإضافة إلى التفكير، الذي لا طاقة لبهاء عليه - إلى الإنتاج والبحث وكتابات الكتب ومقالات الرأي في الصحف الأميركيّة). هناك مراكز أبحاث في اختصاصات مختلفة ومتشعّبة: بعضها عام وبعضها متخصّص في شؤون تفصيليّة. والشركات الكبرى تنشئ مراكز أبحاث تابعة لها للتأثير في النقاش السياسي العام (مثل شركات النفط والتبغ والأدوية وتصنيع الأسلحة). وهناك مراكز أبحاث في مدن أخرى أميركيّة لكن معظمها يتركّز في العاصمة للتأثير في صنّاع القرار. هناك «مؤسّسة هدسون» وهي مؤسّسة محافظة أنشّأها متموّل في نيويورك لكنها انتقلت إلى واشنطن فيما بعد. وهناك «مركز أبحاث كابيتال» الذي يحدّد الأهواء الإيديولوجيّة لمراكز الأبحاث حيث يحصل أقصى اليمين على علامة 8 وأقصى اليسار على علامة 1 (نالت «مؤسّسة هدسون» علامة 7).
ولا يعلم البعض ان مقرّ «مؤسّسة راند» الشهيرة (والتي كانت ضالعة في بحث تاريخ حرب فييتنام والذي تحوّل على يد اليساري المُنشق (عنها)، دانيل إلزبرغ، إلى «أوراق البنتاغون» والتي كانت مرتبطة بفضيحة «ووترغيت») في مدينة «سانتا مونيكا» قرب لوس أنجلوس، لكن لها فرع في العاصمة خصوصاً ان المؤسّسة تتخصّص في وضع دراسات لمصلحة وزارة الدفاع وفروع القوّات المُسلّحة الأميركيّة (هذه المؤسّسة باتت ناشطة في العالم العربي وهي تلّقت عقداً سخيّاً من النظام القطري لتطوير مناهج التعليم فيها). وهناك على الشاطئ الغربي من الولايات المتحدة «مؤسّسة هوفر» وهي من المؤسّسات الرجعيّة التي أُنشأت كمكتبة في الأصل عام 1919 (مُلحقة بجامعة «ستانفورد» قرب مدينة سان فرنسيسكو) وتحوّلت بعد الحرب العالميّة الثانية إلى مركز أبحاث ومكتبة متخصّصة بجمع كل ما يصدر عن الأحزاب الشيوعيّة حول العالم لمكافحتها ولعون الحكومة الأميركيّة في حربها ضد الشيوعيّة. تلقّت تلك المؤسّسة أمولاً طائلة في مهمتها وتعثر فيها على كتيّبات شيوعيّة عربيّة ومجلاّت لا تجدها حتى في مكتبات لبنان الجامعيّة. (احتضنت «مؤسّسة هوفر» الليكودي اللبناني، فؤاد عجمي، في سنواته الأخيرة وهي تحاول ان تتخذ من «الخطر الإسلامي» بديلاً من «الخطر الشيوعي» في مهمتها البحثيّة).
لكن معظم مراكز الأبحاث تتخذ العاصمة واشنطن مقرّاً لها. ومعظم مراكز الأبحاث باتت منبعاً أو مأوى، لخبراء الحكومة الأميركيّة من الحزبيْن. وتستطيع أن تقول إن «أميركان إنتربرايز إنستيتيوت» باتت من الأكثر قوّة ونفوذاً وتطرّفاً بين كل مراكز الأبحاث. ولقد تغيّر دور تلك المؤسّسة المحافظة عبر السنوات: من مؤسّسة لصيقة بالمؤسّسة المتنفّذة في داخل الجناح الشرقي في الحزب الجمهوري في الستينيات والسبعينيات (عندما كانت تحت سيطرة رئيسها، اللبناني الأصل، ويليام بارودي، من عام 1962 إلى عام 1978). وفي عهد ريغان في الثمانينيات، زاد تمويل المؤسّسة وتحوّلت إلى صوت «المحافظين الجدد» المدوّي وقطعت مع الجناح التقليدي (الانعزالي في السياسة الخارجيّة) في الحزب الجمهوري. تحوّلت المؤسّسة إلى «حكومة خبراء الظلّ» في الإدارات الديمقراطيّة، تنتظر فوز الحزب الجمهوري كي تمدّه بالخبراء في شتّى المجالات. وأصبحت المؤسّسة الصوت الإسرائيلي الليكودي النافذ في العاصمة، كما ان خبراءها في السياسة الخارجيّة باتوا الراصد المُدقّق لكل السياسات الديمقراطيّة (بالمناسبة، يقلّد الجهاز الحريري اللبناني هذا الأسلوب، فيعيّن نائباً معيّناً، مثل غازي يوسف، كي يرصد كل ملفّات الفريق الآخر في وزارة معيّنة - الاتصالات في حالة الأخير).
لكن ليست تلك المؤسّسة هي الوحيدة. فهناك مؤسّسة «هيرتج» التي انتعشت هي أيضاً في سنوات ريغان وكانت تضخّ الثقافة السياسيّة بتقارير تنتقد تدخّل الحكومة في السوق، وتساهم في تقليص دور الدولة في الاقتصاد بهدف جذب الحكومة نحو رأسماليّة أكثر صفاء (أو أكثر وحشيّة). صحيح ان هناك مؤسّسات ليبراليّة، مثل «مؤسّسة بروكنغز»، لكن حتى تلك تحوّلت باتجاه أكثر محافظة خصوصاً في السياسة الخارجيّة. وقد لا يعلم البعض ان هناك «مركز أبحاث» يساري في واشنطن، لكن لم يسمع به أحد: «مركز دراسات السياسة» والذي بقي فقيراً وغير مؤثّر لأنه لا يقبل دعماً ماليّاً حكوميّاً، مع ان مؤسّسيْه من خرّيجي إدارة جون كنيدي. (ولقد التقيتُ بالراحل إدوار سعيد للمرّة الأولى في ذلك المركز الذي اتخذ مواقف متقدّمة عن القضيّة الفلسطينيّة وإن بقي على هامش مراكز الأبحاث العملاقة).

يصرّ الزوار العرب
على رؤية مباني مراكز الأبحاث وكأن القرار ينبع
من مكاتبها

كانت «مؤسّسة بروكنغز» من أكثر المؤسّسات الليبراليّة نفوذاً، كما أنها كانت أكثر جرأة في تحدّي اللوبي الصهيوني. نذكر مذكّرة «بروكنغز» الشهيرة عام 1975 عندما أصدر خبراء في الشرق الأوسط (كان بينهم ويليام كوانت ومالكولم كير) بإشراف زبغنيو برجنسكي (الذي أصبح فيما بعد مستشار الأمن القومي في عهد كارتر) تقريراً خرق الحظر السائد عن إقامة كيان فلسطيني مستقلّ (وكان الأكاديمي الفلسطيني، وليد الخالدي، قريباً من المُوقّعين وساهم في حثّهم على المبادرة آنذاك). واعتبر التقرير شجاعاً (بالمقاييس الأميركيّة فقط) إذ أنه تحدّى الإجماع الذي كان هنري كيسنجر قد فرضه على الحكومة الأميركيّة. وأصبحت «بروكنغز» المؤسّسة الديمقراطيّة الليبراليّة التي تجرؤ على مخالفة السياسة الخارجيّة للحزب الديمقراطي في شأن الشرق الأوسط وأميركا اللاتينيّة.
لكن أجواء المؤسّسات العاملة في مجال السياسة الخارجيّة والعامّة تغيّرت في حقبة الثمانينيات عندما أحدث صعود رونالد ريغان تبدّلاً في قيم ومفاهيم الثقافة السياسيّة في أميركا. وكانت هذه، تزامناً، حقبة صعود اللوبي الصهيوني والمسيحيّة الرجعيّة التي أصبحت عنصراً مُكوّناً في الحزب الجمهوري والتي نجحت في إقصاء الجناح الشرقي المُعتدل للحزب. تحوّلت «اميركان إنتربرايز إنستيتيوت» إلى صوت «المحافظين الجديد» في السياسة الخارجيّة، كما أنها احتضنت يمينيّين لا يجدون حرجاً في البوح العنصري بلغة أكاديميّة في السياسات الداخليّة (مثل شارلز موري ودنيش دي سوزا). وظاهرة انتقال العاملين والخبراء من مراكز الأبحاث إلى البيت الأبيض وباقي أجهزة السلطة التنفيذيّة لم تبدأ في عهد ريغان، لكنها تكثّفت وتسارعت في عهده. بات الانتقال من وإلى رشيقاً، كما ان الانتقال من الشركات الكبرى (خصوصاً النفطيّة وتلك التي تصنّع الأسلحة) إلى الوزارات، والعكس، بات منتظماً وفي حكم الحزبيْن. هذا يُسمى هناك بعرف أو تقليد «الباب الدوّار»، من الحكومة وإليها.
لكن اللوبي الصهيوني لم يكن بعيداً أبداً من التغيير في أدوار مراكز الأبحاث. كمنت عبقريّة اللوبي الصهيوني في توزيعه للنفوذ والأدوار وعدم تركيز كل نشاطه على مؤسّسة واحدة. وساعده في ذلك مموّلون إسرائيليّون، بعضهم سارع إلى نيل الجنسيّة (مثل حاييم صابان) كي لا يلفت الأنظار، وكي لا تصدر اتهامات عن نفوذ أجنبي في السياسة الخارجيّة، مع ان دولة العدوّ الإسرائيلي باتت تُعتبر من «حواضر البيت» في العاصمة واشنطن. كان للوبي نشرة دوريّة («نير إيست ريبورت» وعمل فيها الإعلامي في «سي. إن. إن» وولف بلتزر بالإضافة إلى مارتن إنديك وكتب فيها اللبناني، وليد فارس - من النادر ألا تجد لبنانيّاً واحداً على الأقل في كل منتدى صهيوني في أميركا)، كما أن ذراعه البحثي كانت جزءاً منه.
لكن اللوبي اكتشف ان المؤسّسات التي تعنى بدراسة الشرق الأوسط في مدينة واشنطن (مثل «ميدل إيست إنستيتيوت» المحافظة) كانت تعبّر عن آراء المستعربين المتقاعدين المرتبطين بمصالح شركات النفط ودول الخليج التي كانت تموّل مراكزهم - كان ذلك عندما كانت مصالح اللوبي الإسرائيلي متضاربة مع مصالح دول الخليج التي أزعجتها معارضة اللوبي الإسرائيلي لطلباتها من التسليح الأميركي. أنشأ اللوبي الإسرائيلي «مؤسّسة واشنطن لسياسة الشرق الأدنى» في 1985، وأصبحت المؤسّسة أكثر الأصوات بروزاً في الكونغرس وفي الإعلام الأميركي. وأصبح مجلس مستشاريها يضمّ تقريباً كل وزير خارجيّة وكل مستشار أمن قومي في البيت الأبيض. لكن الصعود الدراماتيكي لدور المؤسّسة حدث في عهد بيل كلينتون الذي عيّن رئيس ومؤسّس المؤسّسة المذكورة، الاسترالي السابق، مارتن إنديك، مستشاره لشؤون الشرق الأوسط (وعمل فيما بعد مساعداً لوزير الخارجيّة وسفيراً في تل أبيب). وحرصت المؤسّسة على تجميع ديمقراطيّين (مثل إنديك) وجمهوريّين (مثل دنيس روس) في صفوفها كي لا ينحصر تأثيرها بإدارة واحدة.
لكن اللوبي لم يكتفِ بذلك، بل أراد القضاء على أي معقل لنفوذ غير خاضع له. أتى حاييم صابان وأنفق الملايين على إنشاء ذراع داخل «مؤسّسة بروكنغز» وأقام «مركز صابان» لدراسات الشرق الأوسط داخل المؤسّسة (كنوع من الانقلاب عليها) وأصبحت للوبي ذراعان بحثيّتان مهمّتان في ضخ التقارير والأضاليل والدعاية والحرب النفسيّة لمصلحة العدوّ الإسرائيلي، وحول العالم. من النادر ان تجد تقريراً في صحيفة غربيّة (أو عربيّة) عن الشرق الأوسط من دون إيراد رأي أو تحليل منسوب لخبير في المؤسّستيْن (وحرص المركزان على إنشاء مواقع عربيّة على الإنترنت بهدف ضخ الصهيونيّة في عقول الناشئة العرب). لكن اللوبي لم يكتفِ بذلك، بل فتح قنوات اتصال مع دول الخليج الصديقة والحكومة المصريّة، وكل حلفاء أميركا في العالم العربي. واحتضنت «مؤسّسة واشنطن» وزراء ونوّاباً من لبنان والأردن (حظي وليد جنبلاط بـ«شرف» إلقاء الخطبة الرئيس في مؤتمر لـ«المؤسّسة»)، كما أن الإخوان المسلمين فتحوا قنوات اتصال مع اللوبي الإسرائيلي عبر تلك المؤسّسة لطمأنة العدوّ الإسرائيلي عن حسن نوايا الإخوان نحو إسرائيل (أطلّ عصام العريان وراشد الغنوّشي على منبر «المؤسّسة» في لقاءات بعيدة من الإعلام في بداية عصر الانتفاضات العربيّة). أما «مركز صابان» فقد أقام بالتنسيق مع الحكومة القطريّة (وبتمويلٍ منها) مركزاً رديفاً في قطر من أجل تنسيق السياسات بين صهيونيّة إسرائيل وصهيونيّة سلالات النفط والغاز.
لكن الوهم الأكبر الذي فضحته «نيويورك تايمز» هو وهم ما يُسمّى بالإنكليزيّة «عدم ترابط الخيوط»، بمعنى أن لا تأثير للمُموّل على عمل المؤسّسة المُتلقيّة للتمويل، وهذا محض خيال. عندما تموّل مثلاً أميركا أو أوروبا منظمات غير حكوميّة في لبنان، هل هناك مَن يعتقد (أو تعتقد) ان التمويل سيستمرّ لو أن عضواً واحداً في منظمة متلقيّة عبّر عن تأييد للكفاح المسلّح مع العدوّ الإسرائيلي؟ وعليه، إن المؤسّسات التي تتلقّى تمويلاً في الغرب تعكس توجّهات وسياسات المُموّل، وكلّما زاد حجم التمويل، كلّما زاد تأثير المموّل، على الا تحيد أهواء المُموّل عن سياسات أميركا الصهيونيّة طبعاً - لا يحلم بهاء الحريري مثلنا بتحرير فلسطين. إن اعتراض بهاء الحريري على تعليق ميشيل دَن على طغيان السيسي ليس الاستثناء في أجواء مراكز الدراسات، بل هو القاعدة عينها.
وقد دخلت أنظمة النفط والغاز العربيّة في حقل المؤسّسات ومراكز الأبحاث، لكنها لا تقيم مراكز خاصّة بها (باستثناء الجميّعات العربيّة الأميركيّة التي تحولت بعد غزو العراق في عام 1991 إلى إقطاع لآل سعود، وباستثناء «المؤسّسة العربية ــ الأميركيّة» التي تتلقّى تمويلاً من أولاد زايد في أبو ظبي). لقد أصبح العمل العربي الرسمي في مجال مراكز الأبحاث رديفاً وذيلاً بـ«اللوبي الإسرائيلي». لقد دشّنت القوّات اللبنانيّة في أوائل الثمانينيات هذا التقليد (وتبعهم عرفات وغيره من الحكّام): إن الدخول إلى الكونغرس الأميركي يجب (عند هؤلاء) ان يكون عبر قنوات اللوبي الإسرائيلي (وكان الراحل إدوار سعيد يحثّ عرفات وصحبه على مخاطبة القطاعات الشعبيّة الأميركيّة بدلاً من مخاطبة الصهاينة، لكن تكتيك محمود عبّاس كان يقول بعكس ذلك). كان ألفرد ماضي، ممثّل «القوّات اللبنانيّة» في واشنطن يعمل بالتنسيق مع اللوبي الإسرائيلي، كما عمل معه الجنرال عون في سنوات المنفى، وكما عمل معه - ويعمل - فريق آل الحريري في مدينة واشنطن. ولم تكن استعانة بهاء الحريري بفريدريك هوف إلا من باب طرق باب اللوبي الصهيوني من قبل رجل ذي ثروة وطموح سياسي عائلي.
تهطل الأموال على مراكز الأبحاث في واشنطن بهدف التأثير في سياسات الحكومة. لكن فهم دور مراكز الدراسات مغلوط أو معكوس من قبل الأجانب. ليست مراكز الأبحاث هي التي تصنع القرار، بل إن مراكز القرار تسوّق (لمصلحة الحزبيْن وبحسب المركز المعني) لسياسات الحكومة القائمة، أو لسياسات حكومة الظلّ للحزب الآخر. إن تقارير وآراء مراكز الأبحاث تكون غالباً بتمويل حكومي (محلّي أو أجنبي) وتعكس أهواء ومصالح المموّل. وجدت حكومة الإمارات مثلاً ان الاعتراض الذي واجه عقد «شركة موانئ دبيّ» العالميّة ان هناك حاجة لضخّ مال إماراتي في مراكز الأبحاث في واشنطن من أجل الترويج للسلالة الحاكمة وسياساتها، وهذه ما حصل. تجد اليوم أن هناك تعتيماً كاملاً على القمع في دول الخليج في إعلام وتقارير مراكز الأبحاث، وهناك ثناء عام عن مكافحة النظاميْن في السعوديّة والإمارات للتطرّف والإرهاب - وهذا الثناء ليس مجانيّاً أبداً.
يتطلّب فهم أدوار مراكز الأبحاث استعانة بالبديهيّات الماركسيّة. لا تحرّك السياسات والحروب الأميركيّة أفكاراً مجرّدة تطلع بعد عناء عن اجتماعات لنخب مراكز الأبحاث. تعكس تقارير وأفكار مراكز الأبحاث أموال الحكومة الأميركيّة والحكومات الأجنبيّة والشركات العملاقة التي تمدّها بالتمويل المنتظم. وليس صدفة ان توجّهات تقارير مراكز الأبحاث في العاصمة تتطابق إما مع الحزب الجمهوري أو مع الحزب الديمقراطي، ولا ثالث بينهما. إن البنية الاقتصاديّة هي التي تنتج الفكر الذي يخدم مصالح تلك البنية، أما التقارير فليست إلا تنميقاً اعتذاريّاً عمّا جرى انتهاجه من قبل الإمبراطوريّة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)