في كتابي الذي أنجزته عام 2008 («هذا الجسر العتيق سقوط لبنان المسيحي»، دار النهار) جعلتُ عنوان أحد فصوله «ميشال سليمان آخر الرؤساء الموارنة». وشرحتُ أن ذلك سيكون نتيجة منطقية عام 2014 لما سبق من أحداث. فالشريك المسلم الذي امتطى اتفاق الطائف عام 1989 عمل على نزع صلاحيات المسيحيين في الدولة اللبنانية في التسعينيات، ثم حارب الرئيس إميل لحود الذي أراد إعادة الاعتبار لموقعه. ثم عمل بقوة وخاصة بعد انقلاب «ثورة الأرز» عام 2005 على المجيء برئيس ماروني مطيع يأتي في الدرجة الثانية بعد رئيس الحكومة، وفي وضع أسوأ مما كان عليه الياس الهراوي مع رفيق الحريري، وخاصة بعد خروج سوريا التي كانت تكبح جماح السلطة لدى رئيس الحكومة وراعيته السعودية.
إسقاط موقع الرئاسة المارونية حصل في عهد الرئيس الياس الهرواي عندما سيطر الرئيسان رفيق الحريري ونبيه بري على المشهد السياسي اللبناني ومعهما وليد جنبلاط. لقد كان عهد الهرواي دليلاً ساطعاً على ما ستكون عليه الأمور، أي الاختفاء التام لدور الرئيس الماروني وللدور المسيحي في لبنان، وقد أصبح رئيس الحكومة رفيق الحريري يُحدد اتجاهات الحياة السياسية. حتى أن الهرواي لم يستطع إضافة بند متواضع يهمّه إلى جدول مجلس الوزراء الذي يترأس جلسته هو. وعرقل المسار الانحداري للموارنة مجيء الرئيس إميل لحود الذي أعاد صفة الرئيس الماروني القوي عام 1998. وإذ التزم لحود بموقع وطني وقومي، تصادم مع رفيق الحريري وما يمثله من امتداد اقليمي ومعه حليفه وليد جنبلاط وموارنة السعودية.
منذ التسعينيات بات العمل المطلبي المسيحي يقتصر على الحصول على ضمانات أو حصّة في الدولة أمام صعود السنّة والشيعة. على أساس أن عودة الدولة تفسح المجال أمام المسيحيين لبناء اقتصاد مزدهر والعيش في بحبوحة. ولكن هذا المطلب كان يغفل أن السبب الرئيسي لانهيار الدولة منذ نهاية الستينيات هو تسرّع زعماء الموارنة آنذاك (سليمان فرنجية وكميل شمعون وريمون إدّه مع رئيس الوزراء المتحمّس صائب سلام) في تفكيك الأجهزة الأمنية التي أسّسها الرئيس فؤاد شهاب فانهارت الدولة ووقعت الحرب. وهو خطأ كرّره الموارنة الذين اصطفوا مع تيار المستقبل ضمن معسكر الرابع عشر من آذار عام 2005 في ضرب المؤسسات الأمنية التي بناها الرئيس إميل لحود، واعتقال الضباط الأربعة في آب (اللواء جميل السيد واللواء علي الحاج والعميد ريمون عازار والعميد مصطفى حمدان) ما فضح طلباً خارجياً لاضعاف لبنان واختراقه واسقاط دولته.
تبيّن لاحقاً أن رئاسة
سليمان كانت تفصيلاًً
غير مهمّ في مشهد انقسام البلد

ولم يروا أن لحود والدولة القوية كانا بالضبط هو ما يحفظ الوجود المسيحي القوي في لبنان والمنطقة. لا بل شارك مسيحيو 14 آذار في معركة «فل» ضد لحود لإخراجه بالقوة بعد انسحاب الجيش السوري، حتى يكتمل انقلاب ثورة الأرز. وإذ بعد مغادرة لحود قصر بعبدا منتصف ليل 24 تشرين الثاني 2007، يستيقظ لبنان على كابوس الفراع الرئاسي، وعلى رئيس الحكومة فؤاد السنيورة كرأس السلطة الأول في لبنان بحكم الدستور. وكان وقع هذا الحدث عارماً أدّى إلى تنامي القلق المسيحي على مصير الرئاسة الاولى. وإذ برز ميشال عون كمرشح قوي دُفع اسم قائد الجيش ميشال سليمان كمرشح وسطي. وفيما كان رفض معسكر 14 آذار ضد ترشيح عون كاملاً، إلا أن هذا الفريق على صراخه أيضاً ضد سليمان، بدءاً من سعد الحريري ونوابه، الى جنبلاط وسائر اطراف الأكثرية النيابية وجواب السنيورة على إمكانية ترشيح سليمان: «أقطع يدي ولا أعدّل الدستور». فقد أرادوا مرشحاً من موارنتهم هم يمشي بما يملون عليه.
أمّا الانقلاب في الموقف من ميشال سليمان فقد كان سببه «النقزة المارونية» من الفراغ التي كانت أكبر مما توقّعها «طباخو الفراغ»، بدءاً من السفير الاميركي وسائر 14 آذار لوصول السنيورة إلى رأس الحكم. وزاد الخفقان السلبي الى الحد الأعلى مع «الزيارة البروتوكولية» لـ«فخامة رئيس الجمهورية والحكومة» فؤاد السنيورة إلى بكركي، والتي لم يهضمها الشارع المسيحي، خصوصاً أنّ انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني إلى الرئيس السنّي وفريقه، ولّد شعوراً أن الموارنة فقدوا الموقع الوحيد الذي يعتبرون من خلاله شركاء في الحكم. فكان عبء الفراغ الرئاسي ثقيلاً على «تيار المستقبل» الذي اتهمه الشارع الماروني بالاستيلاء على الرئاسة الاولى. وبالتالي جاء تبني تيار المستقبل سليمان في 2 كانون الأول 2007 لينزع عن فريق الحريري تهمة الاستيلاء على الرئاسة المارونية، ووضع ميشال سليمان في مواجهة المرشّح القوي ميشال عون. وفي 25 أيّار 2008، اجتمع مجلس النواب وانتخب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية.
ولكن تبيّن لاحقاً أن رئاسة سليمان كانت تفصيلاً غير مهم في مشهد انقسام البلد إلى معسكرين الأول بنكهة سنيّة والثاني بنكهة شيعية. وعلى الصعيد المسيحي كان التيار العوني يخوض معركة استرجاع الدور المسيحي الضائع وتحقيق المشاركة المتوازنة بين الطوائف، فيما كانت الأحزاب المسيحية في 14 آذار - «القوّات اللبنانية» و«الوطنيين الأحرار» و«الكتائب» ومعها البطريرك وشخصيات أخرى منشغلة في عمل يومي ضد سوريا و«حزب الله».
وعندما دعا عون إلى إعادة صلاحيات المسيحيين جاءه ردّ حاسم حتى من حلفائه، فالرئيس برّي اعتبر هذه الدعوة «مش وقتها» وليست مطلباً معقولاً، في حين استنكر عمر كرامي كلام عون. وقال: «نسمع دائماً عن صلاحيات رئيس الجمهورية واسترجاعها، وعن حقوق المسيحيين. وأقول صراحة إن هذا الكلام كأن كل المطلوب أن يعود رئيس مجلس الوزراء باش كاتب عند رئيس الجمهورية، وأن تؤخذ كل الصلاحيّات التي اكتُسبت له من خلال اتفاق الطائف. وأقول بكل صراحة إنّ هذا الامر ليس وارداً إطلاقاً، وسيثير مشاعر نحن في غنى عنها... وأجدّد القول إنه ليس وارداً لدى المسلمين السنّة، بكل فئاتهم، معارضة وموالاة، أن يتحول رئيس مجلس الوزراء «باش كاتب» عند أحد».
بات الدور المسيحي في عهد سليمان أداة لترجيح كفة السنة والشيعة. فقيادات السنة والشيعة التي سيطرت على خيوط السلطة في لبنان ادعت الاصغاء للمطالب المسيحية لأنّها تحتاج إليهم (حاجة «حزب الله» إلى تحالفه مع «التيار الوطني الحر» و«تيار المردة» وإلا اصبح ميليشيا شيعية عارية، وحاجة «تيار المستقبل» إلى دعم البطريرك الماروني والأحزاب المسيحية وإلا أصبح تياراً سنيّاً سافراً). ولكن في شتى الأمور التي تبدأ بالانتخابات البرلمانية ولا تنتهي بالملفات الاقليمية والاقتصاد والأمن والإدارة، لم يترجم المسلمون تصريحاتهم نحو دعم الوجود المسيحي إلى أفعال.
وراوح عهد ميشال سليمان مكانه فلم يحقق أي إنجاز يذكر، ولم يستعمل صلاحياته المتواضعة كما فعل إميل لحود ولم يعارض رئيس الوزراء السنّي. أما الملفات والاستحقاقات التي كان يجب أن يلعب فيها دوراً فتسميتها تبدأ ولا تنتهي: إعادة بناء الأجهزة الأمنية، معالجة العلاقة مع سوريا، الاستراتيجية الدفاعية وسلاح «حزب الله»، الأزمة الاقتصادية، الهجرة، المهجرّين، استحقاق الانتخابات الرئاسية 2014، الخ.
ولم يصبح لسليمان شأن في الميدان السياسي إلا بعدما انحاز تماماً منذ 2012 ووقف موقف 14 آذار من «حزب الله» وسوريا، وبات شديد الالتصاق بالخط السعودي. وعندما خرج سليمان من قصر بعبدا في ايار 2014 كان موقع الرئاسة قد وصل إلى الدرك الأخير والوضع المسيحي هشاً إلى درجة أن الفراغ الرئاسي لم يعد يثير أي مشاكل أو يستفز مشاعر زعماء الموارنة.
وإذ كان ميشال عون هو الزعيم الماروني القوي بات خصومه داخل الطائفة أدوات طيعة لدى الاسلام السياسي وبعضهم منشغل في تبرير وصول الأصولية الاسلامية إلى الحكم في سوريا والعراق. أما ميشال سليمان فقد تعزز موقعه في إعلام 14 آذار وباتت شخصيات 14 آذار تزوره في بيته بعد خروجه من القصر، وبات له أكثر من موقف ورأي في شؤون شديدة المحلية تأتي على ذكرها الصحف اليومية. وإذا رغب الملك السعودي التواصل مع لبنان كان له حديث هاتفي مع ميشال سليمان الذي لم تعد له صفة رسمية وعبر سعد الحريري الذي لا صفة رسمية له، وليس عبر قنوات الدولة اللبنانية والرئيس تمام سلام والجهات الحكومية المختصة. فالمطلوب شخصيات وجماعات تابعة وليس دولة ذات سيادة في لبنان.
وتمر الشهور من دون أن ينتخب البرلمان رئيساً جديداً في حين تعطلت مؤسسات الدولة وجدد البرلمان لنفسه وعملت الطبقة السياسية على نسف مهمات الجيش اللبناني الذود عن حدود لبنان.
* أستاذ جامعي ــ كندا