أعلى الأصوات المعارضة لإقرار سلسلة الرتب والرواتب تصدر من أصحاب الأعمال والرأسماليين، الذين يبثّون دعاية تخوّف من اقرار السلسلة، منذرين الشعب اللبناني بكوارث اقتصادية، وتضخّم وغلاء، اذا ما تمّ رفع رواتب الموظّفين والأساتذة. الحرص الذي يبديه هؤلاء على مالية الدولة وموازنتها ليس صادقاً، فعجز الموازنة وأكثر الدين العام هو نتيجة لـ«صفقة» سندات الخزينة، التي أمّنت لهؤلاء المتموّلين مضاعفة ثرواتهم ـــ هم وشركاؤهم الأجانب ـــ على حساب دافع الضرائب.
الحافز الأساسي لاعتراض الرأسماليين هو خوفهم من أن تشكّل السلسلة عامل ضغطٍ في السوق لرفع رواتب موظّفيهم في القطاع الخاص - واستغلال العمّال، اضافة الى استغلال الدولة، يمثّل المصدر الأساس لأرباح المصارف والمؤسسات الكبرى في البلد.
من جهةٍ أخرى، هناك احتجاجاتٌ تُسمع في الأوساط الشعبيّة لا تخلو تماماً من المنطق، تتخوّف من أنّ السلسلة قد تمهّد لخلق «برجوازية دولة» من الضباط والموظفين والأساتذة، يتقاضون رواتب تفوق رواتب الطبقة العاملة؛ ثمّ يضيف هؤلاء أنّ التوظيف في القطاع العام ليس ميداناً تنافسياً مفتوحاً للجميع، بل هو يعتمد في كثير من الأحيان على الواسطة السياسية والمحاصصة، وأنّ انتاج هؤلاء الموظفين وأداء مؤسساتهم لا يبرّر رفع رواتبهم.
في الحقيقة، فإنّ لا شيء يمنع أن ترتبط السلسلة بمعايير جديدة للأداء، وأن يقابل رفع الرواتب اعادة هيكلة للمؤسسات العامّة؛ بل إنّ بلداً صغيراً كلبنان أكثر ما يحتاج الى ادارةٍ حديثة وكفوءة ومستوى تعليمٍ مرتفع (كان، حتى سنوات قليلة، من المميزات النادرة للبلد)، والمواطنون لن يمانعوا رفع رواتب الموظفين اذا ما وجدوا في المقابل ادارة فعّالة ومحترفة وخالية من الفساد، تحفظ حقوقهم وتسيّر شؤونهم بكفاءة وسرعة. هنا، تحديداً، لبّ المشكلة، فالمضمر في النّقاش حول سلسلة الرّتب اعترافٌ مسبق بأنّ شيئاً لن يتغيّر، وأنّ النّخب التي تمسك بالدولة عاجزةٌ عن القيام باصلاحٍ حقيقي، وانّهم لا يملكون خطّة، بل هي صفقات سياسية تتلو صفقات. لا أحد يفكّر اليوم ببناء هياكل حديثة للإدارة والتعليم تنبثق عن رؤى نخبة تكنوقراطية محلية، كما جرى في لبنان في ستينيات القرن الماضي، فموضوع «تحديث الادارة» قد أوكل بالكامل الى البنك الدولي وأشباهه، وقد شهدنا جميعاً نتيجة هذه الجهود.
من هنا أولويّة الاصلاح السياسي، وهو لا يمكن أن يبدأ الّا عبر تعديل النظام الانتخابي (البديل الوحيد هو الانقلاب)، وفي غيابه، سيظلّ المواطن واقعاً بين استغلال الدّولة - عبر الضرائب التي تذهب الى جيوب غيره - واستغلال أرباب العمل، الذين لا يُسمع صوتهم الّا حين يأمرون بقمع العمّال والموظّفين وحبس حقوقهم.