*بعض الحقائق الخاصّة بالحرب في سوريا لا تزال غير مُعلَنة، ولن يستطيع التفاوض الجاري حالياً إخراجها إلى العلن ما دامت أطرافه غير مستعدّة للتنازل عن أوراق يتيحها بالضبط هذا الشكل من التلاعب بالوقائع. أهمّ هذه الأوراق هي الأوضاع الإنسانية التي تستخدمها المعارضة التابعة للسعودية للضغط على النظام في ظلّ عدم القدرة على مجاراته عسكرياً. من حيث المبدأ المعارضة "مُحقّة" في اشتراطها رفع الحصار عن بعض المناطق كمقدّمة لانخراطها في العملية التفاوضية، ولكن حصول هذا الأمر يفترض اعترافاً منها بأنها مسؤولة هي الأخرى عن حصار مناطق غير تلك التي يحاصرها النظام، وعن تعريض سكّان تلك المناطق لأعمال قتل متكرّرة شبيهة بما ترتكبه السلطة وتُحاكَم على أساسه أخلاقياً وحقوقياً. حين يتمّ الاعتراف بحصول ذلك تغدو المسؤولية مشتركة، ويعرف الرأي العام في سوريا وفي غيرها انه يتعامل مع أطراف لا تملك الحصانة الأخلاقية الكافية لادعاء البراءة، وهذا في السياسة يعني الجلوس إلى مائدة التفاوض من دون أوهام أو شمّاعات، وبإرادة حقيقية لحلّ المسائل التي تسبّب بها إقدام كلّ طرف على تحطيم البيئة الاجتماعية للطرف الآخر. هذا يعني أيضاً التخلّي عن المرجعيات المُسبقة التي تحملها معها الأطراف كافّة، بحيث يصبح الاحتكام إلى ما تقتضيه اللحظة التفاوضية فقط، وهو بكلّ تأكيد نقيض لكلّ ما أنتجته أدبيات النظام والمعارضة في الحقبة السابقة.

الانتصار ليس حلاً

بالنسبة إلى السلطة ستكون العملية أصعب قليلاً، فهي بخلاف المعارضة تُحقّق انتصارات ميدانية متتالية، وهذه الانتصارات تُتَرجم تلقائياً في الخطاب المُعلَن لأطرافها، حيث يغلب عليه التشدّد والرغبة المطلقة في الحسم والانتهاء من الحالة التي مثّلتها المعارضة العسكرية طيلة السنوات الفائتة. وهذا في الحقيقة له ما يبرّره من الناحية العسكرية (بكلّ ما يتخلّلها من تحشيد ودعاية سياسية وعدم قدرة على الفصل بين العسكري والسياسي)، ولكن في لحظة الانتقال إلى الفعل السياسي يتغير الأمر تماماً ويصبح "الانتصار العسكري" خاضعاً لدرجات متفاوتة من المساومات. وإزاء ذلك تغدو السلطة مضطرّة ليس للتنازل فقط بل أيضاً لإقناع جمهورها وقواعدها الاجتماعية بأنّ الحسم العسكري في لحظة التفاوض لن يكون بالضرورة مماثلاً لحدوثه على الأرض، وبالتالي عليهم القبول به بشكله الجديد الذي يعني إشراك المعارضة في السلطة وعدم تركها تحت رحمة الميدان، لأنها إن هُزِمت تماماً فلن تكون قادرة على الحضور كطرف، وسينتهي بها الحال إلى الالتحاق إما بالنظام (وهذا مستحيل طبعاً) أو بالمجموعات التكفيرية التي تقاتله. التسوية هنا تحفظ للمعارضة رمزية الحضور سياسياً، ولا تَدَع النظام يستفرد بها أو بالمجموعات الأخرى التي تحظى بتمثيل معيّن داخل المجتمع. وبذلك يكون الإطار قد وُضع للتخفيف من وطأة التقدّم الميداني للسلطة، على أساس أنّ الجميع حينها سيكون مُمثّلاً ومعنياً بالحلّ الذي يضمن حضور الأطراف كافّة، وان لم يكن بشكل متساوٍ نظراً لتقدم السلطة في الميدان وعدم قدرة الآخرين على اللحاق بها.
حين بدأت الاحتجاجات لم تكن الأكثرية الشعبية قد حسمت خيارها بعد


الاحتكام إلى التسوية

بهذا المعنى يصبح التقدّم الميداني خاضعاً لشروط التسوية التي تضمن تمثيل جميع الأطراف بما فيها تلك التي هُزمت عسكرياً، ولم تعد قادرة على إملاء شروطها كما يجب. وتمثيلها هنا لا يُعدّ تنازلاً من السلطة بقدر ما يُعتبر تسليماً من الأخيرة بمرجعية أخرى غير تلك التي أملتها الحرب وشروط القتال، فعندما تكون الحرب وظروفها هي المرجعية تتراجع حظوظ التمثيل السياسي لمختلف الأطراف، وحين ينتهي القتال بانتصار أو بتعادل يحدث العكس، ويبدأ الجميع في البحث عن حلول وسط تضمن "عدالة التمثيل" لكلّ فئة من الفئات التي كانت منخرطة على نحو متفاوت في الصراع وتحطيم البيئات الاجتماعية. لا تعود الفاعلية هنا مرتبطة بالحرب وما تمّ تحصيله منها من مكاسب، بل بالتسوية وقدرتها على تعطيل مفاعيل الصراع العسكري أو التقليل منها، حيث تبدأ مع الانخراط في العملية السياسية معالم أخرى بالظهور، وغالباً ما تكون محصّلتها متعارضة مع مسار الحرب، حتى لو بدا الأمر عكس ذلك في البداية. إذ في الحرب تكون الفاعلية السياسية مرتبطة مباشرةً بمفرزات الميدان ولا تحصل القوى الاجتماعية مهما كانت درجة تمثيلها للشعب على حظوظ مساوية لتلك التي تحظى بها قوى الحرب، ولكن حصول التسوية يسمح بتصحيح هذا الاختلال ويدفع بالقوى التي كانت مهمّشة ميدانياً إلى صلب العمل السياسي، فينشأ عن احتكاكها بالناس والبيئات التي كانت ممنوعة من العمل فيها مسار جديد. هذا المسار قد يكون فرصةً لتصحيح ما أفسدته الحرب في المجتمع، وربما يكون أيضاً سبباً في تكوين مرجعية أخرى غير تلك التي تحظى بها قوى الحرب وممثّلوها في الداخل. في النهاية ستكون للتسوية مرجعياتها وستحظى هذه المرجعيات في ظروف العمل أثناء السلم بحظوظ أكبر من تلك التي حظيت بها قوى مدنية وسلمية أثناء الحرب. وقد يتحوّل عملها إلى عنصر أساسي لاستقطاب الأكثرية الشعبية التي تمّ تهميشها في السنوات السابقة، ولم يُسمح لها بالتعبير عن خياراتها على نحوٍ ملائم.


خيارات الأكثرية

حين بدأت الاحتجاجات لم تكن الأكثرية الشعبية قد حسمت خيارها بعد، وبدا أنها منقسمة بالفعل بين من يؤيّد بشدّة ومن يعارض بشدّة أيضاً. وتطوّرَ هذا الانقسام لاحقاً مع التحوّل الذي طرأ على بنية الاحتجاجات ونقَلَها إلى مرتبة النزاع المسلح بين النظام والمعارضة، فأصبح مفهوم الأكثرية التي تؤيد أو تعارض هنا مبهماً ولم يعد يعرف المرء العدد الفعلي لهؤلاء أو أولئك. لاحقاً، ومع بداية الموجات الأولى للنزوح الداخلي بفعل تدمير السلطة لبيئات المعارضة وحصول العكس أيضاً اختلطت الأوراق أكثر، وازداد مع اختلاطها إبهام فكرة المرجعية السياسية لهذه البيئة أو تلك. وحتى حين أتت مرحلة الهجرة الجماعية والنزوح الكبير باتجاه الغرب بقيت الصورة بالنسبة إلى هوية من يخرج أو انتمائه السياسي غير واضحة كثيراً. إذ لم يكن الخروج خلافاً لما يُشاع لأسباب سياسية فقط، وظلّت الكتلة البشرية التي تخرج محتفظةً بغموضها، فلا هي موالية بالكامل، ولا هي معارضة بالكامل أيضاً. ولذلك فحين يدّعي كلّ طرف من أطراف الأزمة انه يمثل كتلة اجتماعية متجانسة على مائدة التفاوض لا يكون قوله في الحقيقة معبراً عن الواقع الذي أوصلتنا إليه الحرب، ويبقى دائماً في إطار المناورة السياسية التي تحاول الإمساك بكل ما أمكنها من أوراق تفاوضية. ولحدّ الآن لا نعرف إن كانت الكتلة الاجتماعية التي بقيت في البلد تفضّل بالفعل أن تتمثّل بالمرجعيات السياسية التي حضرت في جنيف 3، إذ ليس بالإمكان تقدير ما تريده بالضبط، فصوتها لا يزال خافتاً، وسيظلّ كذلك لفترة طويلة ما دامت ممنوعةً من التعبير عن نفسها في أطر غير تلك التي أنتجتها الحرب. أما ما سيغيّر هذه المعادلة فهو القطيعة إن لم تكن الكاملة فعلى الأقلّ الجزئية مع الأطر تلك، وهذا سيحصل فقط إن تم الاحتكام إلى التسوية كإطار بديل من الحرب، أو "كاستمرار لها" في حالة واحدة فقط هي وجود بديل عن الطرفين المنخرطين فيها حالياً والمهيمنين على نتائجها. حتى الآن ليس ثمّة بديل بهذه المواصفات ولذلك فإن الرهان ليس على استمرار الحرب وان بوتيرة منخفضة بل على القطيعة معها عبر مرجعية التسوية وما يمكن أن تخلقه من إمكانات لانخراط الأكثرية في الفعل السياسي. إذ ذاك وفي شروط أكثر صحّة من القتال تصبح قادرة ليس فقط على إيجاد مرجعياتها الفعلية بل أيضاً على التحرّر من المرجعيات التي أُلحقت بها قسراً في حقبة الحرب.
* كاتب سوري