لا يختلف التدخّل الامبريالي باختلاف الظروف التي ترافق نشأته، ويبقى في كلّ الأحوال تدخّلاً من أجل تدمير توازنات المجتمع ومنعه - في الحالة السورية الراهنة - من انجاز التراكم الضروري لتفادي آثار الحرب. هذا هو «تعريف» العملية التي لم تحصل في العام الماضي بسبب الصفقة الروسية ـ الاميركية لنزع الكيماوي السوري، وهو أيضاً مع اختلاف السياق تعريفها اليوم بعد تغيّر الأولويات بالنسبة إلى الغرب وخروج النظام جزئياً من لائحة اهتماماته المباشرة.
«داعش» بهذا المعنى ليس أولويّة وإنما ذريعة لتوسيع مروحة المواجهة ونقلها من ضفّة إلى أخرى. من ضفّة النظام السوري فقط إلى ضفّة الخصوم الجدد الذين أعانوه على قتال المعارضة المسلّحة التابعة للخليج والفتك ببيئاتها الاجتماعية. في الحالتين بقيت أهداف الغرب هي نفسها، ولم يتغيّر منها إلا ما يجب تغييره وفقاً للظروف وانزياحات الأطراف المتصارعة. ما يهمّ «التحالف» هنا هو الاستفادة من هذه الانزياحات وتوظيفها لمصلحة القوى التي يعاد تأهيلها وتجهيزها لمرحلة «ما بعد داعش». يستلزم هذا الأمر بعض المرونة مع النظام، وبالتالي السماح له بالتمدّد إلى الحدود التي يتيحها الاشتباك الموضعي مع المعارضة المناوئة لداعش. لن يؤثّر ذلك كثيراً في البيئات التي يدعمها الغرب بتمويل خليجي (سعودي وقطري حصراً)، فالتدمير الكامل لها غير متاح (باستثناء ما حصل في المليحة) في ظلّ ما يعانيه النظام من «عجز قتالي». في هذه الحالة تصبح السيطرة النظامية عليها مرهونة برغبة أهلها في التسوية ومنع القتال من التمدّد باتجاه البيئات الأخرى الموالية والحاضنة لمعارضين. عندما يتوقّف هذا التمدّد ويُسمَح للتوازنات التي نشأت قبل حدوثه بأن تأخذ مداها وتحفظ حركة الكتل الاجتماعية داخلها بما في ذلك نشاطها الاقتصادي نعرف بأنّ التدخّل الامبريالي ليس تدخّلاً تماماً أو ليس معنياً فقط بتدمير المجتمع والإخلال بتوازناته الاجتماعية والاقتصادية.

طبيعة التدخّل الامبريالي ومساهمة المتدخّلين

أولاً، أميركا: في الواقع تبدو الأطراف التي تقصف مواقع «داعش» من الجوّ «منسجمة مع نفسها» وأهدافها أكثر بكثير من معارضي الضربة (روسيا، إيران، حزب الله)، فالأميركيون يحاولون استنساخ تجربتهم في باكستان التي كان الهدف الرئيسي منها تحطيم البيئات الاجتماعية المحلّية المناوئة لهم، تحت زعم أنّها تحتضن «طالبان» وتوفّر لأفرادها المأوى والملجأ. قتل المئات في هذه الحرب ولم يقض على «طالبان»، لا بل قويت الحركة من جديد وأصبحت «التسوية» معها ممكنة أكثر من ذي قبل على قاعدة تقاسم النفوذ مع السلطة التابعة للغرب. المجتمع هناك قبل «بالتسوية» لأنّ التدخّل الامبريالي لم يقدّم له شيئاً يذكر على صعيد حياته اليومية، حيث صرفت مئات ملايين الدولارات على الأعمال القتالية التي لم تفض إلى شيء سوى بناء جيش من الشرطة والدرك عديم الفعالية ومترهّل وعاجز عن ضبط حيّ من أحياء كابول كما يجب. أدركت «الأكثرية» في أفغانستان أنّ عقداً كاملاً من الحرب قد ذهب سدى، فمع خروج القوات الأجنبية نهاية هذا العام ستعود الدولة هناك لتعاني من تبعات الاحتلال الذي بخلاف الاستعمار القديم في منطقتنا لم يترك لها شيئاً يمكن البناء عليه واستثماره للمستقبل. طبعاً لن تتكرّر التجربة الأفغانية مع الأميركان هنا بحذافيرها، وخصوصاً مع اقتصار الحملة هذه المّرة على القصف من الجو، إلا أنّ البيئة المحلّية المستهدفة ستعاني من تبعات الحملة تماماً كما عانت البيئات الباكستانية الحدودية مع أفغانستان، إن لم يكن أكثر. المعاناة هذه المرّة ستكون أكبر لأنّ الأهداف مبهمة وغير واضحة، ولكون كلفة التدخّل التي أخرجت أميركا من أفغانستان أصبحت أقلّ بعد دخول سلالات الخليج على الخطّ. عندما يقول البنتاغون وقادة عسكريون أميركيون (وبالأمس ديفيد كاميرون) إنّ التدخّل من الجوّ ضدّ «داعش» سيستمرّ لسنوات فهذا يعني أنّ الاعتمادات المالية ستكون مفتوحة، ولن تقف عند حدّ. من الآن وصاعداً وبسبب الأزمة الاقتصادية التي انعكست على موازنة الدفاع عندهم لن يدفع الأميركيون فلساً واحداً من جيبهم ثمناً لتدخّلاتهم الجويّة، وهذا وحده كاف لإدراك أنّ طبيعة التدخّل ذاتها قد تغيّرت. ألم يشكر أوباما حكّام الخليج في السعودية والإمارات وقطر على مشاركتهم في «التحالف» ويفخر بوجودهم إلى جانبه في هذا الفصل الجديد من الحروب ضدّ ... البيئات المحلية؟
ثانياً، سلالات الخليج: بخلاف السرديات الشائعة عن «الثورة» السورية كان الخليج دائماً في قلب الحدث هنا. مساهمته السلبية والمدمّرة سبقت كلّ المساهمات الأخرى، وخصوصاً لجهة استهداف بنية المجتمع السوري. سأذكّر الجميع بأنّ سلالاته لم تدعم المعارضة هنا لكي تسقط النظام الذي «يزعجها» فقط، وإنما لتقوّض البيئة الاجتماعية العريضة -لا أقصد بيئته المباشرة فحسب - التي كان يعمل من ضمنها هذا الأخير. منذ البداية كان الهدف من آليّة التمويل التي رافقت الاحتجاجات وأطّرتها هو حضّ أفرقاء هذه البيئة على التنازع والاقتتال، ويجب أن ندرك – مجدّداً - أنّ إسهام الخليج وإمّعاته في ذلك كان أكبر بكثير من «جهود» إيران التي بقيت «محصورة» بالإطار الحربي واللوجستي الداعم للنظام في إجهازه الإجرامي على بيئات المعارضة الاجتماعية - ومن ضمنها طبعاً عمليات القتل التي تتحمّل إيران إلى جانب روسيا مسؤولية كبرى عنها - وكما لم تتغيّر أهداف التدخّل الامبريالي مع تغيّر الظروف كذلك الحال مع استراتيجية الأتباع في الخليج. بقي تركيز هؤلاء السفلة منصبّاً على كيفية تحطيم المجتمع السوري بأدوات الحرب، وكلّما أبدى هذا الأخير قدرة على الممانعة ازدادت شراسة حكّام الخليج الأوباش، وتضاعفت رغبتهم في إخضاعه.
بخلاف السرديات الشائعة
عن «الثورة»، كان الخليج دائماً
في قلب الحدث
بعد تركهم الجمعيات الوهابية الخليجية تعمل خارج الإطار الرسمي وتموّل عبر «دعاة» وأشخاص معروفين أعمال «داعش» و»النصرة» ومجازرهما بحقّ السوريين والعراقيين صدر الأمر الأميركي بانضوائهم جميعاً - أي حكّام الخليج - ضمن «التحالف» الذي يفترض به لا أن يقوّض فحسب أعمال «داعش» ويجفّف منابع تمويلها، بل أن يجهز أيضاً على البيئة الاجتماعية التي تحتضنها. في الحقيقة هذه البيئة التي بدأ يسقط لها ضحايا مدنيون جرّاء الغارات الأميركية (أبادت الغارات منذ أيّام عائلة كاملة في ريف ادلب كانت تسكن في بيت من طابقين) لا تؤيّد «داعش» تماماً أو لا تمنحه تأييداً كاملاً، وحتى لو فعلت فهذا ليس مبرِّراً «كافياً» لكي يقصفها الأميركيون ويعيدوا تحطيمها للمرّة الألف بأموال الخليج. في المرّة الماضية جرى تحطيمها جزئياً عبر حصر تمويل أعمال المعارضة بالقنوات الوهابية التي ساعدت النظام أيّما مساعدة في قصف هذه المناطق وتجريفها اجتماعياً واقتصادياً. أمّا الآن فيراد لها أن تندثر بالكامل من خلال القصف الجوي الذي يستهدف «داعش» ومقاره بالطبع، ولكنه لا يستثني البنية التحتية التي تخصّ الناس وأرزاقهم من همجيته. يعرف الخليجيون الأوباش المنضوون ضمن التحالف طبعاً كلفة تدمير آبار النفط الواقعة تحت سيطرة «داعش» في البوكمال ودير الزور والرقّة و...الخ، ولديهم معلومات كافية من خلال شبكاتهم هناك عن مدى استفادة الناس في تلك المناطق من «التبادل التجاري» (شراء النفط من القبائل بعد تكريره بدائياً وبيعه عبر وسطاء لتركيا ودول الجوار الأخرى) الذي يقوم به «داعش» ويوفّر من خلاله سيولة مالية للواقعين تحت سيطرته. لا مشكلة طبعاً في قتل كلّ المسلحين الذين ارتكبوا مجازر بحقّ الناس وفرضوا سيطرتهم عليهم بقوة الحديد والنار ولكن ماذا عن المجتمع الذي استفاد طيلة الفترة الماضية من تجارة النفط، ولم يعد يملك وسيلة غيرها للعيش؟ هل ستطعمه الغارات الأميركية والخليجية؟ أم ستلقي عليه أكياس الأرز والذرة والطحين لقاء تخلّيه عن «احتضان داعش»؟

ضدّ من يتدخّلون بالضبط؟

عندما تتدخّل الامبريالية بهذا الشكل المركّز تسقط السلطة القمعية مهما كان اسمها وتنهار مفاصلها بسهولة كما حصل مع نظام صدام حسين تاركة المجتمع لمصيره. في الرقّة الآن مجتمع بكامله يعيش حالة رعب خوفاً على حياته من الغارات التي لن تستثنيه من تقتيلها. ربما تساعده لاحقاً إذا كان ضررها بالفعل محصوراً برجال «داعش» ومقاره على الانتفاض ضدّ التنظيم وإخراجه من الرقّة كما حاولت قبيلة الشعيطات أن تفعل في دير الزور وفشلت. ولكن من يعلم ما هي حدود «الضرر» المقصود؟ وكيف بالإمكان أصلاً توقّع حدوث «أضرار جانبية» (هكذا تسمّي الامبريالية ضحايا تدخّلاتها العسكرية المحدودة!) في مناطق متداخلة سكّانياً وتمتاز بكثافة بشرية عالية؟
البيئة التي يسيطر عليها «داعش» هناك تكرهه وتنتظر الفرصة المواتية للانقلاب عليه وإخراجه ليس من الرقّة وحدها بل من الجزيرة السورية برمّتها، ولكنها تريد العيش أيضاً، ولا تستطيع البقاء من دون دولة أو جهاز إداري يوفّر لها شروطاً ممكنة للحياة وإدارة مواردها الذاتية. قبل حدوث الضربات كانت هذه البيئة قد تكيّفت مع واقعها وأخذت تبحث عن بدائل لأنماط الإنتاج (زراعة، تجارة تقليدية، صناعات تحويلية... الخ) التي اختفت مع اختفاء الدولة السورية وزوال أجهزتها الادراية والخدمية من هناك. نشأت بفعل هذا الواقع الجديد علاقات «تخادم» مع «داعش» قوامها الاتفاق على استخراج النفط الواقع في أراضي العائلات والقبائل المحلّية وبيعه إلى التنظيم بأسعار تقلّ بكثير من سعره العالمي. الناس هناك يعرفون بأنّ هذه العملية هي التي توسّع إضافة إلى أمور أخرى أعمال «داعش» وتسمح له باستقطاب مقاتلين ينضمّون إلى صفوفه ويذهبون لاحقاً لتقتيل السوريين في الموالاة والمعارضة، غير أنهم لا يملكون رغم معارضتهم لهذا النهج الفاشي شيئاً آخر ليفعلوه. هذه العائلات التي تعدّ بعشرات الألوف ستصبح بعد الضربات الحالية من دون مصدر دخل، هذا إن لم تتعرّض للقتل على نحو مباشر بفعل الضربات الجوية التي لن تستثنيها كما قلنا سابقاً. إذا وضعنا جانباً ما سيحصل «لداعش» ومقاتليها بعد الضربات فانّ الحاصل عملياً هو تحطيم للبيئات الاجتماعية السورية التي تقطن الرقّة ودير الزور والبوكمال و...الخ وحرمانها من «مصادر الدخل» التي حاولت أن تتفادى عبرها آثار الحرب عليها. حتّى الآن لا يوجد تصوّر واضح لما سيحلّ بهذه البيئات بعد تحطيم بنية «داعش» الاقتصادية على إثر استهداف آبار النفط ومصافي التكرير البدائية المحاذية لها. لا يبدو أصلا أنّ ثمّة من يهتمّ بأخبار هؤلاء الناس الذين يدفعون وحدهم كما كلّ البيئات السورية الأخرى ثمن تقلّبات الحرب وانزياحات قواها. الانزياح الأخير سيحصل غالباً على حساب بيئة الجزيرة الاجتماعية، ومن غير المؤكّد أنّ أحداً من السوريين سيستفيد منه. الموالون هنا ومن ورائهم السلطة لهم رأي آخر ربطاً بمعاناتهم المستمرّة من العصابات الوهابية التي هجّرتهم أكثر من مرّة وارتكبت بحقهّم المجازر. يحقّ لهم بالطبع أن يغتبطوا بقصف «داعش» ولكن عليهم في المقابل أن يتابعوا قليلاً تاريخ التدخّلات الامبريالية في العالم. إذا فعلوا ذلك فسيكتشفون أنّ الثمن الذي سيدفعونه لاحقاً لقاء هذا التدخّل لن يكون باهظاً فحسب، وإنما مثيراً للدهشة أيضاً. لا تجعلوا حكّام الخليج الأوباش يقتلونكم مرّتين... أرجوكم.
* كاتب سوري