الحاجز الغائب

تزداد عدوانية الدجاج كلما ضاقت مساحة القفص، وتشتدّ المشاحنات. وقد تدمي الدجاجات الحبيسة بعضها بعضاً. لكنّ هذا وإن كان مبرراً في عالم الدجاج، إلاّ أنّه لا يجب أن يصحّ في حالة البشر. ورغم ذلك، فإنّ المتجوّل في المكان يصارع الدقائق كي يخفي وجوده الحسي في الزحمة لئلا يغرق في دوامة نزاع مروري أو عبثي من دون أي مبرر. وكأنّ اللغة المعتمدة هي لغة العنف بكلّ وجوهها اللفظية والشكلية.

فمن تبادل النظرات الحادة حتى يجبن أحد الطرفين فيغضّ بصره ويتابع سيره، وهذا تقليد متبع في عالم الكلاب وهو كان موضع دراسة موسعة للمختصين بشؤون الكلاب وطرق تعاملها في ما بينها، إلى تضارب المتعاركين بالأيدي والرفس بالأرجل، وبما أمكن، وسط زحمة جمهرة منبهرة بما يجري كما في ساحة صراع الديكة. ثمّ أن المساحات تقسّم على القدر الذي يستطيع أن ينشر فيها كائن ما منطقة نفوذه بقدر ما يلوّث المكان بأفعاله القذرة، وهذه ميّزة في عالم الهررة.
لسنا في حديقة حيوان يا سادة. فهنا تعيش كائنات تكدح نهارا في ظروف من العمل ليست بالضرورة محترمة، ونساء تناضلن من أجل قوت أطفالهن، وشباب وفتيان لا يجدون إلا أن يتجولوا للوصول إلى مدارسهم ومعاهدهم في بؤس المكان وقلة التنظيم. فالظروف أصلا في حالة مزرية، ولا حاجة لتسخيف أكبر لهذا الكائن الذي كان من المفترض أن يكون إنسانا. بالتأكيد لسنا في سويسرا، ولا حتى في قبرص أو اليونان، وليس المطلوب قفزة مدنية من المستحيل أن نحلم بها قبل مئات الأعوام. لكن لا يجب أن يندثر الإنسان السوي، والذي استغرق الكون في صناعته ملايين السنين لكي تحلّ مكانه البدائية والوحشيّة ومجتمعات الغاب. فالأخلاق هي موضع تهديد بالإنقراض في ظلّ السطوة الواضحة للكائنات الأكثر تخلّفاً وجهلاً بأصول الحياة الإجتماعية البشرية.
إنّ خطراً حقيقياً يتهددنا يتجاوز حجمه وأبعاده كل انهياراتنا الإقتصادية والعمرانية والبيئية، وهو خطر العودة إلى ممارسة الغرائز الحيوانية غير المروّضة، في ظلّ أزمة جدليّة العلاقة ما بين آلة الدولة والمجتمع. فالقانون هو الحاجز الذي يمنع تجاوز الأفراد والجماعات للنظم المدنية والإجتماعية السائدة. فلا جدوى من محاولات إصلاحية لن تفلح في تخليص الأجساد التي ينغل فيها الفقر، والأنفس التي تتعرض للذلّ اليومي ودوس الكرامة. يحتاج الأمر إلى إعادة إرساء توازن ما بين الكائن ودولته، وإلاّ كان لزاما علينا أن نواصل اجترار الصورة البشعة التي تطبع علاقة الأفراد في ما بينهم وعلاقتهم ككل بالآخر. فالعبث المتمادي يجرّ إلى نتائج غير محسوبة، وبالتالي إلى انهيارات أكبر تتجاوز حدود التفسّخ والإهتراء.
لا نستحق أن نكون على هذه الصورة، والإعتراف بالحقيقة هو أول الغيث.
اياد المقداد