يستغرب البعض أن نردّد، مع الفيلسوف الراحل جون بودريارد، أنّ «حرب سوريا لم تحصل» وأنّ الحملة الأميركية، ككلّ حربٍ سبقتها، تبدأ على أساسٍ معيّن، ثم تتكشّف عن كذبة ملفوفة داخل كذبة ملفوفة داخل كذبة؛ بدءاً باختراع تنظيم «خراسان»، الذي روّج له الإعلام الأميركي منبّهاً المواطنين من خطره الداهم على الحضارة الغربيّة، فانتقل الرأي العام الأميركي - خلال اقلّ من شهرين - من معارضةٍ كاسحة لأي حربٍ في المنطقة الى تأييدٍ يفوق الـ 70 في المئة للحملة، وان تضمّنت ارسال قوّات برية.
اذا كانت الادارة الأميركيّة لا تتورّع عن خداع الرأي العام في وطنها لغرض تسويق حرب، فلنتخيل مقدار المصداقيّة في الخطاب الموجّه الى شعوبنا. البعض، مع الأسف، يصدّق أنّ الغزو الجديد يؤشّر الى نهاية «داعش»، وأنّ التنظيم الذي لم تتمكّن اميركا من استئصاله حين كان محصوراً في غرب العراق، وكان الجيش الأميركي بقوّاته وقواعده ومطاراته في البلد، سوف تنهيه غاراتٌ عن بعد و«داعش» صار يحكم اقليماً ومدناً وملايين البشر.
علامةٌ فارقة لنجاح الهيمنة هو في أن تتمكّن من تكرار الكذبة نفسها، مرّة بعد مرّة، والنّاس تصدّق. الغارات الأميركية في الأسبوع الماضي بدأت بكشف ما يقبع خلف ستار الدّعاية، وهو أنّ اميركا تخوض ببساطة النمط الوحيد من الحرب الذي تألفه: قهر العدوّ عبر ضرب مجتمعه. اميركا لا تهتمّ بقتل عناصر «داعش»أو تدمير بنيتها العسكريّة، بل إنّ الغارات تهدف الى تدمير الموارد والمؤسسات التي تتيح لـ «داعش» حكم مناطقها ومدّ السكّان بضرورات الحياة، من صوامع الحبوب الى مصافي النّفط، تحت نظريّة أنّ جعل حياة الناس مستحيلة سيوصل الى اسقاط «داعش» - وهي النظرية نفسها التي، بحجّة ازاحة صدّام حسين، دمّرت العراق بلداً وشعباً ومجتمعاً.
من هنا نفهم كلام الزميل ورد كاسوحة، في هذه الصفحات، حول استهداف بنية المجتمع، وهو التوصيف الوحيد الصادق لما يجري في سوريا اليوم. وفق العقيدة الأميركية التي تضرب «المصالح التي يديرها تنظيم داعش»، سيصير كلّ حقل نفط وغاز، وكل ادارة رسمية، وكل معمل، وكلّ مبنى من أكثر من طابقين، هدفاً للغارات الأميركية. هي ليست الّا حرباً مستعرة ضدّ أهل الشرق السوري، الّذين أخذت «الدولة الوطنية» منهم ومن أرضهم كلّ شيء، ولم ينالوا بالمقابل الّا الاستغلال والتخلّي والويل والبلاء.