يرى الموقعون أدناه، الذين لا تربطهم علاقة بأي من المتهمين أو المتضررين المدعين في القضية أو القضايا التي تنظر فيها المحكمة، ويشاركهم في ذلك العديد من اللبنانيين، أن الظلم والضرر اللذين لحقا بلبنان وشعبه نتيجة الإجراءات القضائية التي اتخذها مجلس الأمن، بما فيها إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، إثر اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري وآخرين، يفوقان بما لا يقاس أية عدالة أو خير يمكن أن ينال لبنان وشعبه نتيجة الجهود التي بذلتها أو يمكن أن تبذلها المحكمة مستقبلاً وذلك للأسباب التالية:

وقائع ومسلّمات أساسية

(1 بلوغ العدالة كان المبرر الوحيد لكل الإجراءات القضائية التي قام بها مجلس الأمن، بما فيها المحكمة الخاصة بلبنان، وهو المعيار الذي تقاس به جميع التضحيات المادية والمعنوية التي قدمها الشعب اللبناني ولا يزال جراء إقامة هذه الإجراءات. ونتائج جهود القيّمين على هذه الاجراءات القضائية، بما فيها وظائف المحكمة الخاصة، هي المقياس الذي على اللبنانيين الرجوع إليه في تقييم ما تكبدوه بهدف بلوغ هذه النتائج.
(2 القانون، أكان دولياً أو محلياً، الذي لا يراعى في تطبيقه مبدأ المساواة والابتعاد من ازدواجية المعايير ولا يطبق بثبات واستقامة على جميع الذين يسري عليهم، لا يحقق عدالة ولا يستحق أن يوصف بالقانون وهو يفقد الواجب المعنوي في طاعته لدى أحرار البشر.
(3 جميع المؤسسات العامة في المجتمعات الديمقراطية، بما فيها المحاكم، تخضع لحد أدنى من الشفافية والرقابة القضائية والسياسية والمالية في مراحل عملها كافة. كما تخضع في تقييم عملها إلى الشعب صاحب السيادة في اختيار مؤسسات الحكم وكيفية قيامها بوظائفها، وصاحب الشأن الأساسي في تقدير نتائج أعمالها، وھذا مفقود كليا بالنسبة إلى هذه المحكمة بعد وضعها خارج المساءلة والسيادة اللبنانية.
(4 العدالة هي أولى ضحايا تسييس الإجراءات القضائية. أي أن إقامة لجان تحقيق وأجهزة قضائية بدافع بلوغ أھداف سياسية هي تضليل للعدالة وليس فقط إعاقة لمجراها. إذ لا يعقل أن تكون الإجراءات القضائية التي اتخذت بهدف النيل من أطراف معينين هي الوسيلة الضامنة لكشف المسؤولين عن الأعمال الجرمية ومحاسبتهم.
(5 إن جريمة اغتيال الرئيس الحريري والذين سقطوا معه، وكل الذين سقطوا في الفترة التي أعقبت اغتياله، والذين أدخل التحقيق بشأنهم في ولاية المحكمة، هي جرائم ارتكبت بحق المجتمع اللبناني وتعني الشعب اللبناني حصراً، وليست جرائم ضد المجتمع الدولي. وعليه فالقانون الدولي لا يطبق بشأنها. فعناصر الجرائم الدولية كجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية وسواها، التي كانت ولا تزال المبرر الأساسي لقيام جميع المحاكم الجنائية الدولية الخاصة، لا تتوافر في الجرائم التي تنظر فيها المحكمة الخاصة بلبنان والتي ارتكبت بحق لبنانيين وعلى الأرض اللبنانية. والمجتمع الدولي لم يتحرك إثر وقوعها ولم يطالب بمحاسبة الجناة خلافاً لما حصل حيال الجرائم التي ارتكبت في يوغوسلافيا سابقاً ورواندا وسواهما حيث كان للرأي العام العالمي ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان دور مهم في الضغط على حكوماتها وأصحاب القرار في مجلس الأمن لإقامة محاكم دولية لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي هزت الضمير العالمي آنئذ. وما جعل من جريمة اغتيال الرئيس الحريري ومن سقطوا معه شأناً دوليا هو إرادة بعض الدول النافذة في مجلس الأمن. وعليه تتحمل المحكمة مسؤولية حصرية في إقناع الشعب اللبناني وحده بأنها مصدر عدالة تجمع بين اللبنانيين، لا أداة انقسام تباعد بينهم، وذلك عبر اعتماد شفافية تبدد الشكوك المشروعة التي تراكمت لدى أكثريتهم منذ بدء الإجراءات القضائية.

مصدر الشكوك

اللبنانيون جميعا أيها السادة، كما جميع الشعوب، يتوقون إلى العدالة ومعرفة الحقيقة. لكنهم يتوقعون توافر الضمانات الأساسية لبلوغ العدالة، من تجرد واستقلالية ونزاهة ومساواة في تطبيق القانون لدى منشئي المحكمة وبشكل خاص القيمين على وظائفها.
منذ اغتيال الرئيس الحريري طالب اللبنانيون، من خلال مؤسساتهم الدستورية، بلجنة تحقيق دولية مستقلة، ولكن في ظل السيادة اللبنانية، لمساعدة السلطات اللبنانية على كشف الحقيقة. وقد أجمعوا من خلال ممثليهم في هيئة الحوار الوطني على إقامة محكمة خاصة ذات طابع دولي لمحاكمة المسؤولين عن الأعمال الجرمية التي أودت بحياة الرئيس الحريري ومواطنين آخرين.
ولكن لم يكن في بال أحد أن محكمة كهذه ستسلب لبنان سيادته في تطبيق قوانينه على أرضه وشعبه وستكون أداة انقسام أو تفاقم الانقسام بين أبنائه.
بدأت الشكوك بتجرد القوى الدولية صاحبة القرار في جميع الإجراءات القضائية، بما فيها إنشاء المحكمة، عندما باشرت ھذه القوى إطلاق الاتهامات والأحكام بحق أطراف معينة منذ اللحظة الأولى للاغتيال، وقبل إجراء أي تحقيق أو الحصول على أية أدلة. وإذا أضفنا التصريحات التي كان يدلي بها هؤلاء بشأن المتوقع من المحكمة بعد إنشائها، نرى في ذلك ما يثير الشكوك بأن وراء الإجراءات القضائية التي اتخذت إثر اغتيال الرئيس الحريري، بما فيها المحكمة الخاصة بلبنان، مآرب تتعدى الرغبة في بلوغ العدالة.
تتعزز ھذه الشكوك عندما نلاحظ أن جهود الدول صاحبة القرار في مجلس الأمن تنصب على إقامة محكمة دولية هدفها محاكمة مسؤولين عن جريمة لا تعريف لها متفقاً عليه بين الدول، ولا عقوبة محددة في القانون الدولي، وإنما يطبق في شأنها القانون الوطني حصراً، وذلك استثناء لجميع الحالات السابقة لجهة المحاكم الخاصة التي أنشأها مجلس الأمن في الماضي. ونلفت هنا إلى أن مجلس الأمن لو أحال الجريمة على المحكمة الجنائية الدولية لردتها لعدم الاختصاص، لأنها ليست من الجرائم الدولية الواردة في النظام الأساسي للمحكمة. في حين نرى مجلس الأمن
يتجاهل مجرد التحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية موثقة، وتقع بطبيعتها في صلب القانون الدولي الجنائي، ارتكبتها إسرائيل بحق آلاف اللبنانيين في فترة تلت الاغتيال وسبقت إنشاء المحكمة، أي في عام 2006. لا بل إن مجلس الأمن لم يتدخل لوقف ھذه الجرائم، وهي الوظيفة التي من أجلها وجد.
لأول مرة (ومن المستبعد جداً أن تتكرر)، يلجأ مجلس الأمن إلى الفصل السابع من الميثاق الأممي لإنشاء محكمة أساسها القانوني اتفاقية غير مستوفية الشروط الدستورية لإبرامها، إن لجانب الجهة الصالحة للتفاوض بشأنها، أو لجهة الموافقة عليها من قبل السلطة التشريعية، كما ينص عليه الدستور للدولة التي هي الطرف الأساسي في هذه الاتفاقية. ولا ننسى الدور الذي لعبه المفاوض الأممي في الاتفاقية التي هي الأساس القانوني للمحكمة، بتهميش السلطة الدستورية المخولة التفاوض بشأن الاتفاقيات الدولية وعدم الأخذ بأي من اقتراحاتها، وكذلك الضرب عرض الحائط بالسلطة التشريعية المسؤولة دستوريا عن الموافقة على الاتفاقيات الدولية وإبرامها، فضلاً عن تعميق الخلاف بين اللبنانيين عبر الأخذ برغبة طرف وتجاھل الآخر، ما أدى إلى استقالة عدد من الوزراء في الحكومة ودخول لبنان في أزمة سياسية لا تزال آثارها تتفاعل حتى يومنا هذا .
تتحمل المحكمة مسؤولية الإقناع بأنها مصدر عدالة تجمع بين اللبنانيين

ولأول مرة يقيم مجلس الأمن محكمة بموجب الفصل السابع لا تنظر في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية تعتبر تهديدا للسلم العالمي. وكانت الحجة في اللجوء إلى هذا الفصل عدم توافر الشروط الدستورية لإبرام الإتفاقية التي هي الأساس القانوني للمحكمة الخاصة بلبنان، وكأن مراعاة أحكام الدستور اللبناني تشكل تهديدا خطيرا للسلم العالمي.
ولأول مرة يلجأ مجلس الأمن إلى الفصل السابع في إقامة محكمة لا تمّول من الموازنة العامة للأمم المتحدة بل تتولى تمويلها، بالإضافة إلى لبنان الذي يتحمل القسم الأكبر من التمويل، دول في طليعتها صاحبة الجهد الأكبر في إنشاء المحكمة، ما يطرح علامة استفهام إضافية حول مبررات قيام المحكمة واستقلالها.
كیف لعاقل أن يفوته التساؤل حول مبرر الجهود الاستثنائية من قبل بعض الدول، وفي طليعتها الولايات المتحدة، والتي دفعت مجلس الأمن إلى الخروج على قواعد التزمها طوال عقود في إنشاء المحاكم الدولية، وعلى قواعد ثابتة في القانون الدولي العام. فالجريمة هي بالدرجة الأولى ضد الشعب اللبناني ولا تعني المجتمع الدولي إلا بصورة ثانوية جداً. ولا يمكن القول إن ضغوطاً شعبية على الصعيد الوطني لهذه الدول أو على الصعيد العالمي، حتمت اتخاذ هذه الإجراءات القضائية، كما حصل أثناء المجازر في يوغوسلافيا سابقا ورواندا وسوھا من الدول.
أوجه الشبه عديدة بين اغتيال الرئيس الحريري واغتيال بنازير بوتو، رئيسة وزراء باكستان سابقا، لكن اغتيالها لم يلق اهتماماً مماثلا من قبل مجلس الأمن الدولي.
لسس الهدف هنا الإسترسال في تقدسم الأدلة على أن الدوافع الأساسسة وراء إنشاء المحكمة سساسسة. فما جاء ذكره أعلاه ھو غيض من فيض، لكنه لا يسمح لعاقل بأن يتصور أن بلوغ العدالة هو هدف الدول صاحبة القرار في مجلس الأمن، بالنسبة إلى كل الإجراءات القانونية التي اتخذت بشأن اغيال الرئيس الحريري ومن سقطوا معه أو اغتيلوا من بعده.
كان يمكن للبنانيين الاطمئنان إلى أن مآرب صناع المحكمة الدولية لن سكون لها تأثسر في مجرى العدالة التي ستولاها محققون وقضاة دوليون يتمتعون بالكفاءة والنزاهة والاستقلال. لكن شكوك معظمهم تعمقت وثقتهم بالإجراءات القضائية التي أقرھا مجلس الأمن بدأت تتداعى مع ظهور الأخطاء التي شابت عملية التحقيق، والفضائح التي بدأت تتكشف منذ بداية عمل لجنة التحقيق الدولية التي ورثت المحكمة ما قامت به من تحقيقات. فتجاوز اللجنة، برئاسة ديتليف مليس، مبدأ سرية التحقيق وهو من أسس قواعد التحقيق الجنائي في الأنظمة القانونية كافة ومنها القانون اللبناني الملزم للجنة، إن لجهة الإعلان عن أسماء الشهود ومحتوى شهاداتهم، أو لجهة نشر استنتاجات قطعية لجهة الفاعلين فيما التحقيق في مراحله الأولى، فضلاً عن التسريبات التي كانت توظف لبلوغ أھداف سياسية واضحة، أثار شكوك العديد من اللبنانيين باستقلالية التحقيق ومهنيته. ثم التوظيف السياسي لسجن أربعة من كبار الضباط لمدة أربع سنوات بناء على شهادات زور، وما تكشف في ما بعد من خلال وثائق نشرتها ويكيليكس عن علاقة رئيس لجنة التحقيق الذي أصبح المدعي العام في المحكمة الخاصة بأطراف خارجية وببعض السياسيين اللبنانيين في ما يتعلق بالتوظيف السياسي لسجن الضباط وإعاقة إخلاء سبيلهم.
لكم أن تتصوروا أيها السادة كيف ينظر المواطن اللبناني الذي ينشد العدالة إلى محكمة ورثت شوائب تحقيقات لجنة التحقیق وآخر رؤسائها الذي تبوأ وظيفة المدعي العام الأول لدى المحكمة ومواقفه في منع الأدلة عن ضحايا شهود الزور التي تمكنهم من معرفة من تسبب في سجنهم سنوات أربع من دون وجه حق، وكيف سينظر إلى محكمة استنكفت عن النظر في مسألة شهود الزور، ولكنها لم تتردد في وضع وتبّني إجراءات، مشكوك في قانونيتها، عمدت بموجبها إلى ملاحقة وسائل إعلامية لبنانية لنشرها أسماء شهود سّربها موظفون أو متعاقدون مع المحكمة.
ولكم أن تقدروا كيف سينظر إلى عدالة محكمة تتغاضى عن جميع التسريبات في صحف ووسائط إعلامیة أجنبية، وضاق صدرها من وسائط إعلامية لبنانية هي النافذة الأخيرة التي يراقب من خلالها هذا المواطن كيفية قيام المحكمة ببعض مهماتها بعد أن حرم من سيادته وحقه في مراقبة المؤسسات المولجة تطبيق القوانين التي اختارها لترعى حياته ومساءلة القيّمين عليها.

مفاعيل الإجراءات القضائية وشعور اللبنانيين

إن وقع الإجراءات القضائية التي قررها مجلس الأمن على المجتمع اللبناني، وبعد مرور سبع سنوات على إنشاء محكمة تكبّد لبنان من أجلها أعباء مالية مرهقة، ليس لها أية نتائج إيجابية، في حين أن الآثار السلبية تكاد لا تحصى.
فخلال السنوات التسع التي أعقبت اغتيال الرئيس الحريري، شهد اللبنانيون وعانوا من تدخل سافر من قبل مجلس الأمن في شؤونهم الداخلیة، خلافاً للمبادئ التي تقوم عليها الأمم المتحدة، وھو تدخل زاد الخلاف بين اللبنانيين. كما عانوا من سلوك الدول المقتدرة في مجلس الأمن وازدواجية معاييرھا، وازدرائها بمفهوم العدالة الدولية وتسخيرها المنظمة الدولية لمآرب لا تمت إلى العدالة بصلة.
وإضافة إلى سلوك ومخالفات لجنة التحقيق لبديهيات التحقيق الجنائي وزجها بأبرياء في السجن لسنوات، جاءت المحكمة لترفض القيام بما يتوقعه منها الشعب اللبناني، وھو إحقاق الحق بالنسبة للذين ظلموا وعانوا من اتهامات باطلة وسجن غير مبرر، واتخذت إجراءات غير مألوفة في التحقيق والمحاكمات الجنائية لدى الدول صاحبة الأنظمة القانونية الأكثر عراقة وتطوراً، كالشهود والمخبرين السريين، واعتمدتها وسيلة لحرمان اللبنانيين من حقهم في مراقبة أعمالها وتقييم التزامها المعايير التي تؤمن بلوغ العدالة، وقد ساهم ذلك كله في تشويه وتدمير الصورة التي كانت في وجدان اللبنانيين للعدالة الدولية.
لذلك، عندما أجرى مركز بيروت للأبحاث والمعلومات استطلاعاً لرأي اللبنانيين، في تموز2011 فور صدور القرار الاتهامي للمحكمة، اعتمد خلاله منهجية تلحظ التوزع الطائفي والمناطقي، كانت النتيجة أن غالبية اللبنانيين لا ثقة لها بالمحكمة كمصدر للعدالة. فأبدى ما يزيد على 60% عدم ثقة باستقلالية المحكمة، ورأى 70% أن على المحكمة التحقيق في ملف شهود الزور قبل المحاكمة. واعتبر 63.5% أن تسريب القرار الاتهامي منذ سنتين لوسائل الإعلام الغربية والعربية يضع صدقية المحكمة موضع شك. كما أن 54% من اللبنانيين اعتبروا أن القوى المؤيدة للمحكمة تسعى الى تحقيق مكاسب سياسية. وتبيّن أن 13.8% فقط من اللبنانيين يعتبرون أن لسوريا و/ أو حزب الله مصلحة بارتكاب الجريمة، بينما نسبة 55.8% رأت أن إسرائيل و/ أو أميركا صاحبة مصلحة باغتيال الحريري. وكذلك رأى 60.5% من اللبنانيين أن مّدعي عام المحكمة لم يتعامل بمهنية مع القرائن التي قدمها السيد حسن نصر الله والتي يمكن أن تفيد التحقيق في معرفة الجهة التي تقف وراء اغتيال الرئيس الحريري.
قد يجادل البعض بدقة هذه النسب وديمومتها، بالرغم من أنه من المستبعد أن تكون النسب المذكورة قد تبدلت مع الزمن لصالح عدالة المحكمة، خصوصاً بعد إصرارها على النيل من حرية الإعلام اللبناني في مراقبة عملها وعقم جهودھا بصورة عامة، اللهم إلا في ما يتعلق بتعميق الخلاف بين اللبنانين. ولكن ما لا يجوز التغاضي عنه هو أن أكثرية اللبنانيين لا تعتبر المحكمة مصدراً موثوقاً لتحقيق العدالة. وقد تأكد ذلك في الاستطلاع الذي أجراه المركز نفسه أوائل حزيران 2014 حيث تبيّن أن 62% من اللبنانيين لا يثقون بعدالة المحكمة. إن المضي في محاكمات غيابية غير مسموح بها في نظام المحكمة الجنائية الدولية، وهي الأولى من نوعها من قبل المحاكم الجنائية الدولية التي أنشأها مجلس الأمن، وإصدار المحكمة نتيجة تحقيقات أجريت في الظلام وفي منأى عن رقابة الشعب صاحب الشأن، وجمع أدلة من قبل شهود ومخبرين سريين، لن يكون له الوقع المرتجى وسيزيد انقسام اللبنانيين. وهو لن يحقق الهدف المنشود باطمئنان اللبنانيين إلى تحقق العدالة من خلال تحقيق توافرت فيه الكفاءة والنزاهة والموضوعیة والاستقلال، حتى في حال الاطمئنان الكلي لمهنیة وكفاءة واستقلال
القيّمين على المحاكمات الوجاهية، وهذا أمر مشكوك فيه أيضا بالنسبة لشرائح واسعة من الشعب اللبناني، لأن المحاكمات بطبيعتها تنصب على نتائج التحقيق من وقائع وأدلة ولا تستطيع المحكمة تجاوزها. أي أن المحاكمات العلنية بطبيعتها تنحصر في قبول أو رفض الوقائع والأدلة التي هي نتائج عمل المحققين. فإن قبلت وثبّتت المحكمة وقائع وأدلة واستنتاجات ما قّدم المحققون، تكون قد قبلت وتبنت ما لا ثقة لغالبية اللبنانيين بصحته ويعتبرونه صناعة من يريد بلوغ مآرب سياسية لا تمت إلى الحقيقة أو العدالة بصلة. وإن رفضت الوقائع والأدلة، ربما يكون القضاة قد نجحوا في إنقاذ سمعتهم ومهنيتهم ورفع الظلم عن متهمین أبرياء، إلا أنه لن يكشف أو ينال من المجرمين الفعليين ومن يقف وراءھم، ومن قاموا بتضليل العدالة وإلحاق الخزي بسمعة العدالة الدولية عن طريق تسييس الإجراءات القضائية. ولن يدفع ذلك إلى مساءلة الذين زرعوا ونموا بذور الخلاف بين اللبنانيين لسنوات طويلة.
السؤال الواجب طرحه الآن ھو: ما الذي يجب القيام به، وبشكل ملح، خدمة للعدالة وللمصلحة الوطنية اللبنانية؟ الجواب المنطقي يكمن في إدراك العلة وتصحيح الخطأ الأساس الذي أوصل إلى هذه النتائج.
يرى الموقعون أدناه أن الخطأ الذي ارتكب من قبل المسؤولين اللبنانيين بالدرجة الأولى ومن بعض الدول المقتدرة في مجلس الأمن، يبدو أن لها مصلحة في تضليل العدالة وتجذير الفرقة بين اللبنانيين، هو تعطيل السيادة اللبنانية بإبعاد الرقابة اللبنانية عن أعمال المحكمة وإجراءات التحقيق بالدرجة الأولى. إن أرحم ما يمكن قوله بشأن المسؤولين اللبنانيين الذين قبلوا، وبعضهم طلب التخلي عن السيادة اللبنانية، ھو جهل مطبق لمعنى السيادة. فالسيادة في جوهرها هي الاستئثار بالحكم الذاتي وممارسة الحق في تبني القوانين والمؤسسات التي يختارها شعب لترعى حياته على أرضه. وهي الوجه الأتم لحرية هذا الشعب واستقلاله، وكيفية ممارسته لسيادته، أي مدى قبوله ورضاه عن كيفية تطبيق القوانين وإدارة المؤسسات التي هي من اختياره، ومن أهم مقاييس الشرعية في الحكم.
والأعذار التي قدمها مسؤولون لبنانيون من ادعاء عجز القضاء اللبناني عن القيام بالتحقيق والمحاكمة في مثل هذه القضية، وعجز الدولة اللبنانية عن القيام بواجباتها الأمنية لتمكين القضاء من القيام بمهماته، هي من نوع العذر الأقبح من الذنب. فقد لجأ هؤلاء إلى تشويه سمعة القضاء اللبناني الذي أثبت جدارته في ظروف عدة منها قيامه بالتحقيق وبمحاكمة من اغتال رئيس وزراء سابقاً، ھو الرئيس رشيد كرامي، الذي لا يقل أھمية عن الرئيس الحريري، وأظهر في ذلك كفاءة وجدارة.
فأية دولة في العالم تعتبر أن لها الحق بالاستقلال وبأن تعامل من قبل الدول الأخرى كدولة سيدة مستقلة تعلن عجزها عن تطبيق قوانينها على أرضها، وعن تأمين الأمن لشعبها بهدف التخلي عن سيادتها وتحقيق مآرب لا مصلحة للوطن أو الشعب فيها. الدول التي يعي مسؤولوھا معنى السيادة تخوض الحروب وتتكبد الآلاف من الضحايا دفاعا عن سيادتها.
إن التخلي عن السيادة اللبنانية في مراقبة الإجراءات القضائية في الجرائم التي تنظر فيها المحكمة ھو مكمن العلة بالنسبة لجميع العقبات التي تعترض تحقيق العدالة واستعادة الألفة بين اللبنانيين بالإضافة إلى استعادة شعورهم كشعب سيد حرّ باستطاعته أن ينشد العدالة ويحققها وأن يحمي مصالحه من أي تدخل أجنبي أو مآرب خارجية.
ولن يكون هناك تغلب على هذه العقبات وعلاج للعلّة الأساس سوى باستعادة السيادة اللبنانية وجعل جميع الأدلة وإجراءات التحقيق والمحاكمة خاضعة لرقابة قضاة وحقوقيين لبنانيين تجمعهم نزاهة وكفاءة ورغبة في تحقيق العدالة. إن استعادة السيادة هي الضمانة الوحيدة لاستعادة مصداقية الإجراءات القضائية. وجميع اليدعاءات حول أهداف ستتحقق من خلال إقامة المحكمة الدولية من خلق رادع للاغتيالات السياسية، إلى مساعدة القضاء اللبناني والمساهمة في خلق ثقافة المساءلة وحكم القانون، جميعها لا يقبلها المنطق وينفيها الواقع على الأرض.
فكيف لحكم صادر عن محكمة أجنبية لا علاقة لها بالجهاز القضائي أو الأمني اللبناني أن يكون رادعا لاغتيالات في المستقبل مهما حاولنا إقناع الشعب اللبناني بأن ھذا الحكم منزّه عن الأغراض السياسية؟ فالاغتيالات السياسية استمرت حتى إبان فترة عمل المحكمة ومن المستبعد أن تتوقف إلا نتيجة قيام الدولة اللبنانية بمسؤولياتها الأمنية والقضائية، وھذا أمر من الصعب تحقيقه مع تعطيل سيادة الدولة في الاستئثار بتطبيق قوانينها وحماية مواطنيها جميعا. ثم يود اللبنانيون أن يعلموا كيف للمحكمة الخاصة أن تساعد في ترسيخ حكم القانون وفرض احترام الحقوق والحريات الأساسية في لبنان من خلال قراراتها؟
تعلمون أيها السادة أن بناء الثقافات القانونية والاجتماعية ھو مسؤولية داخلية. ولا شك في أنكم تعلمون كذلك أنه بناء على الخبرة التي اكتسبها المجتمع الدولي من تجارب المحاكم الجنائية الدولية الخاصة منذ الحرب العالمية الثانية والنجاح المحدود لها، تتجه الجهود إلى التركيز على مساعدة الدول والمجتمعات المحلية ومّدها بالامكانيات الفنية والمادية لتمكينها من القيام بوظائفها القضائية لأنها الطريقة الأنجع في خلق ثقافة حكم القانون واحترام الحقوق والحريات الأساسية**.
وإذا كان الهدف هو إصلاح الجهاز القضائي أو الأمني، فإن تكريس ما يتكبده لبنان من تكاليف المحكمة الخاصة لسنة واحدة، كفيل بتحقيق أوسع مشاريع الإصلاح القضائي والأمني. وإذا كان الهدف ھو تحقيق عدالة يطمئن إليها اللبنانيون، فلا بد من التركيز، وبشكل فوري، على تعديل للاتفاقية الدولية المنشئة للمحكمة بما يضمن أولا إضفاء شرعية قانونية على الاتفاقية وثانياً استعادة السيادة اللبنانية على عمل المحكمة بشكل يشعر معه اللبنانيون أن جميع الأدلة والإجراءات الضامنة لأحكام عادلة اطمأن لها ممثلون أكفاء للشعب اللبناني بأجمعه. وإن تعذر ذلك فإنهاء عمل المحكمة الخاصة وتحويل ملفاتها ونتائج تحقيقاتها إلى القضاء اللبناني والكف عن إيقاع الظلم وتضليل العدالة وتبديد الموارد المالية اللبنانية والعمل على تعميق وتوسيع الهوة بين اللبنانيين.
* المقصود بالقيّمين في العنوان جميع المسؤولين عن إنشاء وتمويل ورعاية ورقابة أعمال المحكمة والقائمين بوظائفها ويشمل ذلك مسؤولين لبنانيين ودوليين.
** David A. Kaye, “Justice Beyond Hague: Supporting the Prosecutions of International Crimes in National Courts”, Council
of Foreign Relations Report # 61 (June 2011).

للإطلاع على لائحة الموقعون ، انقر هنا