هزمت الأحزاب الإسلامية الشيعية المؤتلفة في «التحالف الوطني» المهيمن على حكم المحاصصة هزيمة سياسية وعسكرية واجتماعية قاسية، في حرب ليس فيها منتصر ولن يكون. وتسببت في سلسلة من المجازر المستمرة ومنها «سبايكر» و«سجن بادوش» و«الصقلاوية» و«السجر» وغيرها، ولهذا ينبغي عليها أن ترحل وتفكك لعبة الدم المسماة «العملية السياسية» القائمة على المحاصصة الطائفية.
إنْ شئنا الدقة، فهذا النظام هزم تماماً منذ سنواته الأولى، وقبل أن يُنْشِب ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» أنيابه في ضحاياه خلال الأشهر الأخيرة، وللتذكير، فداعش وسلفها القاعدة لم يسقطا من سماء زرقاء قبل يوم أو يومين، فعمرهما من عمر العملية السياسية في هذا النظام، ولكنها المكابرة والعناد والحرص على المكتسبات والامتيازات هو ما منع الحاكمين حتى الآن من الاعتراف بالهزيمة المدوية ولذلك فهذه العملية تقتات اليوم على اللحم الحي للعراقيين، مدنيين وعسكريين.
هذه الدولة تفتقر إلى الشعار الجمهوري والنشيد الوطني والعلم الوطني

لا حل حقيقياً في الأفق لهذه المعضلة والأزمة الوطنية الشاملة، وما هذه الترقيعات والتنازلات المحسوبة التي يقدمها زعماء «التحالف الوطني/ الشيعية» للشركاء من ممثلي الطوائف والإثنيات الأخرى بعد ترحيل المالكي وتنصيب العبادي إلا مسكنات بائسة لا تنفع في علاج سرطان التطرف الديني والطائفي السائد وتراكم الأحقاد والتداعيات الخطيرة المترتبة على هذه المجازر بل هي تقود إلى مزيد من النكبات والمصائب على العراق المهدد بالتفتت والتلاشي وعلى العراقيين بجميع مكوناتهم بسبب تشبث هذه الأحزاب وخصومها بالسلطة، وإهمال أهم بوابة للحل ألا وهي إعادة كتابة الدستور المكتوب في ظل الاحتلال وإنهاء حكم ودولة المكونات «الطوائف» وإرساء حكم ودولة المواطنة، وكل ما عدا هذا خبط عشواء وسفك لمزيد من دماء العراقيين.
ندرك جيداً أن هذه الدعوة إلى رحيل الأحزاب الإسلامية الشيعية وخصومها المماثلين لها تكوينياً من الميدان هي أشبه ما تكون بدعوة مصاب بمرض عضال إلى الانتحار، فالأحزاب والفئات المنتفعة من حكم ودولة المحاصصة لن تنتحر من تلقاء ذاتها ولن تستسلم طوعاً لحكم التاريخ وهنا يكمن المأزق الخطير.
غير أن البعض قد يتساءل: هل يمكن التعويل على يقظة ضمائر لدى عناصر مؤثرة في قمة السلطات؟ وهل يمكن أن تحدث انتفاضة واسعة على مستوى الشارع العراقي فتكنس هذا الحكم الأسود؟
كل هذه الأسئلة هي من النوع الرغبوي الإرادوي والذي يسقط الرغبات والإرادات الذاتية على واقع شديد التأزم والتفسخ في آن، ولذلك فمن العبث إطالة الوقوف عندها. ولكن، ولهذا السبب بالتحديد، وكحد أدنى يجب على مناهضي هذا الحكم الساعين لدرء كوارثه عدم التوقف عن تذكير المهزومين بهزيمتهم ودعوتهم للرحيل وتفكيك اللعبة الدامية المجنونة التي جاء بها الاحتلال الأميركي، وهذا أضعف الإيمان في الوقت الحاضر.
إن حكم ممثلي الطوائف المتعادين والمتنافسين سواء كان بقيادة الأحزاب الشيعية أو السنية أو الكردية لن تقضي على عصابات القتل والتطرف في «داعش» أو «بعث الدوري» أو غير ذلك من مسميات، بل هي سبب مركزي من أسباب وجود وتضخم هذه الكيانات المسلحة الوحشية، أما الدولة الممكنة والقادرة فعلياً على هزيمة المسلحين التكفيريين من كل لون وطائفة واستئصال جذورهم والحفاظ على وحدة العراق وإنقاذ شعبه من المجازر فهي دولة المواطنة الديمقراطية التي لا مكان فيها للطائفية السياسية وللأحزاب والمليشيات الدينية.
إن ما يقال عن استحالة إنقاذ ما سمي بالعملية السياسية من داخلها، وعن طبيعة الأزمة الاجتماعية والسياسية والأمنية الشاملة التي تلف العراق لا ينطلق من وجهات نظر ذاتية «ايديولوجية» معادية، أو من موقف سياسي علمانوي، كما قد يحلو للبعض القول، بل هو نتاج طبيعي لآليات اشتغال التركيبة الاجتماعية العراقية العميقة مدلل عليه بالأمثلة والنتائج والوقائع الدامية على الأرض. إذْ إن مجتمعاً منقسماً من الناحية التكوينية طائفياً وقومياً إلى مكونات عدة كالمجتمع العراقي لا يمكن أن يتواءم وينسجم مع نظام حكم تهيمن فيه طائفة واحدة حتى إذا جاء هذا الحكم عبر صناديق الانتخابات في لعبة يسميها بعضهم بخفة «العملية الديموقراطية». فمن غير الممكن أن تقبل المكونات الأخرى وخصوصاً تلك التي هيمنت على الحكم لعقود عدة بهيمنة مكون آخر، إذْ إن منطق الحساب الرياضي المجرد ليس هو كل شيء، بل هو ليس الشيء الأهم في عالم الاجتماع والسياسة والتاريخ.
وهكذا، فإن هيمنة الأحزاب الإسلامية الشيعية اليوم هي في حقيقتها وواقعها هيمنة «الشيعية السياسية» على الدولة والمجتمع وبالتالي فهي حكم و«هيمنة» وجهة نظر مجتمعية واحدة متقاطعة ومختلفة مع وجهات نظر المكونات الأخرى. صحيح أن العملية السياسية القائمة على المحاصصة تضمن للعرب السنة وللأكراد حصة من السلطات والمؤسسات تقارب نسبة المكونين المعنيين السكانية ولكن أي مكون لن يرضى عن نسبته تلك مهما أبدى ممثلو المكون الأكبر من سخاء واعتدال، وتحديداً في ظل غياب إحصاء رسمي للسكان في البلاد، يتردد الجميع في إجرائه، وفي ظل تراكمات تاريخية تضغط على الواقع الراهن بكل ثقلها، وفي ظل عدم وجود اندماج مجتمعي حقيقي ما جعل المجتمع أشبه بالجزر الاجتماعية المنعزلة والمتخندقة والتي يتربص زعماء أحزابها ومليشياتها بعضهم بالبعض.
إن هيمنة «الشيعية السياسية» الصريحة اليوم على السلطة لا تختلف من حيث الجوهر عن هيمنة «السُنية السياسية» غير الصريحة في الماضي إلا في الدرجة وليس في النوع. لقد حكم العراق الحديث منذ تأسيسه عام 1921 وحتى عام 2003 ثلاثة ملوك وخمسة رؤساء كلهم من العرب السنة، غير أن هذا الحكم لم يكن طائفياً سُنياً بشكل صريح. وهذا أمر يمكن فهمه والتدليل عليه بسهولة فممثلو الأقلية الطائفية إحصائياً هنا، أي العرب السنة، حرصوا دائماً على إظهار حكمهم بمظهر لا طائفي كأن يكون ملكياً دستورياً أو قومياً عروبياً أو غير ذلك، ولأن المجتمع العراقي يفتقد إلى تراث عريق من الاحتراب أو العداء الطائفي الكثيف والعنيف تاريخياً فقد سهَّل كل ذلك عملية استيعاب هذا الحكم سواء في عهده الملكي أو الجمهوري بسلاسة ودون هزات طائفية عنيفة، غير أن واقع الحال، بعد عام 2003، تغير بشكل جذري، وكان الاحتلال الأميركي حينها حريصاً على غرس هذا النموذج التجزيئي الصريح في الحكم كمقدمة لتجزئة المجتمع ومن ثم البلاد ككل لاحقاً، وما يحدث اليوم هو من ثمرات هذا الحرص المحسوب والمخطط له بدهاء.
إن الدعوة للأخذ بنظام حكم قائم على الانتخابات والتعددية السياسية ليس هو الديمقراطية كما يشتهي البعض أن يُنَظِّر، فإقامة نظام حكم ديمقراطي قائم على المواطنة والمساواة لجماعة سكانية مندمجة في وطن محدد شيء، أما الدعوة لإقامة حكم محاصصة طائفية وقومية يتصارع فيه ممثلو المكونات على الغنائم والامتيازات وسلطات القرار فهي شيء آخر ومختلف. إن الانتخابات وحساب الأصوات المعبر عنها بحرية في صناديق الاقتراع طريقة صالحة للحكم في المجتمعات المندمجة اجتماعياً والتي يسود فيها الانتماء إلى الوطن التاريخي وذاكرته الجمعية ومركباته الاجتماعية والنفسية والاقتصادية المشتركة، لا إلى طائفة أو قبيلة أو إثنية من بين طوائف وإثنيات عدة، ويجري الصراع السياسي السلمي فيها بين أحزاب سياسية تتحرك على مساحة الوطن المعني كلها لا أن تمثل جزءاً منه ممثلاً بمحافظات أو أقاليم عدة.
ولعل من الطريف والمعبر، الذي يكشف خواء النظام السياسي العراقي القائم الآن، هو أنّ أحزابه الطائفية الدينية تتصارع كلها على صفة «الوطني» ومشتقاتها، في حين تتكون قياداتها وأجسامها التنظيمية وبنسبة تفوق الـ95% من جمهور مكون طائفي أو قومي واحد، ينتشر في منطقة جغرافية معينة وأحياناً في محافظة واحدة. بكلمات أخرى، إن هؤلاء السادرين في العملية السياسية القائمة، يعترفون ضمناً بأنهم طائفيون في واقع الحال وعلى الأرض الاجتماعية، ولكنهم يحاولون الخروج من هذا المأزق بأن يطلقوا على أنفسهم وأحزابهم صفات وأسماء «الوطنية» و«المدنية» وكأنهم بذلك يريدون تحويل الزرافة إلى خروف بمجرد أن يخطوا على ظهرها كلمة «خروف»!
الدليل الآخر على هذا الخواء والفشل هو عدم وجود قانون خاص بالأحزاب السياسية في العراق حتى الآن، فبعد مضي أحد عشر عاماً على إطلاق العملية السياسية من قبل الاحتلال الأجنبي، وإطلاق القائمين عليها تسمية «كيان سياسي»، التي وردت في الدستور الارتجالي المعتمَد، على الأحزاب السياسية، لم يشرع بعد أي قانون ينظم الحياة السياسية وموضوع الأحزاب والتنظيمات السياسية.
نستطرد ونقول، إن عدم وجود قانون ينظم وجود وحركة الأحزاب السياسية، ليس هو الغائب الضروري والسيادي الوحيد في دولة «العراق الجديد» كما يحب أن يسميها أهل الحكم، بل إن هذه الدولة تفتقد حتى اليوم إلى الشعار الجمهوري، والنشيد الوطني الرسمي، والعلم الوطني الواحد، فجميع هذه الرموز السيادية موروثة من العهد السابق، مع إجراء بعض التعديلات المزاجية الصغيرة (مثلاً: تم حذف النجمات الخضراء الثلاث من العلم العرقي السابق تلبية لرغبة الزعيم الكردي مسعود بارزاني لأنها، في نظره، تمثل شعار حزب البعث، رغم أنها ليست كذلك بل تمثل دول الوحدة العربية التي لم تتحقق بين سوريا ومصر والعراق)، وهذه الرموز السيادية معتمدة بشكل موقت ولم يتوصل المتحاصصون في الحكم إلى اتفاق على استبدالها بنظيراتها الرسمية حتى الآن.
وفي المناسبة فقد اقترح الحاكمون نموذجاً للعلم العراقي الجديد قبل بضع سنوات فجاء مستوحى من العلم الإسرائيلي بخطَّيه الأفقيين الأزرقين مع استبدال نجمة داوود بهلال أزرق في وسطه، وقد أثار هذا النموذج سخطاً واستياء شعبياً بالغاً دفع أصحاب العلم المقترح إلى إرساله الى سلة المهملات آنذاك. معنى ذلك هو أن نظام المحاصصة الحاكم في العراق لم ينجح في بناء وترسيخ أي شيء يرمز إلى هوية وطن واحد وشعب واحد، ولم تنجح سلطته التشريعية إلا بإمرار قوانين وتشريعات تتعلق بامتيازات الحاكمين في السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.
لقد تأكد فشل نظام حكم المحاصصة منذ سنوات عدة، وانكشفت معه هزيمة الأحزاب الإسلامية الشيعية المهيمنة على الحكم وهزيمة خصومها الطائفيين وشركائها في الحكم، فأحزاب الإسلام السياسي السني والقومي الكردي التي لم تقدم بديلاً حقيقياً هي الأخرى واكتفت بالمطالبة بتكبير حصتها الطائفية من الحكم والمؤسسات تحت شعار «تحقيق التوازن بين المكونات في المؤسسات»، كما وتكرس انعزال الشريك الثالث أي الأحزاب القومية الكردية، ولم يعد ممكناً بعد الآن لهذا النظام أن يستمر أو أن يصلح نفسه داخلياً. والمهمة اليوم، وفي ظل غياب أي بديل وطني ومدني علماني حقيقي، ستكون أقرب إلى الاستحالة، ولا تتعدى في أفضل الأحوال بذل الجهود الشخصية للأفراد المنعزلين والقوى والتنظيمات السياسية الوطنية الصغيرة والمشتتة لفضح هذه اللعبة الدامية والعبثية والمطالبة بإنهائها وإطلاق عملية سياسية وطنية تبدأ بإعادة كتابة الدستور العراقي الضامن لقيام وديمومة دولة المواطنة والمساواة وحظر دولة المكونات والتقسيم الطائفي. ولكن هل يترتب على هذه الهزيمة للإسلام السياسي الطائفي حلَّ وحظر الأحزاب الإسلامية سواء كانت شيعية أم سنية أم غيرها؟ نعتقد أن الإجابة ستكون نعم ولا، فثمة فرق نوعي بين أحزاب دينية وطائفية تريد إقامة دولة دينية أو شبه دينية وطائفية بالضرورة، وهذه الأحزاب ينبغي حظرها، وأحزاب أخرى ذات مرجعيات ثقافية وأخلاقية دينية عامة تعترف بحياد وعلمانية الدولة وتريد مزاولة النشاط السياسي السلمي فيها، إلى جانب غيرها من الأحزاب وليس من الديمقراطية في شيء حظرها والتضييق عليها.
* كاتب عراقي