سلام عبود
أميركا تتخبّط. تعبير أضحى فاشياً بين أوساط الناس، المعادين للتخبط والمناصرين له. من يراقب حركة الأحداث يسجل من دون إبطاء تقلبات كثيرة في المواقف الأميركية المتعلقة بالحرب على الإرهاب، بعضها مفاجئ جداً يخلو حتى من المقدمات، وبعضها يناقض ما سبقه بسفور تام. لقد بات «التخبط» حقيقة ثابتة في نظر جمهور الناس، لكثرة تكراره. هذه الظاهرة المحسوسة، التي ترتقي الى مستوى الحقائق الدامغة، ليست سوى وهم مضلل، ناتج من سوء فهم لعملية تراكم الخبرات، وما يرافقها من أفعال ذات طبيعة استمرارية، وأفق تاريخي متحرك.

حينما نراقب تاريخ الصراعات المسلحة التي قادتها أميركا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، نجد أنها عبارة عن سلسلة متواصلة من تجارب النجاح والفشل. اختتمت أميركا تجربتها الناجحة في الحرب العالمية الثانية بضربة جوية، هي الأولى والأخيرة حتى الآن في التاريخ البشري، ثبتت فيها أميركا مبدأ حربياً خاصاً، مفاده أنها لا تمارس العنف لتحقيق نصر عسكري ما فحسب، بل قد تمارسه على سبيل الانتقام والبطش السافر أيضاً. كان قصف هيروشيما وناغازاكي انتقاماً مروعاً بأثر رجعي. وكادت أميركا أن تستخدم سلاحها النووي في الحرب الكورية 1950 - 1953 لولا النهاية التوافقية للحرب، وكررت ذلك ثالثة في الأزمة الكوبية. نتائج الحرب الكورية عبارة عن خليط من النجاح والفشل. فقد فشلت خطة التدخل العسكري من طريق الضربات الجوية في بدء النزاع، وقاد هذا الى دخول القوات الأميركية المباشر في المعركة. هُزم الأميركيين، وكاد النصر يتحقق للشماليين. لكن الهزيمة انقلبت نصراً كبيراً انتهى بدحر الشماليين وفقدانهم الأرض كلها. بيد أن الموقف انقلب مجدداً بدخول الصين طرفاً مباشراً. وانتهى الأمر بتقاسم الأرض. رغماً عن الخسائر الجسيمة التي لحقت بأميركا في الحرب الكورية، إلا أنها آثرت أن تعيد الكرّة في فييتنام، تحت وهم تصحيح أخطاء كوريا، نظراً إلى تشابه الحدثين. لكن الهزيمة النكراء كانت من نصيبها، بسبب بسالة الشعب الفيتنامي، وتدخل الاتحاد السوفياتي المباشر، وقوة ثقل المعسكر الاشتراكي حينذاك. غزو كوبا باء بفشل ذريع. وعلى الرغم من أنه كان محدوداً، إلا انه كاد أيضاً أن يقود الى مواجهة نووية. وهنا نلاحظ أن الهوس النووي احتكار أميركي خالص. الحرب المحدودة في الصومال انتهت بكارثة عسكرية تفوق حجم التدخل، جعلت أميركا تغادر الصومال مسرعة، مع قرار انتقامي بإهلاك الصوماليين بالحرب الداخلية والمجاعات الدورية. وكان مصير كوبا قبلها حصاراً هستيرياً، لم يعرف التاريخ له مثيلاً إلا في حروب العالم القديم. في يوغسلافيا لم تُستخدم المعارك الأرضية، لكن أميركا وحلفاءها حققتوا نتائج باهرة، بعد قضم الأطراف، وتحفيز الميول العرقية والدينية واستثمارها الى أقصى حد، ومد المعارضة بالسلاح والمال والإعلام. لذلك كانت حرب تفكيك يوغسلافيا هي أكثر الحروب النموذجية نجاحاً في تاريخ الحروب الأميركية. حربا أفغانستان والعراق، اللتان انتهتا نهاية كارثية للقوات الأميركية، أكدتا للأميركيين حقيقة مهمة، هي أن التجربة اليوغسلافية ربما تكون أنجع سبيل لخوض حرب عصرية، في ظروف معقدة داخلياً، ولكن سهلة على المستوى الدولي. الفشل في إسقاط السلطة في سوريا، ونجاح تجربة الغزو الجوي في ليبيا عززا بشكل كامل هذا الخيار.
إن ما نراه الآن من انقلاب تام و»تخبط»، من إنكار رسمي للتدخل العسكري المباشر في النزاع السوري، وحصره في «المعدات غير القاتلة» و»غير الفتاكة»، الى تدريب قوات المعارضة علناً، والبدء بضربات جوية من دون اتفاق دولي. هذا التغيير لا يعني سوى أمر واحد: البدء بتطبيق النموذج اليوغسلافي الناجح وتكييفه للظروف السورية والعراقية. الأهداف واضحة: الضرب من الجو، وصناعة قوة أجنبية متحكمة من أعلى، وترك المعركة الأرضية تصنع حدود القوة تفاعلياً بين المتحاربين المختلفين. لقد حاولت إسرائيل في مرحلة التهديد الغربي بالسلاح الكيمياوي أن تستخدم خطة الضربات الجوية على سورية أيضاً، لكنها توقفت عن ذلك موقتاً، وأفسحت المجال للمعارضة بالعمل من طريق الأراضي السورية المحتلة، مسنودة بالطيران والرصد الجوي. أي نفذت اسرائيل خطة الضرب الجوي، ولكن على قطاع محدد، ستقدم تركيا على الشروع بما يشبهه.
لكن حرب الضرب عن بعد تحتاج الى ثلاث شروط أساسية، الأول: ظهور تغييرات مجتمعية داخلية على الأرض تشجع على ذلك، ثانياً: وجود قوى مسلحة مساندة على الأرض، وثالثاً: وجود حرية دولية تامة للحركة على المسرح العالمي من دون كوابح جدية.


أبرز علاماته خروج الحاضنات السنية من معادلة مقاومة الاحتلال الأميركي في العراق تحديداً، تزامناً مع الشروع بضرب ممثلي التيار الإخواني وعلى رأسهم طارق الهاشمي، وفي سوريا منذ زمن أبكر.
وقد أصبح الاضطراب السياسي سافراً، حتى بلغ حدود الفصام. لهذا تسمي نشرات الأخبار في قناة «الشرقية» وصحيفة «الزمان» ضرب الطيران العراقي لمواقع المسلحين قرب سد حديثة بـ»استهداف ثوار العشائر والمدنيين الأبرياء»، وتسمي قصف الجماعات ذاتها، في الموقع ذاته، بـ»ضرب مسلحي الدولة الاسلامية» إذا تم القصف من قبل القوات الأميركية وحلفائها. لقد دفع هذا المناخ أميركا الى ايجاد سبل جديدة للعودة الى العراق عقب هزيمة قواتها الأرضية هناك.
رافق ذلك انقسام التحالف الشيعي العراقي، وانسداد طريق التحاصص الطائفي العرقي الحكومي ملمح مهم في المشهد الراهن. وهنا تُفهم بوضوح مغازى رفض الأميركيين تزويد العراق بنظام قتالي جوي، رغماً عن المبالغ العراقية الطائلة المصروفة سلفاً واتفاقيات التدريب ومعاهدات التعاون «الاستراتيجي». إن السيطرة عسكرياً على المجال الجوي العراقي المتاخم للحدود الإيرانية والسورية أعظم الأهداف العسكرية في الاستراتيجية الأميركية الإسرائيلية المشتركة. لهذا قال «آفي ديختر» رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي» سيظل صراعنا على هذه الساحة فاعلاً طالما بقيت القوات الأمير كية، التي توفر لنا مظلة وفرصة، لكي تحبط أية سياقات لعودة العراق الى سابق قوته ووحدته... نريد ان نخلق ضمانات وكوابح ليس في شمال العراق بل في العاصمة بغداد».
لقد تعاظم أيضاً الصراع بين قطبي الحلفاء، التحالف القطري التركي، القائم على القوة المالية القطرية، والتنظيم السياسي (الاخوان) الأردوغاني، ومثال الدولة الاسلامية التركية العصرية كوسيط بين الشرق والغرب سياسياً وثقافياً، والجهد الاستخباراتي الاسرائيلي. يقابله النموذج السعودي، المرتبط بالدولة الثيوقراطية والاصولية السلفية، والأخ الأكبر عسكرياً روحياً ومالياً.

الشرط الثاني: اليوم صناعة العدو، وغداً تدميره!
في هذا السياق جاء الظهور المفاجئ والخيالي لما يسمى بـ «داعش» - البديل النوعي من تنظيم القاعدة الهلامي- باعتباره شكلاً حسياً لتنظيم مسلح، امتلك في أقل من يوم واحد كل مقومات الدولة: سلاح متطور قوامه ما يقرب من نصف مليون قطعة سلاح، تشمل أحدث الدبابات والمدافع، وأموال خيالية، وحدود تم تثبيتها بالضربات الجوية. إن صحوة الضمير الأوروبية المفاجئة، القاضية بتعقب ومنع عودة المحاربين،
ما نشهده هو انتفاض أميركي حاد على ظاهرة بروز قطب دولي جديد


لا تعني سوى جعل خيار القتال في صف الدولة الإسلامية لا رجعة فيه. أما توسيع ضرب القوى الإسلامية المسلحة من خارج «داعش»، فلا يعني سوى إرغام هذه القوى على التوّحد في صف «داعش». إنها حرب مخططة بعناية فائقة وثبات، تعمل على تجديد وسائل المعركة، حتى لو بدت في نظرنا متناقضة أو «مزدوجة المعايير».
في يوم ولادة «دولة العراق الإسلامية» حقق القوميون الكرد في العراق، خلال ساعات، ما لم يحققوه خلال سنوات: بيع النفط علناً، احتلال المناطق المتنازع عليها، التزود بالسلاح عالمياً، وعودة علنية للقوات الأميركية، وتدمير الجيش العراقي والاستيلاء على سلاحه.
إن «داعش» دولة مصطنعة، يعرف صانعوها طبيعتها أكثر من غيرهم. لأن التاريخ لا يسمح ولم يسمح من قبل بنشوء عودات مناقضة لمسار تطور البشرية إلا كألعوبة. إن مهمة هذه الدولة هي نشوء منطقة نزاع ترفع سقف الصراع المسلح من عصابات وفلول «ميليشيات» الى مستوى دولة، وظيفتها رسم حدود النزاعات الطائفية والعرقية «الخارجية» بحد السلاح، أو فرض شروط للتحالفات والتقاسم. لقد انتهت المرحلة الأولى في العراق وسورية، المتمثلة بعملية تصفية وتنظيف المناطق «الداخلية» طائفياً. لذلك جاءت الدولة الإسلامية لترسيم الحدود الجغرافية الخارجية. وعلى المستوى القومي فهي دولة ترسيم الأفق الايديولوجي القسري لاختيار سبيل إدارة المجتمع، وتحدد مسار التقدم الاجتماعي القومي كله: الدولة الاسلامية مقابل الملكيات العربية، بمساعدة محتملة من عسكر جمهوريين في البلدان غير الملكية، أو حكومات مركبّة سياسياً، فاشلة عضوياً، كالعراق ولبنان.
تهدف الضربات الجوية الى تجريد الدولة الإسلامية من مقومات دولتها. أي تجريدها من مظهرها البنيوي، الذي قد يتحول مع ثباتها الى رابط عام تأسيسي وداخلي. وبمعنى أدق الاحتفاظ بها باعتبارها ميليشيا ذات سلطة حربية مؤثرة في هيئة دولة، تقرر رسم الحدود وصياغة معادلات التحالفات الداخلية والخارجية، ولكن من دون السماح لها بأن تتحول الى بناء مؤسساتي عام (وطني) يحمل خصائص الدولة التقليدية. لأن الهدف الأميركي النهائي من وجود «داعش» الوقتي هو رسم حدود المنطقة بالريشة الأميركية.
من هنا نرى أن تجربة الحرب الليبية أخذت النموذج اليوغسلافي، وبنجاحها في تنفيذ الأهداف المباشرة: اسقاط القذافي، واطلاق خزين العنف المناطقي والعشائري والديني، تم الحصول على الأرضية الخصبة للسير لاحقاً في خطوات السيطرة على ليبيا وشمال أفريقية باتحاد تام (جرى ضرب ليبيا بمساعدة عسكرية رمزية عربية، لرفع اسم دول صغيرة). إن عناصر المعركة الحالية جميعها تشير الى أمر واحد، هو حصول النموذج اليوغسلافي على فرص أكبر من النجاح، قياساً بالاحتلال غير المباشر (افغانستان) والاحتلال المباشر (العراق)، والتطويق الأرضي المباشر (سورية). ضربات من الخارج مدعومة بحركة فوضى عنفية على الأرض من قبل الجماعات المتصارعة: كرداً وشيعة ومسيحيين وتركمان وسنة في العراق، النظام والمعارضة و»داعش» في سورية، حبتر وفئات إسلامية متناقضة وخلائط وسطية في ليبيا. إن منظور فوضى العنف المُنتِج لا يحصر العنف بالسلطة أو بالنظام الحاكم، وإنما ينظر الى مجمل حركة العنف باعتبارها قوة فاعلة على الارض بصرف النظر عن اختلاف اتجاهاتها وأغراضها وأهدافها.

الشرط الثالث

إن نهوض طرف دولي، وسعيه الى خلق تحالف دولي مضاد تحت قيادة الدولة الروسية، قاد الى نشوء اختراق غير متوقع في الحسابات الأميركية، التي اضطربت بشدة في سورية تحديداً. كانت الفترة الماضية هي فترة دراسة الحروب السابقة وترجيج النموذج الأفضل. بيد أن النموذج الأفضل ظهر أولاً في مرحلة الموت السريري للقطب الدولي الآخر، في حين أن روسيا استعادت من خلال التجربة السورية، بعض دورها الدولي ووجدت إسناداً من دول أخرى أعانها على المضي الى ما هو أبعد في المواجهة الدولية. لذلك تحتم إخراج روسيا من معادلة التقاطب الدولي، ولو موقتاً. لهذا انفجر الوضع الأوكراني. إن الصحوة الأميركية الجديدة، والتأهب الدولي للضرب عن بعد عسكرياً، خارج قرارات الشرعية الدولية، هو احتلال جوي على الطريقة الليبية، وإسقاط سياسي وعسكري للمنطقة في يد الأميركيين على النموذج اليوغسلافي. وما إشراك دول عربية متواضعة سياسياً كالامارات، والبحرين المحتلة سعودياً، وقطر المحمية بالمارينز وشركات الحماية، والأردن المستعمرة الأبدية، والسعودية الأكثر تخلفاً في تاريخ البشرية، ليس سوى صناعة جبهة قوامها النظم الملكية والعائلية كحليف مؤتمن، وغلق نهج التطور السياسي وحصر قيادته، ولو شكلياً، في النظم الملكية، لغرض جعل التقاطب العربي محصوراً بين تيار تكفيري شاذ تاريخياً وبين تيار سلفي أقل شذوذاً. ما نشهده هو انتفاض أميركي حاد على ظاهرة بروز قطب دولي جديد منافس، وإعادة تدعيم واحدية المحور بتحالف دولي، عملي، حربي، متعدد في مقابل الجهد الروسي الرامي الى اختراق جدار الواحدية الدولية. وما حضور أوباما الى الأمم المتحدة، وفرضه عليها قرارات الحلف الجديد، إلا محاولة إعلامية وعملية لتأكيد استمرار مبدأ سيادة القطب الواحد رسمياً. في الحرب الجوية لا وجود لتخبط أو معايير مزدوجة، وإنما توجد أهداف ثابتة ومحددة تنفذ بكل السبل الشرعية وغير الشرعية، أي تنفذ بمبدأ القوة الغاشمة، من طريق شبكة مخابرات عنكبوتية تدير عناصر القوة على اختلاف مصادرها على الأرض. وفي المجال الدولي والاقليمي تستخدم غطاء يقوم على فقدان الأهلية الأخلاقية والقانونية عند شن الحرب أو اختلاقها والسير فيها، وإدارة المعركة من طريق مستشارين عسكريين وسياسيين واقتصاديين يمسكون مفاصل الجيوش ومراكز التحكم السياسي في الحكومات المشاركة في الحرب، ويتحكمون بتوزيع وحركة مصادر القوة الأرضية القائمة في هيئة مليشيات أو عصابات أو معارضة أو دول مختلقة كالدولة الاسلامية.
لقد رفض رئيس وزراء العراق حيدر العبادي نشر قوات أرضية في العراق، بعد إعلان التيار الصدري مقاومة الوجود العسكري الأميركي. وهو رفض فارغ تماماً وتذاك مفضوح، لأن الحرب الجوية لا تفترض وجود قوات أجنبية أرضية، بل تتضمن – مرحلياً - الموافقة على وجود مستشارين يقودون الجيوش المحلية (الوطنية) والاقليمية والدولية جواً وأرضاً. بهذا الاجراء أعاد العبادي العراق تسعين عاماً الى الوراء، الى زمن الاحتلال البريطاني المباشر، والى حكومة المستشارين والحرب الجوية. الحرب الجوية تجريبات عسكرية وسياسية وايديولوجية مفيدة وناجحة على المديات القريبة، ستشغل المنطقة كلها بنيرانها الحارقة. لكنها عودة تتضمن تدمير أسس المجتمعات المادية والروحية، ووضع لبنات إعادة توزيع خريطة الصراع الداخلي طويل الأمد. العراق وسوريا، والمنطقة عامة، يمران بحقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، ولكن بإدارة وإرادة أميركيتين، وبمساعدة الحلفاء أنفسهم: النظم الملكية إقليمياً، والتحالف الاستعماري الغربي الجديد دولياً.
الأميركيون يتخبطون. يحق لنا قول ذلك، ولكن في حالة واحدة فحسب، لو آمنا حقاً بأن أميركا محررة وعادلة وإنسانية، ومحبة لشعوبنا أيضاً.
* ناقد وروائي عراقي