بعض الوجوه يختصر أمكنة ومناطق، ومرحلة من تاريخ. إذا ذكرت فرنسيس بيكون في لندن، تذكر السامع منطقة "سوهو"، ذلك الحي البوهيمي الذي كان يتردد إليه ذلك الفنان الإيرلندي التائه العظيم. وإذا كان الحديث عن نجيب محفوظ، تبادر إلى الذهن مقهى الفيشاوي، وزوايا أخرى من "الحواري" القديمة، التي خلدها صاحب الثلاثية، في غير كتاب من كتبه.
من الوجوه اللبنانية التي ارتبط اسمها بالمكان، كان منح الصلح وكانت "راس بيروت". لقد تغيرت المنطقة عما كانت عليه في الستينات. غيرتها الحروب والوجوه الجديدة التي وفدت إليها من لبنان وخارج لبنان، لكنها ما زالت، برغم ما اعتلى وجهها من ندوب، تحتفظ بشيء من معالم الماضي وروحه. لعل من الأسباب أنها لم تتعرض لما تعرض له وسط العاصمة من خراب، ووجود جامعة أميركية طبعتها بطابع بشري خاص، جعلها منطقة فريدة من نوعها في لبنان وبلاد المشرق.

■ ■ ■


يرحل منح الصلح وتفقد "راس بيروت" شيئاً من ذاتها. ونفقد نحن شيئاً من ذواتنا، ونحن نتذكر منطقة كانت لنا فيها أيام حلوة. لست أعرف تفصيل حياته، لكني أعرف أن محبيه والمعجبين به كثيرون في لبنان وبلاد العرب. كانت المرات التي جالسته فيها قليلة، بل قليلة جداً، لكن كثيرة كانت المرات التي كنت أقرا فيها محاضراته، وما كان ينشره تباعاً في "الحوادث" أيام عزها، وبقيت مثابراً على قراءة مقالاته التي كانت من دون توقيع، إلى اليوم الذي اندلعت فيه شرارة الحرب الأهلية، وبدأت مرحلة تراجع الوطن.
حين بلغني نبأ رحيله هاتفت شقيقه الصديق هشام الصلح أعزيه، وكان في طريقه إلى مطار لندن مسافراً إلى بيروت، وقد شعرت وأنا أسمع صوت هشام "المبحوح" بالحاجة إلى من يعزيني، وقد كنت قبل يومين من ذلك التهاتف مجتمعاً مع الصديق هشام، في لندن. تحدثنا طويلا عن لبنان، وعن شقيقه منح وما قدم وأعطى.
أذكر آخر مرة التقيت فيها منح الصلح، من خمس سنوات تقريباً، في مقهى "سيتي كافيه"، حيث كان يضرب مواعيده ويلتقي أصحابه وجلساءه. بدا تعباً، وحين هم بالوقوف شبك يده بذراعي فشعرت بأنه يحتاج إلى المساعدة، فسرت معه خطوات قصاراً إلى الشارع، حيث كانت تنتظره سيارة، جلس فيها شابان، أحدهما ابنه الوحيد بالتبني. لم يدم اللقاء اكثر من نصف ساعة، لكنه كان كافياً ليشعرني بأنه قد يكون اللقاء الاخير!
عاش منح الصلح حياة خصبة، حافلة بالعمل والعطاء. يفكر ويناقش ويحاضر ويكتب، ويتحسس قضايا بلاده وقضايا العرب. لم تخلبه الشهرة ولا الوجاهات، ولم يتلوّن كما فعل الكثيرون، وبقي مخلصاً لما آمن به من قيم العدالة والمجتمع المدني، والعروبة الصافية المنزّهة عن العصبيات الدينية والقبلية.
إذا قلت منح الصلح قلت "البك"، لقب ورثه عن آبائه وأجداده. كان هو في عرف الناس سليل عائلة صيداوية بيروتية عثمانية، لها دور في حياة لبنان السياسية والاجتماعية. وقد فهمت من الصديق هشام أنه كان للعائلة الصلحية دور أيضاً في حياة تركيا العثمانية، قبل أن ينقض عليها ذئب الأناضول، كمال أتاتورك، ويخلع عنها عباءة الخلافة، ويضع على رأسها برنيطة الغرب.
هل كان منح الصلح أتاتوركياً أم عثمانياً؟ لست في موقع يمكنني من القطع في هذا الأمر، لكنني أستطيع القول بناء على ما عرفت عنه وهو قليل، وما سمعت عنه وهو قليل، أنه كان عثماني الهوى،
يرحل منح الصلح
وتفقد راس بيروت شيئاً
من ذاتها


يؤثر تركيا العثمانية على تركيا الكمالية!
أعرف كثيرين عرفوا منح الصلح وقرأوا له وجالسوه وأتمنى بعدما تفرع العائلة من مراسيم العزاء، أن يبادر هشام، إلى وضع كتاب عن أخيه الراحل، يسرد فيه قصة حياته، ويضمنه بعض ما كتب وما كتب عنه، وما قيل فيه من شهادات ورسائل. هذا أقل الوفاء لرجل كان وجهاً بارزاً من وجوه الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية في لبنان، ووفاء لبيروت و"راس بيروت"، الوحيدة بين مناطق لبنان، التي لا يزال يلتئم فيها وجه لبنان، المتعدد الثقافات والمتنوع حضارياً وروحياً.
لا نعرف قيمة الحياة إلا حين نفقد عزيزاً، وقد كان منح الصلح عزيزاً على قلوب آلاف من اللبنانيين والعرب، الذين رافقوه وعرفوه وقرأوه واستمعوا إليه. كان محدثاً بارعاً، لاذعاً ساخراً. كان يقول بيروت عاصمة لبنان، و"راس بيروت" عاصمة بيروت. كان من رواد مقاهيها وأنديتها، ومن الرواد الدائمين لمطعم فيصل الشهير. وكثيرة هي القصص التي تروى عن طرفاته ودعاباته وروحه المرحة، منها أن طالباً أردنياً وفد إلى بيروت في الستينات للدراسة في جامعتها الأميركية، فسأل منح الصلح إذا كان عنوان الجامعة في شارع بلس يكفي ليتواصل بالبريد مع أهله في عمان، فقال له البك: "إذا كتبت الجامعة الأميركية، فأضف جملة مقابل مطعم فيصل"!
وعلى ذكر لقب "البك"، أخبرني الكاتب الصديق عرفان نظام الدين، أنه كان مجتمعاً مرة مع منح في إحدى جلساته في المقهى، وكان هناك من ينادي على عرفان، تحبباً بلقب بك، وكاد "البك" منح يفقد صبره، وقال للجمع ساخراً إن "بكوات" بيروت غير "بكوات" القامشلي، في إشارة إلى المدينة السورية التي جاء منها صديقنا عرفان!
كان منح الصلح عربياً بامتياز، فهل طغت العروبة عليه إلى حد جعلته ينسى ذلك اللبنان الذي ساهم في وضع أساسه، صلحي آخر، وميثاقي وطني كبير هو رياض الصلح؟
الحق أن هناك الكثير مما يجب قوله في منح الصلح، وفي ثقافته وفكره، وتلك مهمة ليست يسيرة، وتستدعي وجود فريق من أهل الفكر للقيام بها. قد تختلف آراؤنا فيه من غير شك، مثلما تختلف في تقييم أي إنسان من طينته، لكن الشيء المؤكد الذي يجمع عليه الجميع، أو معظمهم في أقل تقدير، أن "البك" كان رجلاً لماحاً، واسع المعرفة، هادىء الطبع، دمث الخلق، حلو الحديث خلابه، وستبقى صورتنا عنه شجية حلوة، فيها الكثير من خيالات بيروت في عهدها الذهبي، بين محيط الجامعة الأميركية ومطعم فيصل، بين "هورس شو" و "سيتى كافيه" .

■ ■ ■


في حياة كل منا "طلعات ونزلات"، أحلام وآمال، وخيبات أمل. ومن ظلم الزمان أن يرحل الصلحي العريق، ولبنان وأوطان العرب على هذه الصورة من الضعف والهزال، وهو الذي كان قد أمن بلبنان، وطناً نهائياً، وبالعروبة الحرة خياراً لا بد منه للحفاظ على وحدة العرب من المحيط إلى الخليج، لكنه، ويا لقساوة القدر، أغمض عينيه على صور جارحة تهز وطنه ومحيطه العربي، وخصوصاً أيام عيد "أضحى" على يد مدعي الإسلام الجدد، مهرجاناً للذبح على الهوية!
إنه زمن التراجع والانهيار وتلاشي الأحلام العذاب. حقبة من زمن رديء، ورديء جداً، لا أحد منا يعرف لها نهاية، وكيف ستؤول فيها مصائر مدننا العربية، ومنها بيروت، التي أحبها الراحل منح، وبقي محباً لها ومخلصاً حتى آخر نحب من أنحابه.