تمتلك الشعوب العربية روحاً واحدةً بشكلٍ أو بآخر. يمكن تسمية الأمر على أنّه مناطقية، قبلية، شعوبية، لكن في النهاية تمتلك الشعوب العربية صفاتٍ تتمايز بها عن غيرها من الشعوب والحضارات التي عبرت على المنطقة. تأتي فكرة «بوتقة الانصهار» (Melting Pot) كنوعٍ من التعبير الفائق - أكثر من اللازم - لتوصيف الحالة؛ لكن ما يحدث اليوم وبأعلى تمظهراته أي «داعش» يقودنا إلى التساؤل فعلياً: هل حدث «انصهار» جمع كل هذه الشعوب مع بعضها أبداً؟
تأتي محصلة الفكرة الأساسية أن المكان (الأرض) مع الزمان (مرحلة معينة في التاريخ) يجمعان قبائل معيّنة (شعوب) لخلق مجتمعٍ بشري؛ هكذا يرى ابن خلدون الأمر. الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد يرى الموضوع أبعد بخطوة: «تلتقي الشعوب لتعقد حياتها أكثر». تتعقد حياة الشعوب حال التقائها، تبدأ بالبحث عن صفاتٍ تجمعها، وإذا لم تجد، تتقاتل في ما بينها (وهو الطبيعي ضمن منطق البقاء للأصلح البسيط)، ينتصر عرقٌ/ فرعٌ ما، ليصبح هو السائد. يبنى النظام/ المملكة (بصفتها أول الأنظمة الحاكمة وأبسطها) لأوّل مرة بناءً على معطيات المنتصر، ومساهمات ودماء الخاسر، وأحياناً تكون مساهمات الضحية أكبر من تلك التي يقدّمها «المنتصر» لكن يحمل النظام شعار المنتصر ذاته لا غير.
لا تحتاج «داعش» أن
تخلق شيئاً غير موجود في عقول وقلوب الناس
وكي لا يكون الحديث هنا لمجرد التعقيد؛ لا بد من الربط مع المحيط المتفجّر حالياً في الوطن العربي. تحتل داعش مساحاتٍ شاسعةٍ من الأرض؛ هو أمرٌ لا نقاش فيه. سقطت مدنٌ عربية (سورية وعراقية) بيد التنظيم الأخطبوطي الذي لا يعرف له «نظام/ قائد/ تركيب» بسرعةٍ فائقةٍ وقياسية في بعض الأحيان. هو ليس بالتأكيد نظام الإخوان المسلمين المعقّد والبيروقراطي، ليس النظام الإيراني (وحزب الله تباعاً) القائم على مبدأ الإشهار والوضوح، لكنه أيضاً يثبت وبسرعةٍ بالغة أنّه «مرغوب»، و«موجود» وبقوة. إذاً ما الحكاية؟ بلادٌ هادئةٌ تكون قبل يومٍ واحدٍ من «ظهور» داعش تعيش وئاماً تاماً، فجأة ودون سابق إنذار تسقط - بيد التنظيم - دون أي منطقٍ عقلي ظاهر.
هذه هي الصورة التي تظهر للعيان، لكن ما تحت الرماد هو كل الحكاية وقلبها. فالحكاية التي ترد ههنا هي الظاهر وما تريد وسائل الإعلام الغربية والعربية الموجّهة أميركياً/ سعودياً من المشاهد/ المتلقي أن يقبله ضمن أسترة الحرب الناعمة: أناسٌ طيبون تحولوا مضللين فجأة تحت تأثير بضعة «قادة» أشرار، نقتل الأشرار نحرر المضللين، تنتهي الحكاية! هكذا هو الفيلم الهوليوودي المعتاد، هكذا هي الحقيقة كما يجب على الجميع تقبّلها. لكن هذه القصة التي يعرف جميع سكان بلادنا – ولايسرون عنها شيئاً - أنها بعيدةٌ عن الصواب تغوص أبعد من المعتاد، وأعمق بكثيرٍ من الظاهر البائن. لنمشي خطوةً خطوة: تغذي كل الأنظمة السياسية/ الدينية الفرقة في بلادنا؛ هو جزءٌ من المعتاد ــ المقبول شعبياً. فحتى داخل «حي» ذي شكلٍ سياسي/ طائفيٍ/ ديني واحد يظل البحث قائماً فيه على «التفرّد» و«التمايز»؛ مثلاً في مخيّم فلسطيني، حيث لا يمكن التمايز باللون، العرق، الدين، والطائفة يكون التمايز بالمدينة، القرية، وحتى أحياناً «النسب» فحسب! فماذا عن «مدنٍ» قائمةٍ بأكملها على الزيف المباشر من نوع: أخوة الأديان، أخوة الطوائف، أخوة الأحزاب. لا إخوة في الأمر، خصوصاً لأشخاصٍ معتادين «التمايز/ التفاضل» كنوعٍ من أساليب الحياة اليومية المحببة والمرغوبة. هي منافسةٌ مشروعة إذاً، أن أتنافس، وأفوز حتى على أي آخر بفضل ديني مثلاً، أو طائفتي، أو حتى منطقتي دون أي اعتبارٍ لمهاراتي، قدراتي أو أيٍ من صفاتي الشخصية. لا تحتاج «داعش» لأكثر من ذلك لتدخل أو لتنتصر أيضاً.
فلنغص أكثر في الفكرة نفسها: ماذا عن المجتمعات بحد ذاتها؟ هل هي فعلاً مجتمعات؟ لنأخذ لبنان مثالاً. يشكّل لبنان نوعاً من الحلم، والدولة الأوروبية الحديثة مثالاً يحتذى للدول العربية. يختلف لبنان عن غيره من الدول العربية بكونه – فعلياً - يحتضن تنوعاً بشرياً هائلاً منصهراً ضمن بوتقةٍ «خاصةٍ» جداً. انفجرت تلك البوتقة أكثر من مرة لكنها تعود للتجمع – وبشكل مفاجئ ولا منطقي - بين الفينة والأخرى. يمثّل البلد الصغير نسبياً الصورة الأبرز للدولة العربية الحديث بكل تمظهراتها: مدينة واحدة (بيروت) فيها كل شيء. قرى كبيرة تسمى – دون منطق - مدناً (راقبوا مثلاً صيدا أو صور التي هي عبارة عن شارعٍ طويلٍ واحد تترامى المنازل على جنبيه لا أكثر ولا أقل دون أي اهتمامٍ من الدولة، سواء إنمائياً، عمرانياً، أو حتى بشرياً). تتجمع المجموعات «المتنافسة/ المتمايزة» في العاصمة بيروت، تعمل معاً، لكنها تمارس كل سلوكات التفرقة العادية حتى في أبسط صورها: الطعام، المأكل، الملبس، وأحياناً حتى في التنفس. ولا ترتاح هذه التجمّعات إلا حين إيجاد عدوٍ مشترك، فيصبح أي «غريبٍ» هو محط سخرية في المحل الأول، بعد ذلك، العداء، ثم العنف في مرحلةٍ لاحقة (لأنه بدون عدوٍ واحدٍ مشترك، ستضطر لأكل بعضها).
ولا يشذ عن هذه القاعدة كثيرون، إذ قد تكون مزحةٌ بسيطة من قبيل التندر على شكل شخصٍ غير مهندمة يقود لتعليق – يعرفه الجميع في لبنان -: «طالع شكلك سوري»، ولا يظهر الضيق على أحدٍ لدى سماع التعبير، لأنه بات يعتبر «ثيمةً» وليس مجرد «شتيمة» عنصرية بحتة. وإذا أخذنا لبنان مثالاً، فهذا لا يعني أنَّ بقية الدول العربية بريئةٌ من الأمر، حيث يمكن مراجعة علاقة المصريين بالسودانيين، أو الخليجيين «المواطنين» بسواهم من العرب القادمين للعمل في بلادهم.
لكن الفكرة لا تنتهي هنا فحسب، هي لم تبدأ بعد أصلاً. هذا المجتمع العربي القائم على نبذ الآخر، والتعامل معه ليس كآخر فحسب، بل كآخر «عدو» ضمن المخلّد الشعبي البسيط؛ حيث يمكن الإشارة إلى كثيرٍ من الصفات العامة التي تطلق على الشعوب الأخرى وتصبح سمةً عامةً دون أي مراجعةٍ أو منطق: فيصبح السوداني حارس بناء (لا أكثر ولا أقل)، والسوري عتالاً، والمصري ضعيفاً دون شخصية، والخليجي كيس نقود كبيراً متعطشاً للجنس. المشكلة ههنا أن تلك الأمور يعرفها المرء بالفطرة، دون الحاجة لمعلمٍ لتأكيدها، ومع هذا فإنه يجد أيضاً معلماً يبرر له الأمر، تأتي الطائفة بتعاليمها، أو بعض رجال دينها لبث المزيد من التأكيد لتلك المعلومات المثبتة. فمثلاً خلال الأعوام الفائتة حذر أحد خطباء صلاة الجمعة في مدينة جدّة السعودية من خطر «التعامل» مع «أجانب» لا يعرفونهم لأنهم قد يكونون ناقلين لأمراضٍ معدية.
رغم أن الشيخ نفسه، ليس طبيباً ولا شأن له بالأمر، وأن وزارة الصحة السعودية – آنذاك - لم تصدر تعليمات بهذا الخصوص. أضف إلى ذلك كلّه قبول الأمر بجميع أشكاله وتبريره في محفزات من نوع: هذا الشعب هو كذلك، ولكن «فلان» يختلف عنهم. وفلان بالطبع ينتمي إلى ذلك الشعب نفسه المشار إليه، لكنه «متمايز» بحسب المتكلمين (يمكن النظر إلى صورة «الفلسطيني» لدى جمهور المقاومة، حين وسمت «حماس» بالخيانة بعد موقفها من سوريا، فبات الجمهور نفسه يتعامل مع الفلسطيني على أساس أنه «خائن» وإذا ما شذ أحدهم عن الإطار وسم بأنّه «مختلفٌ»، باعتبار أن الخيانة هي السمة الأساس).
لا تحتاج «داعش» لأكثر من ذلك كي تدخل في مجتمعاتنا، وتزدهر، وتنتصر وتستمر أكثر فأكثر. لا تحتاج أن تخلق شيئاً غير موجودٍ في عقول الناس وقلوبهم. فبوتقة الانصهار التي حكي عنها ليست موجودةً أصلاً، فأغلب هذه الشعوب إذا انصهرت في مرحلةٍ ما، فهي فعلت ذلك مرغمةً وتحت قوة أنظمةٍ «قمعية/ ديكتاتورية» تعاملت مع أي مخالف لها بالنار والحديد، ولربما هذا ما يبرر المزاج الشعبي العام الذي يشير إلى أن «هذه البلاد لا يحكمها إلا الطغاة ولا تستقيم إلا لهم».
لا تقول «داعش» شيئاً جديداً، أو تؤرخ لدين مختلف، إنه سلوكٌ يمارس بشكلٍ يومي اعتيادي لكنها بكل بساطة أظهرته على السطح، ولا يزال الجميع يتعاملون معه على أساس أنّه «لم يحصل» وإذا حصل فإن «أحداً لم يره». قد لا تنتصر داعش في معركتها هذه، وقد تفعل، لكن تأثيراتها «التكتونية» (أي العميقة) قد وصلت إلى مكانٍ لم يعد فيه مجالٌ للعودة إلى أنظمة «العيش المشترك» السطحية والسخيفة القديمة. إن المجتمع العربي بحاجة لـ«خضة» لا تستطيع أنظمة قمعية من الأنواع المتخلفة البائدة القيام به، كما لا تستطيع أميركا أو عبيدها التبشير به.
تبقى أنظمة الحكم الدينية/ الدنيوية بحاجةٍ لرشدٍ كبير في التعامل معها، فلا الإسلام بأشكال حكمه المتعددة قادرٌ على ملء الفراغ، لا لأنه غير قادر، بل لأنَّ مطبقيه يفتقرون الحذاقة في العمل أولاً، ثانياً الرقة، وبالتأكيد العدل! أما الأحزاب والأنظمة العقائدية فهي غير موجودةٍ في بلادنا أصلاً، فبلادٌ يكره أفرادها بعضهم بعضاً لا يمكن أن يركنوا لحزبٍ كي يجمعهم، بالتالي فإن الحزب الذي لا يقدر على التحوّل إلى «طائفةٍ» ودين خاص ينقرض بعد فترة.
* كاتب فلسطيني