خلافاً لكل اعتقاد سابق، سواء ارتدى الثوب العقائدي أو المظهرالتقليدي، أو حتى الزي العلمي، فالمنطقة العربية ما زالت تفتقر إلى مقومات وعناصر الاستقرار والتقدم والاستقلال والسيادة. يتأكد ذلك من يومٍ إلى يوم، ومن بلدٍ إلى بلد، بأمثلة صادمة ومرشحة للتوسع باستمرار: في البلد الواحد، أو على صعيد المنطقة جميعاً. نجمت الصدمة الأولى، في الواقع، عن النشوء ثم التمدد الصاروخيين لـ«الدولة الإسلامية» في مناطق واسعة من بلدين شهدت أرضاهما بزوغ أوائل حضارات التاريخ.
اقترن هذا النشوء، كما نرى ونسمع كل يوم، في العديد من المدن والبلدان، بممارسات غريبة، وحشية ومنفلته، لا يتردد أصحابها أبداً في استخدامها أداة لنشر المزيد من الرعب بهدف تحقيق الإضافي من المكاسب ذات الطابع السياسي أو الجغرافي أو المذهبي أو المالي أو...
بيد أن ما يجري في دول أخرى لا يقل خطورة وغرابة هو الآخر. ماذا عن الفوضى الليبية العارمة التي تضفي على أحداث ذلك البلد طابعاً سوريالياً: الانتخابات والبرلمانان والجيشان الرسمي وغير الرسمي، الطائرات المجهولة والمعروفة الهوية، القبائل المتناحرة والمدن المتصارعة والتنظيمات المتشددة التي تعمل برعاية صريحة ومباشرة من دول تشارك في «التحالف الدولي ضد الإرهاب». وأيضاً حكايا تصدير النفط والتنافس على آباره وعوائده بين المناطق ومراكز القوى والميليشيات المتناحرة في الأحياء و«الزنقات» والممرات والمرافئ والمطارات؟! وأين من كل ذلك سلطات مصر وتونس والجزائر، وأساساً، أين التحالف الغربي الذي تولى، بالتدخل العسكري، شل قدرات جيش العقيد القذافي وصولاً إلى إسقاط نظامه والمسارعة الى قتله بطريقة بشعة شاهدها العالم أجمع من دون أن يحمِّل أحداً مسؤولية ذلك!
ثم ماذا عن اليمن الذي خاض شبابه وشعبه تجربة بدت واعدة في وقت من الأوقات: بشعاراتها وأساليبها وإصرارها (وخصوصاً مشاركة الشباب والشابات فيها)، ثم بما أعقبها من حوار طويل شارك فيه الجميع على أمل العبور إلى واقع سياسي جديد يتيح لهذا البلد أن يتغلب على كوارث الفقر والتخلف والانقسام والقبلية والديكتاتورية...؟
مبكراً جرى السعي لاحتواء تحرك مطالب وطموحات شباب اليمن وثورتهم. سارعت دول الخليج إلى فرض عملية سياسية تقتصر على إطاحة الرئيس علي عبد الله صالح وبعض أركانه من دون المساس بنظامه المشكو منه. واصلت الولايات المتحدة غاراتها على «القاعدة» وكأن السلطة اليمنية الجديدة غير معنية بسيادة البلد ولا بالدفاع عن أمنه واستقراره. احتل «الحوثيون» أخيراً المشهد السياسي ومعه صنعاء ومدن يمنية كبيرة أخرى بدعم وتشجيع من أنصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح، خصوصاً في الجيش. برز الصراع الإقليمي في اليمن بشكل لا يعد إلا بحرب أهلية لا تخرج عن السياق المذهبي المستعر في المنطقة والمعوَّل عليه، بالدرجة الأولى، من قبل المتربصين بثرواتها ومقدراتها وقضاياها وحقوق وحريات شعوبها لتحقيق المزيد من النهب والهيمنة والاستغلال... «الحراك الجنوبي» الانفصالي، من جهته، وجد الفرصة سانحة تماماً لتحديد مهل خروج «الشماليين» من الشطر الجنوبي، في مسار متسارع لإلغاء الوحدة بين شطري البلاد...
لا تزيد هذه التطورات الأوضاع في البلدان الأخرى إلا حذراً وقلقاً وتوجساً. ليس من أحد فوق رأسه خيمة حقيقية تدفع عنه المخاطر: سواءً أكانت هذه الخيمة محلية أم أجنبية (يتباهى حكام المملكة العربية السعودية هذه الأيام بالامن والاستقرار في المملكة، فيما هم يصدرون الآن حكماً بالإعدام على أحد رجال الدين من دعاة الحرية والإنصاف لا إثارة الفتنة كما يزعمون...). لن نتحدث أيضاً عن مصر التي يراكم نظامها الجديد خطوات إضافية على طريق التفرد والحد من الحريات والحكم بالأجهزة الأمنية على غرار النظام السابق، ما ينذر بانفجار بوادره تتراكم باستمرار. ولا عن السودان الذي تتضاعف أزماته، قبل الانفصال وبعده، بسبب الصيغة الفردية والديكتاتورية لنظام حاكمه العسكري «المجاهد» عمر البشير.
وإذا لاحظنا أيضاً، أن النار لا تزال تحت النار في بلدان أخرى، في داخلها وعلى حدودها: من شمال أفريقيا إلى الصومال، ومن موريتانيا إلى لبنان، ومن المغرب إلى الجزائر... نلاحظ أن الأزمة كبيرة وخطيرة وشاملة.
نحن اليوم أمام مرحلة
متقدمة من التردي والعجز وانكشاف الفئويات

هذه الأزمة هي نتيجة حتمية لجملة عوامل أبرزها قرون السيطرة الاستعمارية وما رافقها من تعطيل التطور الطبيعي لشعوب هذه البلدان ولمسارها السليم: الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. كذلك فإن من أبرز أسبابها زرع المشروع الاستيطاني الاغتصابي في فلسطين، على حساب حقوق شعب هذا البلد المنكوب، وبوسائل الإبادة والمجازر والتشريد والتهجير والعدوان... المتواصلة حتى إشعار آخر. لقد أدت سنوات الاستعمار العثماني، ومن ثمَّ الغربي، ولاحقاً الأميركي (بصيغ تجمع بين الوسائل القديمة والأساليب الحديثة)، إلى تشويه كل شيء في المناطق والبلدان المستعمرة (خلافاً لما يدّعي منظّرو الإمبريالية بزعمهم أن الاستعمار قد حمل الحضارة والمدنية إلى البلدان المستَعمَرة): تشويه البنى الاقتصادية، ترويج ثقافة التبعية والالتحاق على حساب قيم السيادة والاستقلال والإنتاج والتقدم والتنمية الذاتية، تنصيب فئات محلية تحكم بوسائل البطش والاستبداد والتخلف وتؤمن مصالح القوى الاستعمارية على حساب تطور بلداننا وحقوق شعوبها وحياتهم وثرواتهم وسيادتهم. لقد برزت، منذ بدايات الإستقلال السياسي، قوى اجتماعية وسياسية في معظم البلدان العربية للتصدي لهذا الواقع. لكن هذه القوى، وبعد استيلائها على السلطة، جنحت نحو التفرد والاستبداد، وخاضت تجارب مغلقة حالت، هي الأخرى، دون إطلاق الطاقات الشعبية في الحقول كافة. لقد سقط معظم هذه القوى، أما من استمر فقد ابتدع معزوفة «التأبيد» بشعارات وادعاءات وذرائع انكشف زيفها تباعاً بسبب الفشل وتفاقم الأزمات وتعاظم القمع وفداحة الانفصام ما بين الشعار والواقع...
نحن اليوم أمام مرحلة متقدمة من التردي والعجز وانكشاف الفئويات... الحروب الأهلية تضرب الكثير من البلدان وتهدد معظم ما تبقى منها. القوى العبثية والظلامية التي ولدت من رحم التخلف والظلم والتآمر والاستخدام المشبوه أو الأرعن أو المتواطئ... انطلق ماردها الهمجي يمارس القتل والإجرام بأبشع الصور وأكثرها بربرية. تبلغ الخشية مداها الأقصى حين تواصل القوى الحاكمة سياساتها نفسها، رغم ما يتهدد بلدانها من مخاطر وأضرار وممارسات لا توفر البشر ولا الحجر ولا التاريخ ولا القيم ولا الحدود ولا الخرائط ولا هذه القوى الحاكمة نفسها ولا، حتى، القوى والدول التي أطلقت أو ما زالت ترعى المجموعات الإرهابية وتدعمها بكل وسائل الإجرام والقتل الضرورية... أما البلدان الاستعمارية فتواصل، هي الأخرى، عبثها بدمنا وبمقدراتنا وبمستقبلنا، وتقدم نفسها، مرة جديدة، حامية لأرواحنا وأقلياتنا وأمننا وكياناتنا وأنظمتنا. وهي، لهذا الغرض، تعمل كل ما في وسعها لبيعنا السلاح وتدريبنا على الانخراط النشيط في لعبة القتل والتقاتل والموت والدمار! ألا نشاهد كل لحظة ودقيقة كيف يجري حرق آبار نفطنا وتدمير مصانعنا ومدارسنا ومؤسساتنا وتشريد الملايين من أبنا شعوبنا من قبل القوى نفسها المسؤولة عمّا انتهت إليه أوضاعنا من كوارث وأزمات؟!
لا بد من نهضة جديدة تستفيد، جذرياً، من دروس محاولاتنا النهضوية السابقة بأسمائها ومضامينها القومية والدينية والاشتراكية...