أنا من تكالبت عليه الهموم... أنا من جرّحه القهر.(الشاعر الكردي فقي تيران)

تقول أسطورة كاوا الحداد إنّ ملكاً يسمّى أزدهاك عاقبته السماء بنموّ اثنتين من الأفاعي على كتفيه، كما عاقبته بأن غابت الشمس نهائياً ولم يعد ينبت أي شيء على الأرض. وكان الملك يعاني معاناة مريرة عندما تشعر الأفاعي بالجوع.

وبعدما يئس الأطباء من شفائه، ظهر الشيطان على الملك وأوصاه بأن يواظب على تناول اثنين من أدمغة الشبّان من رعيته لإيقاف آلامه، وكان كاوا الحداد أحد الذين تعرّضوا لبطش الملك. قتل الملك أولاده الستة عشر بتناول أدمغتهم، تاركاً ابنة وحيدة تنتظر دورها لتقتل. لكنّ هذه الابنة لا تلبث أن تعود من الجبال لتقتل الملك وتجعل الشمس تشرق من جديد، ليكون نو روز أي اليوم الجديد.
في التراث الكردي المدوّن، أنّ الطفل يحمل اسم أمه لا اسم أبيه إن هي تفوّقت على الأب في فنون القتال، وأنّ العائلة لا تلمس الطعام على المائدة من دون إذن الأم، وأنّ الأم هي الأب في غيابه. وهي ثقافة استعصت على الترويض والإخضاع. فالمرأة الكردية فاجأت المستشرقين بأنّها لا تشبه نظيراتها من القوميّات المجاورة. «فعلى الرغم من أنها لا تعرف الحجاب بمعناه الإسلامي وأنّها تتجوّل بحريّة وتمتطي الجياد كأي امرأة غربية، فإنّها تتمتع بقيم عالية وصارمة. فالانحراف الجنسي والفسق والفجور نادر لدى القبائل الكردية»، بحسب ما يقول مارك سايكس، المستشرق الانكليزي.
وإذا تتبعنا مسار التجذّر الأسطوري للقومية الكردية في ضمير الشعب الكردي، فإنّ ما يجري على أطراف «كوباني» يصبح مفهوماً، حيث تستبسل نساء الأكراد في قتال حتى الموت، وهو في الحقيقة استعادة للاوعي جمعي لا يرى في المرأة إلا أنثى جبّارة متمردة. فليس عبثاً أن لا توجد في المعجم اللغوي الكردي مفردة «بغية» أو ما يماثلها رغم أنّ الفاتحين العرب استحضروا مفرداتهم الكثيرة: جارية، سبية، أمة، بضاعة نكاح. ولا يشذّ المعجم الداعشي عن استعادة المفردات التراثية عينها للفاتحين الأوائل. وربما هذه المفردات بالذات هي من جعلت سيلان أوزالب تقوم بإطلاق رصاصة الرحمة على صدغها الجميل، لتؤرخ لأول انتفاضة راديكالية ذات بعد قومي على الظلامية المنبعثة من جحور التاريخ.
في كوباني، تُصنع ستالينغراد جديدة، بطلاتها مناضلات جميلات سليلات لشعوب استوطنت يوماً نهر الفولغا، النهر الأسطوري الذي شهد على هزيمة النازية في المدينة الروسية العظيمة، كما في نظريات الأنتروبولوجيا عن أصل العرق الكردي الذي ارتحل يوماً عن ضفاف ذاك النهر بالذات، وهي مفارقة غريبة. والمفارقة الأغرب أنّه وفي هذا المجتمع الذكوري الاعرابي البائس الخاضع الذليل، تنبري نساء قومية مجاورة لتوجيه البوصلة نحو الحرية والمدنية. كوباني ليست معركة، بل ثورة على كل المفاهيم في هذا المكان التعيس. المجد لشمس كوباني.