يتساءل مراقبون ومحللون كُثر بإلحاح وتشكيك، إنْ كان القائمون على قيادة ومعالجة الملف الأمني في العراق يقرأون فعلاً ما يكتبه ويقوله المتخصصون أو غير المتخصصين في شؤون الحركات الجهادية الانتحارية في الإعلام، وخصوصاً أن البلاد تمر في خضم أزمة خطيرة وشاملة؟ مَن يراقب الوضع عن كثب وبدأب يصل إلى إجابات محبطة؛ فالأوضاع الميدانية تسوء يوماً بعد يوم، وليس ثمة أي نجاحات مهمة تحرزها القوات الأمنية والقوات المدنية التي تدعمها.

صحيح أنّه ليس كل ما يقال وينشر مهماً وذات صدقية، لكننا لا نعدم الكثير من الاجتهادات والانتباهات والمعالجات المهمة، والتي لا يبدو أنها أثارت اهتمام أولئك القادة والمسؤولين الذين أثبتوا بالملموس فشلهم الذريع في كل شيء حتى الآن. فمركز ثاني محافظة عراقية وعاصمة الشمال، الموصل، سقطت بسهولة بأيدي مسلحي تنظيم «داعش» منذ العاشر من حزيران الماضي، وقد كتب بعض المحللين أن المدينة تعتبر ساقطة عملياً بيد التنظيم منذ سنوات، مدللين على ذلك بحجج قوية لا يمكن نكرانها، ثم سقط بعدها بأيام مركز محافظة صلاح الدين المهمة والملاصقة للعاصمة بغداد، أي مدينة تكريت، وعجزت القوات الحكومية والمدنية الداعمة لها عن استعادتها بعد أربع محاولات هجومية واسعة، وهي اليوم في وضع دفاعي داخل جامعة تكريت وقرية «مكيشيفة» في ضواحي المدينة. أما أكبر محافظة عراقية جغرافياً والتي تحتل ثلث مساحة البلاد (138.500 كيلومتر)، أي الأنبار، فقد بات الكلام عن سيطرة التنظيم التكفيري المسلح على قرابة ثلاثة أرباعها وحركة قواته بحرية فيها مكرراً ومألوفاً. أما مركزها، مدينة الرمادي، فمهدد جدياً بالسقوط بين يوم وآخر، والدعوات إلى التدخل الأجنبي والأميركي تحديداً تصدر من أصحاب المراكز العليا.
الأسلوب الانتحاري الذي
يعتمده «داعش» مأخوذ برمّته
من تجربة تنظيم «القاعدة»

حتى الإنجازات القليلة والهشة التي تمكنت إدارة نوري المالكي من إحرازها، ورغم أن هذه الإدارة تتحمل المسؤولية الكاملة عن الهزيمة الكارثية التي حلت بالبلاد في مواجهة هذه الجماعات التكفيرية المسلحة الانتحارية، تلك الإنجازات التي تمثلت بصد هجوم داعش وتمدده وتطويق مجموعاته داخل المدن والبلدات التي سيطر عليها بعد العاشر من حزيران، تآكلت ولم يتم تحقيق أي هدف جديد مهم على الأرض، باستثناء فك الحصار عن بلدتي آمرلي والضلوعية الصغيرتين وتأمين محيطهما نسبياً.
إن النظر إلى الواقع الميداني يعكس غالباً حقيقة الوضع السيئ مهما بدا مصوغاً بعبارات قوية؛ فالتحدي الذي أطلقه النائب أحمد الجلبي، خلال لقاء أجرته معه صحيفة «دير شبيغل» الألمانية، بوجه «داعش» مثلاً، والذي مفاده أن مقاتليه سيهزمون من قبل أربعة ملايين بغدادي شيعي إذا تقدموا نحو بغداد. إن هذا التحدي اللفظي يستبطن تفكيراً مهزوماً تماماً، فالمهزوم - كما قالت سيمون دي بوفوار قبل عقود – يفكر تفكيراً مهزوماً، إذ إن السؤال الذي يفضح طبيعة هذا التحدي الزائف هو لماذا لم تستطع هذه الملايين الأربعة وملايين أخرى - إنْ كان المتحدث يعتبرها قوة عسكرية جاهزة - أن تهزم «داعش» خارج بغداد حتى الآن؟ ثم، أليس انتظار العدو المتقدم على امتداد مئات الكيلومترات وبلوغه مدينة يستهدفها تعبيراً فاقعاً عن العجز عن صدهم؟ وأخيراً، هل نسي الجلبي أن بغداد العاصمة مدينة مختلطة تقطنها جميع المكونات المجتمعية العراقية، أم أنه يريدها حرباً طائفية بحتة بين الشيعة والسنة، وهذا هو منطق «داعش» وهدفه نفسه، والحافر على الحافر كما يقال؟
يقودنا التفصيل الأخير حول تصريحات أحمد الجلبي إلى ضرورة تفحص نوعية الأداء العسكري لداعش وأمثاله من منظمات تكفيرية مسلحة في الأشهر الأخيرة لفهم طبيعة هذا الأداء وما أنتجه من إنجازات يعتبرها البعض مذهلة. فإذا ما أعطينا لعقلية المؤامرة إجازة مؤقتة، ونأينا عن الخطاب التعبوي التحريضي «البروباغندا الحربية» لداعش ولأعدائه معاً، ونظرنا إلى الواقع الميداني بعينين مجردتين من الهوى الأيديولوجي والأحكام المسبقة، نجد أن هذا الأداء تميز بعدة أمور لا يمكن نكرانها، ومنها: شدة الاندفاع القتالي واتساعه ودمويته، وتحقيقه إنجازات عسكرية ضخمة بإمكانات متواضعة، بل ومتواضعة جداً، في آجال زمنية محدودة. فقد انهارت القوات الحكومية العراقية، التي كثر الحديث عن كونها مخترقة من قبل داعش وحلفائه في حزب البعث «جناح الدوري»، وتلاشت دون قتال تقريباً منذ الصدمة الأولى في الموصل، وانهارت بعدها بفترة قصيرة نسبياً قوات الميليشيات الكردية «البيشمركة» وانسحبت بسرعة أثارت دهشة المحللين من مدينة سنجار وسهل نينوى، تاركة مئات الآلاف من أبناء الأقليات وخصوصاً اليزيديين والمسيحيين لقمة سائغة لأشد المجموعات التكفيرية المسلحة وحشية ودموية وهمجية أعادت العالمين العربي والإسلامي إلى زمن بيع الجواري السبايا والقتل الجماعي لمجرد التشفي والترويع.
وإذا ما تفحصنا تفاصيل ما حدث ومقدماته القريبة نجد أن العقيدة القتالية لـ«داعش» كانت جديدة في دمجها لمكونات حربية قديمة وتطويرها لتراث سلفها العقيدي والحربي أي تنظيم «القاعدة».
تقوم العقيدة القتالية لـ«داعش»، التي هي اليوم في طريقها الى الرسوخ والاكتمال، على أربع ركائز هي: حرب العصابات التقليدية، والأسلوب الانتحاري، والترويع بالدماء، والبناء الفوقي الديني البالغة ذروته في أسطورة «دابق» أو معركة نهاية الزمان. وإذا كانت حرب العصابات قديمة جداً في تاريخ الحروب بين البشر، بل هي حسب بعض المؤرخين أمُّ الحروب قاطبة، فإن الأسلوب الانتحاري في القتال لم يكن شائعاً وقديماً بل كان ظاهرة فردية في تاريخ الجماعات البشرية، ولكنه تحول إلى ممارسة ممنهجة لبعض الجيوش خلال القرن الماضي؛ ومثالها الأبرز هو ظاهرة «الكاميكاز» اليابانية. أما الترويع بالدم فهو أسلوب عتيق في تاريخ الحروب، لا تستثنى منه مجموعة بشرية أو أمة في قديم الأزمان، وقد بلغ ذروته في إبادة ربع مليون إنسان من قبل الجيش الأميركي خلال ساعات قليلة بقصف هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين بالسلاح الذري لإجبار إمبراطور اليابان، حليف هتلر، على الاستسلام.
هذه الركائز في عقيدة «داعش» القتالية لا جديد فيها إذا نُظر إليها كل على انفراد، لكن الجديد الداعشي هو في مزجها جميعاً في عقيدة واحدة أنتجت أسلوباً واحداً في القتال يمكن أن ندعوه «حرب العصابات الانتحارية الترويعية الدينية»، فلنلق نظرة فاحصة على هذا الأسلوب:
إذا صرفنا النظر عن أسلوب حرب العصابات التقليدي لشيوعه وقِدَمه، فإنَّ الأسلوب الانتحاري الذي يعتمده «داعش» مأخوذ برمته من تجربة سلفه تنظيم «القاعدة» مع التوسع والتفنن التكتيكي الكبير الذي أضافه. ورغم أن الدين الإسلامي حرَّم بالمطلق وبشكل قاطع الانتحار، وثمة نصوص في القرآن والحديث النبوي تؤكد ذلك، إلا أنَّ السلفية الجهادية الانتحارية تحايلت على هذا التحريم بشكل فجٍّ، ففسر منتجو منظومتها الفكرية والعقائدية تلك النصوص تفسيراً عشوائياً يسهُل تفنيده. كما صادرت هذه الجماعات الانتحارية شخصيات إسلامية وأحداثاً حربية في التراث وزورتها أو حرفتها تحريفا كلياً أو جزئياً. من ذلك مثلاً، أنها صادرت وشوهت سيرة عدد من الصحابة الأجلاء؛ منهم مثلاً البراء بن مالك، وهشام بن عامر، وعامر بن الأكوع، الذين اعتبرهم السلفيون الجهاديون بدءاً من الزرقاوي بمثابة مؤسسين فعليين للقتال الانتحاري، وقد طال التزوير والتحريف أحداثاً وأساليب ووقائع تراثية إسلامية قديمة كثيرة منها: التتريس، والانغماس في الصف، والإثخان في العدو، والقتل النكائي، وكنا قد عالجنا بعضاً من هذه القضايا والشخصيات في سلسلة مقالات نشرت خلال الأشهر الأخيرة من السنة الماضية هنا في «الأخبار». ولم تنتهِ بعدُ مفردات هذه السلسلة، فقد بات من الملح والحيوي استكمالها في ضوء ما أفرزه واقع الأحداث الأخيرة؛ ومنها إعلان تنظيم «داعش» لما دعاه «دولة الخلافة الإسلامية» وعاصمتها الراهنة الموصل.
إن تفسيرات «فقهاء» «داعش» للنصوص الدينية التي حرَّمت الانتحار تشكل نقطة ضعف كبرى في تلك المنظومة الفكرية والعقيدة القتالية الداعشية، وللأسف، فقد أهمل أعداء السلفية الانتحارية من الإسلاميين وغير الإسلاميين هذه النقطة، إما لجهلهم بتفاصيلها وثناياها ومعانيها وحتى لغتها، أو لأنهم ليسوا على اقتناع تام بذلك التحريم. أما أغلب المتخصصين في الأبحاث «السياجتماعية»، وتحديداً في شؤون الحركات الجهادية الانتحارية، من غير الإسلاميين، فبعضهم يتحرج من الخوض في الترسانة التراثية الدينية، ربما خوفاً على «صفاء» علمانيتهم و«نقاء» منهجياتهم الحداثوية، وكأن ماركس حين غرق في تفكيك وتحليل أدق تفاصيل المنظومة الرأسمالية أصبح رأسمالياً أو يمينياً، أو كأن حسين مروة حين قضى سنوات من عمره يقرأ نقدياً التراث الفلسفي الإسلامي في مؤلفه الضخم «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» أصبح إسلامياً تكفيرياً!
عموماً، شكَّل الأسلوب الانتحاري الذي تأخذ به الجماعات المسلحة الجهادية السلفية صدمة كبيرة وطريقة قتالية لا يمكن مواجهتها بالطرق التقليدية. وقد زاد من خطورتها أنّ الانتحاريين استفادوا كثيراً من المكتشفات الجديدة في ميدان المواد المتفجرة كمادة «السي فور» والمواد البلاستيكية المتفجرة والتي لا يمكن اكتشاف وجودها رادارياً، ووسائل الاتصال والتفجير عن بُعد باستخدام التقنيات الرقمية الجديدة. ومثلما ذهل العالم في أربعينيات القرن الماضي أمام ظاهرة «الكاميكاز الانتحارية» اليابانية ولم يجد أي حل عسكري لها سوى محاولة تخفيف الخسائر الناجمة عنها، حدث ويحدث هذا الأمر اليوم في مواجهة انتحاريي المنظمات التكفيرية.
فماذا يستطيع الطرف المستهدَف أن يفعل لعدو قرر سلفاً الموت بهدف تكثير قتلى وجرحى عدوه؟ غير أنّ هذا الأسلوب لم يكن مستحيل المواجهة بشكل مطلق، فقد تمكنت القوات الأمنية التي واجهت هذه التنظيمات الانتحارية من إفشال العديد من العمليات الانتحارية في العراق، وبرز أبطال عسكريون ومدنيون تصدوا بأدوات وأسلحة بسيطة ومرتجلة وبأجسادهم العزلاء أحياناً للانتحاريين ودفع بعضهم حياته ثمناً لإنقاذ زملائه ومواطنيه، ولكن الحل الشافي والنهائي لهذه الظاهرة لم يُجترح بعد عسكرياً.
غير أننا نعتقد أنّ مواجهته تكمن في الجانب الفكري والنفسي والفقهي أولاً، وذلك بتعميم وشرح وتعميق التحريم الإسلامي الأكيد للانتحار والدفاع عنه ونشر النصوص القرآنية والنبوية الخاصة بذلك، وتلك هي، من باب أولى، مهمة رجال الدين والمثقفين والإعلاميين والمربين والوحدات الاجتماعية الصغيرة ومكونات المجتمع المدني إنْ وجدت وأجهزة التعليم العام. ففي تنفيذ هذه المهمة دفاع نبيل ليس عن ضحايا الانتحاريين من الناس الأبرياء وغالبيتهم من المسلمين في البلدان التي تحدث فيها هذه العمليات الانتحارية، بل هي أيضاً دفاع عن ثوابت وسمعة الإسلام ذاته كدين سماوي لأكثر من مليار من البشر اليوم، والذي تضرر أبلغ الضرر وكما لم يتضرر دين سماوي أو غير سماوي من قبل نتيجة هذه الممارسات الإجرامية المنسوبة إليه من قبل فاعليها أو من قبل أطراف مغرضة و معادية للعرب والمسلمين والشرق بعامة. الجديد الآخر والمهم الذي جاء به داعش يتعلق بتطبيقه خططاً هجومية ودفاعية مبتكرة أو محسنة من خطط وأساليب قتالية قديمة، وهو ما جعل الأداء التقليدي الذي تصرّ على اتباعه القيادات العسكرية الحكومية نافلاً وغير ذي جدوى. إن ما لم تنتبه إليه تلك القيادات الرسمية المترهلة تلقفه مقاتلون عاديون، فقد لاحظ مقاتل عراقي بسيط في صفوف الجيش العراقي يكنّى بأبي موسى، شارك في العديد من المواجهات المسلحة ضد مسلحي داعش، بثاقب بصيرته وبصره خلاصات ثمينة من خلال تجربته القتالية، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي أوجز فيها الاستراتيجية العملية الهجومية والدفاعية لتنظيم «داعش» وكيفية الرد عليها. وسنتوقف محللين عند هذه الخلاصات في مناسبة قريبة مقابلة.
* كاتب عراقي