المادة هي قراءة في كتاب الطبقات الاجتماعية، للكاتب يانيك لوميل، وترجمة د. جورجيت الحداد، منشورات دار الكتاب الجديد، بيروت 2008.
قد لا تكون هذه القراءة مجرد نقد للمتهربين من واقع وجود ودور الطبقات في مختلف التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية وخاصة الرأسمالية في مركز النظام العالمي، بل محاولة ربط كذلك بين مواقفهم، وخاصة الوسطيين منهم، وبين الفكر والثقافة الرأسمالية بما هي، رغم تفلُّتهم، هي مرجعيتهم الفكرية. فلا يمكن الجدل في هذا العصر في المسألة الطبقية بمعزل عن التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية الرأسمالية، وبالطبع هيمنة نمط الإنتاج الرأسمالي بما هما مبنيان على:
• الملكية الخاصة
• العمل المأجور وسلخ القيمة الزائدة
• الاستغلال
• قانون القيمة
• ودور هذه جميعاً في بقاء الطبقات بمعزل عن اتساع الطبقة الوسطى على حساب الطبقة العاملة في فترات الازدهار، وعلى حساب الطبقة الرأسمالية في بداية الأزمات وليس في استحكامها لأنه في عمق الأزمة أو تعمُّقها تتآكل الطبقة الوطى نفسها.
يلحظ القارئ في هذا الكتاب إصراراً على إنكار أو تبهيت الطبقات. وهذا شأن الكثير من المفكرين الوسطيين. وهو اتجاه في مستوى ما منسجم مع جوهر الفكر الليبرالي والذي ربما عبّرت عنه رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر بأنه لا معنى لكلمة شعب لأن ما هو موجود هم الأفراد، وهذا استمرار للنظرية الذرية (كون المجتمعات مجرد أفراد/ ذرات).
من هنا، كان الموقع القوي للنظرية الماركسية في قراءة المجتمع قراءة طبقية مما ينقد وينقض القراءة الليبرالية التي تنظر للمجتمع ككتلة واحدة مستخدمة المسألة القومية، والنظرية البورجوازية الذرية التي ترى المجتمع مجرد أفراد. وكلا التنظيرين يهدف إلى تلافي التعامل مع المسألة الطبقية. وهو تهرب لا يمكن تغطيته حين تذهب القراءة إلى الواقع الحياتي اليومي للمجتمعات، بغض النظر عن مستوى تطورها الاقتصادي الاجتماعي وطبيعة التشكيلة الاجتماعية بالطبع.
ففي النهاية، يقوم المجتمع ويعيش على العمل والإنتاج. وهذا يفرض فهم كيف تتم هذه العملية الأساسية منذ وجود البشرية بل لوجودها وبقائها.
يحاول الكاتب تثبيت أن التحليل المبني على وجود الطبقات لم يعد مناسباً

رغم محاولات الكاتب عدم الإنكار المباشر للطبقات، وذلك بالتمترس وراء حصول تغيّر في مواقع ونِسَب الطبقات في المجتمع الفرنسي خاصة، وإلى حد قليل في الغرب الرأسمالي المتقدم، إلا أن قراءة متمعنة تبيّن أن ما يحاول الكاتب تثبيته ذهنياً، من دون تسطيره كتابة بأن التحليل المبني على وجود الطبقات لم يعد مناسباً ولا صحيحاً.
وفي حين أن هذا التوجه للكاتب وللكتاب الذين استند إليهم كثيراً، مقصود به رفض النظرية الماركسية في ما يخص ليس فقط وجود الطبقات، بل الصراع الطبقي.
وعليه، حين يرتكز الكتاب على الفئة أو الجماعة في فهم المجتمع لا يقدم رداً أو نقداً مباشراً لمسألة الصراع الطبقي التي تقوم عليها الماركسية.
على أن هذا التجاهل لا يُعفي الكاتب من ضرورة الإجابة على آليات رد الاستغلال في المجتمع الرأسمالي، أو على الأقل حل هذه الإشكالية طالما أنه يتجاهل اعتماد الصراع الطبقي. فهو يكتفي بتفنيد التغيرات في أحجام الطبقات ونسبها بشكل بارد ومحايد.

ليست الفئات والجماعات مؤهلة لخوض مشروع نضال لتغيير العلاقات الاجتماعية التي تفرضها الملكية الخاصة وحيازة أدوات الإنتاج التي عليها يقوم الاستغلال والقهر والفقر بالطبع. وهي على الأقل، كفئات وجماعات، لو رغبت ليست مؤهلة من حيث القوة لتغيير سلطة لديها الجيش والشرطة والاقتصاد وطبعاً الثقافة. هي مجموعات عمل اجتماعي لا ترقى قدرتها الى ما هو أبعد من عمل إصلاحي.
من هنا، فإن قراءة الكاتب للطبقات كرياضة ذهنية ورفاه وفائض ولوحات حسابية (ص. 35) لا تغوص إلى طبيعة الحياة الاجتماعية وإشكالات تلك الحياة، وما يجب أن يترتب عليها من مقاومة مجتمعية للاستغلال والفقر.
إن قراءة البنى الطبقية وتوزعها ونسبها وحتى الحديث من خلالها عن الفقر واجتثاث الفقر لا تقود حقيقة إلى ذلك الاجتثاث من جهة، ومن جهة ثانية فإن تغيير واقع الرأسمالية يتطلب اجتثاث الاستغلال وتوقف سلخ القيمة الزائدة، وهذا ليس ممكناً من دون طبقية ما.
ولكن التناول الطبقي للواقع الاجتماعي لا بد من أن يكون مسلحاً بالوعي الطبقي. وهنا يمكننا أن نلمس الفارق بين الوعي الطبقي بما هو سياسي وليس مطلبياً وحسب، وبين الوعي الفئوي أو الجماعاتي، إن وُجد ما يمكن تسميته بذلك. ويبقى المهم أن الوعي الطبقي هو تغييري وصراعي وليس محدوداً من حيث العدد والهدف النهائي.

ولعل ما يبيّن ضعف أطروحات معتمدي الفئات والجماعات أنهم يذهبون في البحث والتحليل إلى تحفيز التقارب في ما بين الفئات، وليس الوعي الجمعي للمشترك في ما بينها لتشكل قوة تغيير. وهنا يقع الظلم على ماركس حيث إن الوعي هو نتاج حضور طبقي وليس مجرد وجود طبقي من جهة، وهو مشروع ثورة وتغيير اجتماعي شامل وليس تراكم معرفة باردة.

بناءً على العمل الإمبريقي، يركز المؤلف على الارتفاع الكبير في نسبة الكوادر العليا والوسطى والمستخدمين مقابل تراجع المزارعين والتراجع الأقل لنسبة العمال. ولو افترضنا دقة النتائج، يبقى السؤال الأهم هو: ما هو مصدر تغطية أجور المستخدمين وأجهزة الدولة عموماً، وبالطبع الجيش أو الشرطة أو المخابرات... الخ؟ من أين تأتي الضرائب التي تجبيها الدولة والبلديات... الخ.
تفتح هذه الأسئلة على الإنتاج كأساس يقوم عليه المجتمع. إنتاج القيمتين الاستعمالية والتبادلية، وبالطبع في ظلّ القيمة الزائدة.
صحيح أن العمل الخدماتي العلمي والفني والماهر ينتج قيماً، وهذا يثير مسالتين:
الأولى: إن أي عمل خدماتي من البسيط منه وحتى العمل في مجال الاقتصاد الجديد، الخدمات الإلكترونية... الخ يعتمد على شبكة من العمل الجسدي الفعلي والمنتج للقيمة الملموسة، الغذاء والكساء وخاصة العمل المنزلي للمرأة... الخ، وهذا يجعل المشترك بين الجميع كونهم عاملين وإن تفارق مستوى الدخل وشروط العمل.
والثاني: ان كل هؤلاء كونهم عمالاً، فهم يعملون لصالح رأس المال. هم يبيعون قوة عملهم للرأسمالي، وبالتالي ما يجمعهم ليس الدخل المتساوي ولكن عملية العمل والإنتاج القائمة على الاستغلال، سواء كان قاسياً جسدياً وفجَّاً طبقياً، أو كان بمعاملة "جيدة"، لكن كل هذا لا يخفي أنهم أُجراء. ومن هنا يكون للوعي الطبقي دوره في تجميعهم أو تحالفهم طبقياً، وخاصة الشرائح الأقرب إلى بعضها البعض، علماً بأن الوعي وحده يُقرب أكثر بين مختلف الشرائح إذا كنا نهدف الى التغيير وليس مجرد التحسين والمطلبية. وإذا صح هذا التحليل، فإنه يوسع قاعدة أو عدد الطبقة العاملة بعيداً عن الفرز التصنيفي لها إلى فئات أو جماعات متباعدة.
من جانب آخر، فإن تركيز هذا الفريق على حجم ودور الطبقة الوسطى، أو وهم دورها، وهو الوهم الذي يعتبرها رافعة الاقتصاد عبر دورها الاستهلاكي، وهو التقدم الذي يصح في فنرة الازدهار. هذا ناهيك عن أن الاستهلاك لم يكن أبداً أساس أي اقتصاد بل الإنتاج. وهذا يعني أن فعالية الطبقة الوسطى ناتجة من أو مبنية على فعالية الطبقة المنتجة في الاقتصاد الحقيقي. وهذا ما يغفله الكتاب أيضاً.
يعتمد الكاتب إلى حد كبير على الموقف المتوسط لبيار بورديو في ما يخص عدم إنكار الطبقية، ولكن عدم اعتمادها كأساس للتحليل وذلك في تنظيره لمسألة الحقول، وكذلك ما يعتمده وغيره في ما يخص تعدد رأس المال، وخاصة رأس المال الرمزي والثقافي... الخ. (ص 84).
على أن هذا يعيدنا إلى مسألة أساس وهي: ما هو رأس المال الأساسي، أو ما هو أساس رأس المال الذي تقوم عليه الأخريات؟
صحيح أن معظم البشر اليوم لديهم تحصيل علمي ما، سواء في المركز أو المحيط، ولكن هذا لا يخفي أن المستوى الثقافي بمعناه التعليمي والمهني هو طبقي بلا مواربة. فليس صحيحاً أن ما يتوفر من فرصة تعليم لأبناء الطبقتين البورجوازية الصغيرة (مع التمطيط الطبقة الوسطى) والبورجوازية الكبيرة، هو نفسه متوفر لأبناء الطبقة العاملة والفلاحين وصغار الموظفين والخدماتيين، ناهيك عن تفاوت ذلك حسب النوع بالعموم وبين نساء هذه الطبقة وتلك بالخصوص.
وهذا ينطبق كذلك على ما يركز عليه بورديو، أي الميراث العائلي، فهذا الميراث سواء كان الموقع الرمزي للعائلة أو المالي أو الثقافي...الخ هو قائم أساساً ومتأتّ من الإمكانات الاقتصادية التي هي أساساً استغلال طبقي. لذا، يصبح الحديث عن رؤوس المال التفصيلية هذه من قبيل متعة الرياضة الذهنية أكثر منه القناعة بدورها مهما كان لها من استقلال نسبياً، بل إن لها ذلك الاستقلال النسبي. ولكن يبقى السؤال دائماً من أين انطلقت وعلى ماذا ارتكزت؟
إن تراكم ثروة وثقافة وجاه على مدى قرون لا يشطب ولا ينفي معرفة أساسها المادي الاستغلالي.
بكلام آخر، هل الميراث العائلي والثقافة عند بورديو معزولان عن الأساس الاقتصادي وعن الاستغلال والقيمة الزائدة؟ أم أن مصدرهما الله؟
وحتى في تلميحاته إلى الصراع بين الجماعات والفئات، فهو صراع مخفف لا يكون مزعجاً إلا إذا ما وُضع في سياق الصراع الطبقي، وهو ما يتم تحاشي الوصول إليه عبر الاحتماء بتفكيك المجتمع إلى جماعات وفئات... الخ.
يمكن في أي بحث أو تحليل علمي وخاصة الأكاديمي تنويم أو تحييد عامل ما من أجل التمكن من البحث بسهولة أكثر، هذا مع العلم بأن ذلك التحييد هو درجة ما من التلاعب لأجل الوصول إلى هدف أو نتيجة مقصود سلفاً الوصول إليها أو تعزيزها. من هنا، يمكن تفهم عدم حديث هؤلاء الوسطيين عن الصراع الطبقي من جانب الفئات أو الجماعات. ولكن، لا يمكن تصور غياب الدور الاستغلالي والقمعي للرأسمالية، الفرنسية في حالة هذا البحث. أي الهجوم أو الصراع الطبقي من الطبقة الحاكمة/ المالكة، ما يجعل تحييد مسألة الصراع الطبقي وخاصة من جانب البورجوازية أمراً لا يمكن تغييبه نهائياً، على الأقل بعد انتهاء البحث.
لم يتطرق المؤلف إلى المجتمع المدني الذي هو أقرب إلى التقسيمات الفئوية والجماعاتية، ومن ثم دورها سواء في ما يخص السيطرة والهيمنة من الطبقة الحاكمة/ المالكة بمفهوم مبسط لأطروحة غرامشي أو بمفهومها ومغزاها الأساسي، أي الهيمنة المقاومة التي تقوم بها الطبقات الشعبية لمواجهة هيمنة الطبقة الحاكمة/ المالكة.
رغم التناول الخفيف لثورة 1968 في فرنسا وغيرها، ورغم أنها بدأت طلابية شبابية وأخذت معناها الحقيقي من دور العمال وخاصة احتلال المصانع...الخ، إلا أن المؤلف أهمل أو غيَّب كونها متأثرة بالثورة الثقافية في الصين 1966. وقد يرتد هذا إلى قرار الكاتب عدم التعامل مع محيط النظام العالمي تماماً أو إلا لماماً.
لكن ما يتعلق ببحثه وتحاشى تناوله، هو النضال العمالي في فرنسا تحديداً ضد قرار السطو على مكتسبات ذلك النضال عبر قرون، والذي تجلى في الإضرابات الواسعة في فرنسا. وهو نضال بيَّن أن نضال الطبقة العاملة وتأثير ذلك النضال هو أوسع من حجمها مما يعطي للحجم والعدد قيمة اقل من الفعالية، يجعل للتأثير اليد الطولى وليس العدد وهذا ما يمكن أن يفتح على تحالفات فئوية أو/ طبقية.
قد يكون موضوع الجاليات والإثنيات في فرنسا هو الأمر الأكثر صعوبة على الحل بالنسبة إلى الوسطيين. فإذا كانت لعبة تفكيك أو تفكك المجتمع إلى فئات وجماعات ممكنة الحصول والإحاطة بها أو حصرها، فكيف يمكن التعاطي مع الجاليات والإثنيات، فئوياً أو طبقياً أو قومياً أو ثقافياً؟
ما هو العامل الذي يمكن أن يحسم أو يخفف العنصرية والشوفينية القومية ضد الأجانب؟ أو الأقليات؟ وما هي القوة التي يمكن أن تقف في وجه العنصرية بشكل أقوى من القوة أو التحالف الطبقي؟
طالما أن هناك تفارقاً، يمكن وجود طبقات وتحالفات بين الجماعات والفئات القريبة من الطبقة العاملة حتى لو أنه ليس طبقياً وليس دائماً وليس اندماجاً. وحين نقرأ هذا في سياق الفرنسيين أنفسهم والجاليات الأخرى، يصبح للانتماء أو المصلحة الطبقية دور أو الدور الأقوى في التجميع والمقاومة.
خلاصة القول، إن هذه الدراسة إمبريقية سوسيولوجية تتمترس أو تعلَق في برزخ المابيْن. وهي كمثيلاتها يمكن أن تحوي معطيات وأن يُبذل فيها شغل كبير في وراء أدق التفاصيل، ولكنها لا تستطيع تجميع ذلك لتغيير الواقع غير الإنساني إلى واقع إنساني، وهذه مشكلة الدراسات الوصفية.
(ملاحظة: تجدر الإشارة إلى أن الترجمة إلى العربية ترجمة جيدة)
*كاتب من فلسطين