شهدت المناظرة الجمهورية التي سبقت انتخابات نيوهامبشير التمهيدية دقائق نادرة من التشويق التلفزيوني الكاشف، قلّما تمرّ في يوميات السياسة الأميركية. بدلاً من ممارسة اللعبة التقليدية في المناظرات، حيث يشن المرشحون على بعض هجمات متوقعة ومحضرة مسبقاً، ويردّون ــــ ايضاً ــــ عبر خطابات وحجج و"قفشات" تمرّنوا على ادائها، قرّر حاكم ولاية نيوجرسي كريس كريستي أن يهاجم النجم الصاعد ماركو روبيو عبر فضح "قواعد اللعبة" نفسها وتحدّيه بأن يخرج عنها. روبيو، بعد أداء فاق التوقعات في ولاية ايوا الأسبوع الماضي، تحوّل الى أمل المؤسسة الجمهورية في تقديم مرشّحٍ "لائق" يقصي المرشّحين "المتمردين"، كدونالد ترامب وتيد كروز، الذين يتصدّرون السباق (تمّ تحضير روبيو ليكون "أوباما جمهوري": شابّ، بارع في القاء الخطابات، ابن مهاجرين كوبيين، وجمهوري "معتدل" يخضع للمؤسسة وقواعدها).
حين سئل روبيو، خلال المناظرة، عن خبرته وقدرته على قيادة بلدٍ بحجم اميركا، ردّ ــــ متجنباً السؤال ــــ عبر هجومٍ على اوباما: "يخطىء من يظن أن اوباما لا يعرف ماذا يفعل… هو يعرف تماماً ما يفعله. هو لديه برنامجٌ لتغيير اميركا، وتحويلها الى مكان يشبه باقي العالم... حين أصير رئيساً ستعود اميركا التي نعرفها، أعظم بلدٍ في العالم" (وارتفع التصفيق). هنا جاء كريس كريستي لينتقده من جديد، فإذا بروبيو يتّهم كريستي بأن ولايته كادت تفلس في عهده، وأنّ "خبرته" هي في الفشل المالي، ثمّ أعاد "مخطىءٌ من يعتقد أن اوباما لا يعرف ماذا يفعل الخ…". هنا، نظر كريستي الى الكاميرا، وقال: "أريد للمشاهدين أن يراقبوا بانتباه ــــ ثمّ أشار الى روبيو ــــ هذا ما تفعله بك واشنطن: هجومٌ شخصي في البداية يقوم على معلومات مغلوطة، ثمّ تكرار خطاب الـ 25 ثانية الذي تحفظه، والذي ينتهي بالكلام عن عظمة اميركا وروعتها". من شدّة ارتباك روبيو، وجد نفسه، كالرّجل الآلي، يعيد للمرة الثالثة، وسط ضحك كريستي وصفير الجمهور: "مخطىء من يظنّ أنّ اوباما لا يعرف ما يفعله…". هكذا هوت شعبية روبيو، ويتوقع البعض أنه لن يتعافى ويفرض نفسه من جديد. الطريف في الموضوع هو أنّ كريستي تصرّف كالانتحاري؛ حطّم حملة روبيو ثمّ أعلن بعد أيام عن خروجه من السباق، وهو لم يكن يملك فرصةً أصلا.
بعد انتخابات ايوا ونيوهامبشير، يمكن القول بأنّ "الجدّ" قد ابتدأ في الانتخابات الأميركية، ولم يعد الأمر مقتصراً على استطلاعات وتوقعات، بل على أصواتٍ ونتائج فعلية. ولهذه الأسباب، كانت مؤسسة الحزبين تمنّي النفس بأنّ "المرشحين المتمردين" (من ساندرز على الجانب الديمقراطي الى ترامب وأقرانه) سيذوون مع بدء التصويت الفعلي، وتصاعد الحملات ضدهم، وسيطرة العقل و"قواعد اللعبة" على مسار الأمور. النتائج في نيوهامبشير، التي كرّست ترامب وساندرز كاحتمالين حقيقيين للرئاسة، جعلت المؤسسة في واشنطن تشعر، للمرة الأولى، بالقلق.
غنيّ عن القول أن هيلاري كلينتون هي المرشّحة المفضلة للحزب، وقد أعلنت أكثر المؤسسات والصحف "الليبرالية" ــــ كالنيويورك تايمز ــــ دعمها لكلينتون، التي اعتقدت أنّ مسارها الى منصة الترشيح الديمقراطي سيكون سهلاً (المشكلة هي انها افترضت الأمر ذاته عام 2007، حين فاجأها السيناتور الشاب باراك اوباما). ساندرز، من جهةٍ أخرى، لا يشكل خطراً لأنه، كما يقول المعلقون في اميركا، "غير قابلٍ للانتخاب". هكذا تقول "قواعد اللعبة": هو أبيضٌ، ويهودي، ومسنّ، ومن ولايةٍ شمالية صغيرة، وله برنامج شبه اشتراكي، فمن المستحيل ــــ اذاً ــــ أن يفوز في مواجهةٍ على المستوى الوطني، ومن غير الحكيم أن ينال ترشيح الحزب الديمقراطي. ما زال الديمقراطيون يستذكرون، بنبرة تحذير، سابقة جورج ماكغافرن عام 1972: نال ترشيح الحزب بأجندة "ثورية" ويسارية "متطرفة"، فازت في الانتخابات الداخلية بين الديمقراطيين ثمّ خسر، في الانتخابات الرئاسية، 48 ولاية أمام نيكسون، في أقسى هزيمة للديمقراطيين في تاريخهم.

المشكلة هي أنّ "قواعد اللعبة" لم تعمل؛ ففاز ترامب بفارقٍ كبير في نيوهامبشير وساندرز نال ما يقارب 60 في لمئة من الأصوات أمام كلينتون. "المقلق" أكثر، بعد تفحّص الأرقام، هو أنّ ساندرز قد تفوّق على كلينتون بشكلٍ ساحق في فئة الشباب بين 19 و29 سنة ــــ بأكثر من 75 في المئة ــــ وفئة المستقلين، بل وحتى فئة النساء، التي يفترض أن هيلاري قد ضمنت تأييدها. أمّا دونالد ترامب، فهو قد فاز بـ 35 بالمئة من أصوات الولاية من دون أن يصرف تقريباً أي مالٍ على الحملة هناك، وقضى أياماً معدودة يسافر في أرجائها ويقابل الناس، بينما جيب بوش، مثلاً، أنفق أكثر من 30 مليون دولار على الإعلانات التلفزيونية في نيوهامبشير، وخيّم في الولاية لأسابيع، فنال ثلث أصوات ترامب.
القلق لدى "المؤسسة"، وحالة الارتباك لدى الإعلام والمحللين في اميركا، ليس قلقاً على مرشّح معيّن، بل على قواعد اللعبة، التي يبدو أنها معلّقة في هذا السباق. هناك دوماً مرشحون هامشيون ومرشحون "متمردون"، هذا جزءٌ من "اللعبة"، ولكن لا يفترض بهم أن يفوزوا بالترشيح. هكذا وجدت "المؤسسة" نفسها أمام احتمال انتخابات رئاسية يتنافس فيها مرشحان "لا يمكن احتمالهما": ساندرز يتوعّد المصارف بحربٍ عليها، وحرب أخرى على الأثرياء، ودورٍ متزايد للدولة وتأميمات؛ فيما ترامب يريد الغاء التجارة الحرة مع العالم. الّا أنّ الانتخابات في أوّلها، و"المؤسسة" تراهن على الزمن والمال والضخ الاعلامي، الذي سيتركز ضدّ "المرشحين المتمردين"، لقتل فرصهم. الـ "ايكونوميست" تربط بين ساندرز وترامب في تغطيتها (للإيحاء بأنّ ساندرز هو من فصيلة ترامب نفسها، وهذا ليس مديحاً) فيما بدأت الصحف "الليبرالية" بنشر مقالاتٍ تسخّف حملة ساندرز وتشرح كيف أنه من المستحيل أن يفوز في انتخابات عامة أمام أي جمهوري.
تراهن القوى السائدة في اميركا على أنّ "قواعد اللعبة" ستسود في النهاية، وقد "تتدخّل" لضمان ذلك (هناك كلام عن ترشيح متأخّر للملياردير مايكل بلومبرغ، وهو خصمٌ مثالي لهزيمة ترامب). غير أننا في انتخابات ــــ بدايتها على الأقل ــــ استثنائية؛ يكفي أن يتصدّرها "سياسي" كدونالد ترامب صرّح منذ أسابيع، في محاولة للتعبير عن الثقة بالنفس: "يمكنني أن أقف وسط الجادة الخامسة في نيويورك، وأن أطلق النار على أحدهم، ولن أخسر أية أصوات".