تذكرنا رسائل الدكتوراه في جامعة محمد بن سعود بجذور التكفير العميقة في تاريخ بعض المسلمين، بمقدار ما تنبهنا قسوة محققي السجون المصرية في الستينيات إلى دور السلطات في دفع «إسلاميين» إلى تبني التكفير منهجاً. وحين يصبح «إحياء» التكفير مطلباً أميركياً، فلا يصعب على خطاب «التحشيد» التعبوي الإخواني، ووهابية ابن تيمية، تحقيق قرارات أجهزة كارتر وريغان في دعم جهود صد الإلحاد السوفياتي و«تصدير الثورة» الشيعي الإيراني.

المفارقة التي يجب الالتفات إليها هي أن السلطة السعودية، حاملة راية التوهيب، لم تقتصر في جهودها «الدعوية» على أفغانستان والمشرق العربي تحقيقاً لهذين الهدفين، بل إن منابر واستديوهات ومواقع التكفير توسعت لتغطي سنّة العالم، وتؤثر في شريحة متزايدة منهم. النتيجة واضحة، أصبحت للتكفيريين جيوش في الدول وعلى تخومها، وبات طابخ التكفير يخافه. فمن المعبّر أن يخشى أمراء «السعودية» وهابية «داعش» و«النصرة»، ويشاركوا في قصفها بطائراتهم. ولو كانت البيئة الفكرية العربية سليمة، لأدى هذا الأمر إلى انقلاب في الحسابات المذهبية والسياسية في بلاد المسلمين.
أصبحت للتكفيريين
جيوش في الدول وعلى تخومها

لكن التحريض العنصري ما زال كثيفاً في أرياف «الاعتداليين» ومدنهم. ومن يتابع صحف «الاعتدال»، بوتيرة يومية، يستنتج مستوى «التردي/ التآمر» في هذا الإعلام. هؤلاء يكتبون على الشكل التالي:
المرحلة الأولى: تقرأ لفلان وعلّان، تحليلاً حول موضوع من مواضيع «الممانعين والمقاومين». وتجد فيه وهناً في المنطق وغياباً في الأدلة. فلا يهم الكاتب سوى الانتقاد للانتقاد.
المرحلة الثانية: تقرأ لهؤلاء أنفسهم، وتجدهم يحتفون بما نقلته صحيفتهم قبل أيام حول تصريح «ممانع» (على الأرجح لم يثبت، أو أخذ إلى غير معناه)، أو تصريح «غربي» (قد لا يعني شيئاً في الواقع)، يدعم أو يؤيد ما يذهبون إليه من «تحليلات». وسريعاً ما يطرحون نظرية تشكل صدمة للمفاهيم المنطقية، مثلاً: ربط جريمة بمن لم يرتكبها؛ اختراع جريمة «للممانعين» أو الأخصام؛ ربط حركات إرهابية «بالممانعين» أو الدول الخصم... هذا في وقت تكون الدولة، التي يحمل «الكاتب» جنسيتها الوطنية أو «السياسية»، هي أساس وأصل دعم هذه الحركات.
المرحلة الثالثة: يصدّق هؤلاء كذبتهم، بل تصبح مسلّمة، وخارج النقاش. ونصبح أمام لوحة ربط نزاعات وعلاقات سوريالية. فالمهم هو تنزيه المجرم، وتقديم الأسباب التخفيفية لأخطاء «المعتدلين»، ووسم الأخصام بتهم المذهبية والطائفية والاجرام. هناك أخطاء لدى المحور المقابل للأميركيين وأتباعهم في المنطقة، لكن هؤلاء عاجزين عن وصفها بدقة، لأن الدقة لا تفيدهم، أو هم عاجزون عن ممارستها في عشوائياتهم النصية التحريضية الموجّهة.
المرحلة الرابعة: تتناسل «الأكاذيب» من بعضها البعض. فالمفارقة انك تلاحظ انتشاراً أفقياً وعمودياً لهذه «الأكاذيب» باعتبارها مسلّمات في كثير من كتبة صحف ومنابر عربية، وأحياناً غير عربية. هناك شبكة من تلاقح/ توارد أفكار غير دقيقة وتعميمية، وسبب ذلك أمران: الأول هو استراتيجية الصمت المقدّس الممانعة غير الذكية في إعلام اليوم، والثاني هو الأمية الثقافية وضعف معدلات القراءة والاطلاع عند شريحة واسعة من الكتبة ومتابعيهم.
المرحلة الخامسة: تبدأ الأكاذيب بالتداعي لأنها أكاذيب، لكن بعد ماذا؟ بعد أن حرضت عائلات بكاملها وصلت إليها كتابات هؤلاء لا بفعل القراءة، بل بفعل التكرار «المقيت» من قبل إعلاميين ومنابر مساجد تفوح من معتليها «العنصرية» وعدم الاختصاص. وهذا التحريض يزوّد «داعش» بـ 300 مقاتل في اليوم الواحد، والمزيد قادم في غياب معالجات لخطاب «المظلومية» المبالغ فيه. تتداعى «الأكاذيب» في حرب نفسية سوداء قد تنجح تكتيكياً، لكنها تفشل استراتيجياً. هذا يصنع الاحباط، وهذا ما يغيب عن بال متكسّبي مقالات «الحرام الفتنوي».
المرحلة السادسة: وهذه مرحلة فيها استشراف، وهو عمل مغامر. فسياسة النفس الطويل الإيرانية، وسياسة الحرب النفسية البيضاء «للمقاومين»، ستنجح في النهاية. ومن ينتصر في النهاية سيكتب التاريخ، رغم أن محور المقاومة ليس مهتماً بالتأريخ لنفسه بمقدار ما ليس مدركاً، حتى الآن، لمستوى خطورة الإعلام الجريء والناطق. بمقدور مقاومي المشرق العربي ــ الإيراني أن يعززوا مكاسبهم الاستراتيجية، بل والتكتيكية، عندما يخصصون موارد إضافية للخطاب المكتوب والمسموع والمرئي والافتراضي المحترف، ويتخلون عن «موجب التحفظ» في الكلام.
* أستاذ جامعي