هناك إدراك متنام بإن العالم القديم حيث المركزية الأوروبية والهيمنة الاميركية، بدأ بالانحسار مفسحاً المجال للبلدان الناشئة بالصعود بخطى ثابتة نحو المركز. في عام 1988 توقّع بول كينيدي في كتابه الشهير «صعود وسقوط القوى العظمى» انهيار الهيمنة الاميركية، اذ افترض ان «القوى العظمى تتمادى كثيراً في نشاطها العسكري، ما يوقعها في مشكلات اقتصادية خطيرة عندما يأخذ اقتصادها بالتراجع.
وقد كان هذا بمثابة المقتل لدى قوى عظمى سابقة». بناء على تحليل كينيدي كان من المفترض ان تطرح اليابان كدولة مؤهلة لخلافة الولايات المتحدة اعتماداً على حقيقة ان قوتها الاقتصادية ليست مثقلة بالتزامات عسكرية. بعد بضع سنوات على تحليل كينيدي لم يكن هناك من يطرح اليابان لخلافة الولايات المتحدة.
في الواقع لا تفسر التغييرات التي تصيب النظام الدولي بتدهور الاوضاع الداخلية لدولة الهيمنة. في الاقتصاد الدولي ترد التحولات الى التراكم، وهو محرك النظام، الذي يعمل عبر السوق العالمية. وهذه هي النقطة التي ينبغي الاعتماد عليها في تحليل صعود البلدان الناشئة.
تبيّن الاسقاطات المحتملة (غولدمان ساكس) للتوجهات الحالية للاقتصاد العالمي، ان خلال عشرين عاماً سيتجاوز الاقتصاد الصيني الاقتصاد الاميركي بالناتج المحلي الاجمالي، وبعد ذلك بعشر سنوات سيتبوأ الاقتصاد الهندي المرتبة الثالثة، لتصبح الولايات المتحدة البلد الوحيد من بين أكبر ست اقتصاديات على مستوى العالم في العقود المقبلة.
امتلاك الصين والهند لأكبر سوقين للمستهلكين في العالم قد أصبح وشيكاً

وبحسب تحليلات (URI Dadush and William Shaw) لاقتصاديات مجموعة العشرين، ستتفوق ست بلدان ناشئة هي: الصين، الهند، البرازيل، أندونيسا، والمكسيك على بلدان بلدان مجموعة السبعة من حيث اجمالي الناتج المحلي. ويتوقع الباحثان حدوث تغيير في دول الثالوث المهيمنة على الاقتصاد الدولي، بحيث تصبح الولايات المتحدة، الصين والهند دول الثالوث الجديدة (i ).
نحن نشهد تحولاً في القوة الاقتصادية على المستوى العالمي، لم يعد الغرب يقود الاقتصاد الدولي في مجال تراكم رأس المال، ونتيجة لذلك بدا يفقد تدريجياً سيطرته على الاستثمار والتمويل العالميين. هناك مؤشرات أخرى تدل على حدوث «تحولات هيكلية» في الميزان العالمي للقوة الاقتصادية. فالغرب لا يخسر سيطرته التقليدية على اسواقه الداخلية فحسب، بل ان امتلاك الصين والهند لاكبر سوقين للمستهلكين في العالم قد اصبح وشيكاً. ولأول مرة في تاريخ الاقتصاد العالمي ستكسر البلدان الناشئة العلاقة السببية بين الحجم الاقتصادي الكبير ومعدل الدخل الفردي. ففي وقت ستصبح من الاقتصاديات الكبرى، فإنها لن تصبح في عداد البلدان الغنية. لكن آلية التراكم تعمل لمصلحتها.


كيف تلحق بالمركز؟

بعكس ما توقعه كينيدي لإخفاق الهيمنة، تنطوي الهيمنة على ابعاد تتجاوز مجرد الزعامة السياسية. فهي تعمد الى اشاعة الافكار الليبرالية التي تساهم بدورها في الافول التدريجي للهيمنة. «فالانفتاح الواسع في مناخ الليبرالية يمكّن القوى المنافسة من استنساخ منجزات التقدم التقني لنفسها لترقي من كفاءتها الانتاجة كي تضاهي انتاجية القوى المهيمنة. وهنا يبدأ الاضمحلال بداية في مجال الانتاج ثم في احوال التجارة والمال للقوة المهيمنة».
لكن الامور لا تحصل ببساطة، هنا إما ان تستغل المناخ اليبرالي «للحاق» بالمركز، واما ان يُخلَع اقتصادك في حال لم تتبع استراتيجية تنموية ملائمة لاقتصادك ومتناسقة مع الاقتصاد الدولي. في حالة البلدان الناشئة، صممت هذه البلدان قواعد تنموية وفق مبدأ واضح: تحرير التصدير ينبغي ان يسبق تحرير الاستيراد. واتجهت نحو الاعتماد على تصدير الصناعات التحويلية. تعلمت هذه البلدان ان المشاركة في «سلاسل القيمة» هو افضل وسيلة للتعلم وليس «استراتيجية احلال الواردات». من خلال «سلاسل القيمة» بدأت بالتصدير الصناعي لمنتجات معقدة من دون ان تمتلك القدرة على الابتكار والتصميم. ببساطة تعلمت كيف تنتج منتجات مشابهة، والاهم تمكنت من الوصول الى الاسواق العالمية.
لم تتبع العولمة مبدأ واحداً يسري على الجميع، اذ استطاعت هذه البلدان ان تتحاشى فخ بلدان النمور الآسيوية التي قدمت نموذجاً زائفاً «للحاق». لقد اقتصرت معجزتها «بمجرد معدلات عالية جداً من الاستثمار الاجنبي وزيادة مرة والى الابد على نوعية وكمية العمل الصناعي، بينما كانت القطاعات التقليدية غير التجارية تنسحق والتعليم الثانوي يتعمم لأول مرة». هكذا لم تكن تدفقات الاستثمار الاجنبي تعزز الانتاج الفعلي او تصدير الصناعات التحويلية. في حالة البلدان الناشئة، (الصين والهند بشكل خاص)، نجد امراً مختلفاً تماماً. لقد كان الانخراط النشيط في العولمة النيوليبرالية مراقباً بدقة، واستطاعت هذه البلدان النجاح «بمقدار ما استطاعت اخضاع روابطها الخارجية لمتطلبات تنميتها الداخلية اي بمقدار ما رفضت التكيف للاتجاهات المسيطرة عالمياً».
لم تنصع لمبادئ توافق واشنطن «فاللحاق» لا يتم الا «بالتحكم» وهي العبارة النقيضة للتوافق. لم تعد الاسواق كلية القدرة ولا تسد منافذ كل الخيارات امام الدولة. هكذا بدأت هذه البلدان سياسة الانفتاح الاقتصادي، فقد اصرت حكوماتها، بناء على ما تعلمته من الازمات المتتالية، على ان الانخراط في العولمة النيوليبرالية لا يتم الا مع بقاء الحكومة صاحبة السيادة. «ومن لا يسير على خطى هذه السياسة فإنه يبقى في الخارج». وحتى لا يكون «الانخراط» هدفاً بذاته وضعت الحكومات شروطاً دقيقة للاسثمارات الاجنبية. فإن تمتلك اقتصاد متقدم لا يمكنك الاكتفاء بمجرد الاعتماد دائماً على تشغيل عمالة لامتناهية بأجور زهيدة (الصين والهند)، وانما استغلال هذه الميزة لجذب الاستثمارات للحصول على وفرة من الرساميل تستثمرها في تطوير البنية التحتية ولتأسيس شركات عبر وطنية. والاهم من ذلك توسيع الاسواق المحلية عبر خلق اعداد متزايدة من الطبقة الوسطى لضمان استيعاب نسبة متزايدة من الانتاج.


طبقة وسطى عالمثالثية

لا يرتبط انحسار الغرب بانتقال الانتاج الى البلدان الناشئة، بل ايضاً بتنامي طبقة وسطى عالمثالثية مقابل انحسار الطبقة الوسطى في الغرب. يسكن، حالياً، حوالى 24 في المئة من اجمالي الطبقة الوسطى العالمية في البلدان النامية وتحديداً الناشئة. ويتوقع ان تصبح النسبة 50 في المئة بحلول العام 2030، وحوالى 60 في المئة عام 2050.
في عام 1992 رسمت باربارا أهرانزايش في كتابها «الفزع من السقوط، أزمة الطبقة الوسطى»، صورة الفزع المهيمن على الطبقة الوسطى الاميركية حينها. بعد عقدين من الزمن تعيش الطبقة الوسطى الغربية عموماً حالة من الفزع. فهي لم تخسر فقط مقادير من ثروتها، بل لم يبق لها من الثروة سوى جزءاً يسير أمسى المصدر الذي يقتاتون منه في هذه الايام العصيبة. انتهى عالمها الهادئ، بدأت تتضاءل وتختفي تدريجياً مفسحة في المجال لبروز طبقة وسطى عالمثالثية، لتكون رافعة الاقتصاد العالمي.
ما وصلت اليه الطبقة الوسطى في الغرب نتيجة لا مناص منها للتحولات الهيكلية التي يشهدها الاقتصاد العالمي. والمفارقة ان هذه التحولات التي بدأتها حكومات البلدان المتقدمة منذ السبعينيات بتبني الاصلاحات النيوليبرالية لم يعد بالامكان ايقافها. «يخدع نفسه من يظن أنّ انتخاب الاحزاب الصحيحة في الغرب سيعيد وبقرار سياسي الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي الى تلك البلدان، فليس هناك مجال للعودة الى عصر الستينيات». حتى الخيارات المحافظة مثل الانكفاء والحلول الحمائية لا تتعدى كونها حلولاً سياسية لا تتجاوز مستوى الدولة نفسها، من دون ان تؤثر في آليات التراكم على المستوى العالمي.
هكذا يتضح أن المشروعات الاقتصادية الكبرى التابعة للاقتصاديات المتقدمة، حتى وان كسبت من العولمة لن تستطيع اعادة توطين إنتاجها او ان تشغل يداً عاملة اضافية في وطنها الام. فالتوظيف في بلدان مثل الصين والهند واندونيسيا يضمن لتلك المشاريع الحفاظ على قدرتها التنافسية واقتطاع حصة متزايدة من الاسواق العالمية. قرار الرأسماليون لا يؤخذ عبثاً، فالضغوط التي تواجهها المشروعات وقياداتها تتأتى من الاسواق العالمية، وحتى أسواقها المحلية لم تعد مغلقة امام منتوجات الشركات الكبرى المنافسة.
يصطدم المجتمع الغربي كثير الرغبات بالمجتمعات الناشئة الطموحة والمضحية. قامت البلدان الناشئة، تحديداً الصين والهند، بتهيئة عقلية مناسبة للنمو يساعدها في ذلك «انخفاض المستوى المعيشي للسكان، فهؤلاء لا يتطلعون الى دخول عالية. أضف الى ذلك ان تلك البلدان لم تكن حتى الآن في حاجة الى تأمين اجتماعي، ذلك لان الترابط العائلي لا يزال متماسكاً هناك». في المقابل يتساءل الكثيرون في الغرب، حول اذا ما كانت العولمة النيوليبرالية تعمل لمصلحتهم، يتنامى لديهم الادراك بأنهم لا يشاركون فوائد الفترة الحالية للنمو الاقتصادي. باختصار لم تعد تتوافر لديهم القدرة على تربية اطفالهم وهم واثقون بأن مستقبلهم سيكون افضل مما عاشه اباؤهم. لقد فتحت لهم العولمة باب المستقبل بالعودة الى الماضي السحيق للرأسمالية. وهو ماض يصعب التحكم به. فحتى احزابهم اليمينية لن تجد من الحلول ما يوقف التحولات الحاصلة في آليات التراكم.


خاتمة

ثمة امران لا يمكن تجاوزهما في الاقتصاد الدولي الذي نحيا بظله. يعتمد هذا النظام على التفاوت بوصفه جزءاً رئيسياً من أدائه، لذلك اية استراتيجية تنموية ناجحة انما تقلل من فرص نجاح الدول الاخرى. من ناحية ثانية يتطلب الانتقال من اشباه الاطراف الى المركز مئة عام من الأداء الاقتصادي الجيد ومئة عام من النمو السكاني البطيء. من بين الدول الناشئة تبدو الصين والهند اكثر قدرة على الانخراط والاستفادة من التوسع الراسمالي الحالي. لكنهما في سعيهما للحاق يعجزان عن تصور مستقبل مختلف عن الحداثة الاستهلاكية بنسختها الاميركية. هل يستطيع الكوكب بإمكانته المحدودة استيعاب عملاقين بـ 3 مليارات نسمة يطمحون لحياة أميركية. يبدو ان العالم يتحطم بقدر ما هو يتغيير.
* باحث لبناني

مراجع

(i)
URI Dadush and William Shaw, JUGGERNAUT How Emerging Markets are reshaping globalization, Carnegie Endowment for international peace, Washington DC ,2011